Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-May-2019

هذه الأرض لنا.. تغيُّر المشهد الطبيعي الفلسطيني في مرآة التاريخ

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

رجا شحادة* – (نيويورك تايمز ريفيو أُف بوكس) عدد كانون الثاني (يناير) 2018
في الفترة بين العامين 1922 و1925، تجول عمي الكبير، الصحفي نجيب نصار، على ظهر حصان في أنحاء فلسطين الانتداب والأردن؛ البلد الناشئ حديثاً آنذاك شرق النهر. ونشر ملاحظاته في سلسلة من الرسائل في “الكرمل”؛ الصحيفة الأسبوعية التي كان يحررها في حيفا. وفي عدد من تلك الرسائل، عبر نجيب عن مخاوفه إزاء مصير المزارعين الفلسطينيين، خاصة في شمال البلاد، حيث كان مُلاك الأراضي من العرب الغائبين يبيعون حيازاتهم الكبيرة لمؤسسات جديدة تابعة للحركة الصهيونية المتبرعمة.
خلال رحلاته شمالاً من جنين إلى الناصرة، اقترح نجيب أن الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية كان في جوهره اقتصادياً. في شمال فلسطين، كان لبنانيون أثرياء يملكون قرى بأكملها. وبدءاً من أواسط القرن التاسع عشر، عملت سلسلة من التطورات القانونية في الإمبراطورية العثمانية -التي حكمت فلسطين حتى العام 1917- على تمكين نمو تلك الحيازات الكبيرة للأراضي. وتضمنت تلك التطورات إصدار قانون الأراضي العثماني للعام 1958، الذي حاول القضاء على نظام المشاع؛ حيث كانَ يُحتفظ بالأرض بشكل مشترك، وطلبَ من المزارع، الذي يتحول إلى مالك، أن يقوم بتسجيل أرضه لدى موظفي الخزينة. وكان هناك شيئان يثنيان المزارعين عن القيام بذلك: الرغبة في تجنب دفع الضرائب عن أراضيهم؛ وحقيقة أن تسجيل الأرض كان يتم في مراكز حضرية بعيدة، مثل بيروت ودمشق.
لم تكن لتلك التطورات أي علاقة بالمشروع الصهيوني. كان القصد منها ببساطة هو المساعدة على تطبيق أسلوب أكثر مركزية وعقلانية لجمع الضرائب. وفي الأجزاء الجبلية من فلسطين؛ حيث كانت الأرض مزروعة بشكل رئيسي بأشجار الزيتون والفاكهة، كانت الحيازات صغيرة ولم يغيِّر وصول الصهاينة الكثير في وضعها. ولكن في المناطق المنبسطة والأودية الصالحة للزراعة، حيث المياه متاحة بسهولة أكبر، سعى الصهاينة إلى حيازة الأرض. وسرعان ما شرع مُلاك العقارات اللبنانيون -عائلات سرسق وتويني وخوري- في بيع حيازاتهم في مرج بني عامر (الذي يُسمى الآن وادي يزرعيل).
كان لمُلاك الأراضي الإقطاعيين هؤلاء قليل عناية بدعم المؤسسة الصهيونية: كانوا غير معنيِّين بالاستعمار. لكن الأرباح التي يجنونها من أراضيهم كانت في تراجع، ومحاصيل القطن التي زرعوها كانت تفشل. وكانوا يستثمرون في مشاريع رأسمالية كبيرة في مصر ولبنان، مثل شركة قناة السويس والميناء في بيروت، واحتاجوا إلى السيولة النقدية. وتنبأ نجيب: “عن طريق بيع كل ما يمتلكون في هذا السهل، سوف يسهم مُلاك الأرض هؤلاء في محنة البلد، والتي ستنشأ من إقامة مملكة يهودية”.
تواصلت العمليات القانونية التي كان قد بدأها العثمانيون في السنوات التي أعقبت انتهاء حكمهم -أولاً بالاحتلال العسكري البريطاني لفلسطين من العام 1917 إلى العام 1922، ثم عندما منحت عصبة الأمم البريطانيين الانتداب على فلسطين من العام 1922 وحتى 1948. وخلال كلتا الفترتين، واصل البريطانيون مراجعة قوانين الأرض بهدف جعلها أكثر قابلية للتسويق والتبادل وتسهيل بيعها للصهاينة. ومن بين الشخصيات البريطانية التي وفرت أفكارها الأساس لسياسة الأرض البريطانية في فلسطين، كان السير إيرنست داوسون، الذي اعتقد بأن ما يحتاجه الفلاح الفلسطيني كان “حصر وتقسيم الحقول المشتركة”.
“تطويق” الأراضي الفلسطينية
في كتابه “التطويق: الأراضي الفلسطينية في مرآة تاريخية” Enclosure: Palestinian Landscapes in a Historical Mirror، يُعرَّف المؤلف غاري فيلدز Gary Fields التطويق (فرز الأراضي وتحويلها إلى قطع) بأنه “ممارسة أسفرت عن تحويل الأرض من مجموعة من الناس إلى أخرى، وتأسيس مساحات ليس لها مالكون من الأرض في المشهد الطبيعي”. وكانت نية داوسون هي خلق كُتل منفصلة من الأملاك، والتي يمكن مسحها وتسجيلها لدى سلطة الأراضي التابعة للانتداب. كما سعت سلطات الانتداب أيضاً إلى إلغاء نظام المشاع. وكان المسؤولون البريطانيون مقتنعين بأن نظام تطويق الأراضي المشتركة، والذي تم تطبيقه مسبقاً في إنجلترا، جلب “التحسن” و”التقدم” هناك، وسعوا إلى تكرار النموذج نفسه في فلسطين.
شكلت هذه السياسات البريطانية انتصاراً للحركة الصهيونية. وجعلت من الممكن أن يُباع المزيد من الأراضي الفلسطينية لليهود الصهاينة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الكثيرين عرضوا مبالغ مربحة مقابل الأرض، لم يقع كل أصحاب الأملاك تحت إغراء البيع. وفي بعض الأماكن، كما كتب نجيب، كان مُلاك الأرض يقومون بإنشاء مدرسة زراعية ويزرعون المزيد من أشجار الزيتون للوقوف في وجه التعدّيات. ورفض ما يكفي من الفلسطينيين البيع، بحيث انتهى المطاف بالصهاينة وهم يمتلكون القليل من الأرض. وكان الكاتب والمربي الفلسطيني، خليل السكاكيني، مفتشاً للتعليم في فترة الانتداب البريطاني. ووصف في مذكراته رحلة قام بها في كانون الأول (ديسمبر) من العام 1934:
“إذا كان لدى اليهود عدد قليل من المستعمرات البائسة، فإن لدى العرب آلاف القرى. لقد سافرنا من القدس إلى الخليل إلى بئر السبع إلى غزة إلى خان يونس إلى المجدل إلى اللد إلى قلقيلية إلى طولكرم ومررنا عبر أراضٍ عربية فقط. إن ما يملكه اليهود هو لا شيء مقارنة بما يملكه العرب في فلسطين”.
ولم تكن ملاحظاته بعيدة عن الحقيقة. بحلول العام 1949، بعد عام من تأسيس دولة إسرائيل، كان ما لا تتجاوز نسبته 13.5 في المائة فقط من أراضيها تحت الملكية اليهودية الرسمية، والتي يملكها إما أفراد عاديون أو الدولة.
خلال مسار الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1948، فر نحو 750.000 فلسطيني من القتال أو تم إجبارهم على الخروج من أراضيهم. وفي العام 1950، أصدرت إسرائيل قانوناً يصنف تلك الأراضي بأنها أملاك “غائبين”، ومن خلال سلسلة من التدابير القانونية الأخرى قامت بتحويلها ليستخدمها السكان اليهود الإسرائيليون. ولكن، بقيت تجمُّعات كبيرة من الأراضي -في الجليل، وشمال إسرائيل، والنجف في الجنوب- والتي ما يزال يملكها الفلسطينيون الذين ظلوا في إسرائيل وأصبحوا مواطنين إسرائيليين. وفي تلك المناطق، كان الفلسطينيون ما يزالون يفوقون اليهود الإسرائيليين عدداً بشكل كبير في العام 1950. ووجدت الدولة الجديدة نفسها في مواجهة مسألتين: كيف يمكن “تهويد” هذه المناطق؛ وكيف يتم تحويل معظم الأراضي هناك إلى اليهود الإسرائيليين.
كما يُبيِّن غاري فيلدز، استخدمت الحكومة الإسرائيلية أساليباً لتحقيق هاتين الغايتين لا تشبه تلك التي استخدمتها في الضفة الغربية بعد حرب الأيام الستة في العام 1967. في تلك المناطق، كانت مُلكية الأرض مسجّلة كأوصاف مكتوبة فقط، مثل أن قطعة أرض معينة يحدُّها طريق من الشمال، ومن الجنوب يحدها جُرف. ولم تعترف الحكومة الإسرائيلية بمثل هذه الأوصاف كسجلات صالحة للمُلكية. وفي الجليل، كما يكتب فيلدز، تم إجبار الفلسطينيين على أن يثبتوا، من خلال الوثائق، أنهم المالكون القانونيون للأرض. وكتب:
“الفلسطينيون الذين كانت لديهم حقوق امتلاك أراضيهم على أساس الفكرة العثمانية المتعلقة باستمرار الإشغال والاستغلال بالزراعة لم يكونوا قادرين، بدون استثناء، على الوفاء بهذه المتطلبات. ونتيجة لذلك، تم تحويل أراضيهم إلى فئة أملاك الدولة. وأصبحت أملاك الدولة المخصصة حديثاً هذه هي الأساس للاستيطان اليهودي”.
وسائل الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية
على مدار العقدين الماضيين، تم الاستيلاء على معظم الأراضي التي استُخدمت لإقامة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية على أساس أنها تعود للدولة. وقد مكن هذا التكتيك القادة الإسرائيليين من الزعم بأن دولة إسرائيل لا تصادر الأرض من الفلسطينيين لبناء المستوطنات.
بدأت الدولة في استخدام هذه الحيلة القانونية بشكل جدي فقط بعد العام 1982. وحتى ذلك الحين، كانت السلطات تستولي على الأرض من أجل الاستيطان بشكل أساسي عن طريق مصادرتها لأغراض عسكرية. وتم الاستيلاء على نسبة أصغر من الأرض عن طريق إعلانها أملاك غائبين أو منطقة كانت تمتلكها سابقاً الحكومة الأردنية. وبحلول العام 1979، عندما قمتُ بتأسيس منظمة “الحق” مع عدد من المحامين الآخرين لخلق تحديات قانونية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كانت إسرائيل قد حازت السيطرة على نحو 30 في المائة من الأرض في الضفة الغربية. لكن هذه الحيازات كانت في معظمها متفرقة وتفصل بينها قطع الأراضي ذات المُلكية الخاصة، مما جعل معظمها غير مناسبة للبناء الاستيطاني.
كان حول ذلك الوقت حين كنتُ أقود سيارتي إلى تل أبيب ومررت بأرض فرنسوا ألبينا في القدس، وهو واحد من زبائني. واستطعت أن أرى المنازل المتنقلة وهو تُجلَب إلى هناك. وعندما عدت في المرة التالية إلى الموقع رأيت مجموعة من تسعة منازل، والتي تطورت لاحقاً لتصبح مستوطنة بيت هورون. في ذلك المساء كتبت في مذكرتي أن ما بُني على عجل على هذا النحو يُمكن أن يُزال بنفس السرعة. وكان ينبغي أن أعرف أفضل. لقد رأيت الخطة الرئيسية للاستيطان التي رسمها المجلس الإقليمي اليهودي في الضفة الغربية، بالتعاون مع “وحدة الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية”. وحسب هذه الخطة، كان من المقرر توطين 80.000 يهودي إسرائيلي في الضفة الغربية بحلول العام 1986 في 23 مستوطنة و20 بؤرة استيطانية. وأعلن آرئيل شارون، الذي كان في ذلك الحين وزير دفاع إسرائيل: “سوف نترك خريطة مختلفة تماماً للبلد والتي سيكون من المستحيل تجاهلها”.
وضع الوصي على أملاك الغائبين أرض ألبينا تحت تصرف اليهود بعقد إيجار طويل الأجل، لأنها اعتُبرت أملاك دولة. وعندما أثبتُّ أمام محكمة إسرائيلية أن الأرض ملكية خاصة لألبينا، قرر القاضي أن التحويل كان “في الواقع قياسياً، قوياً ومُلزماً على الرغم من حقيقة أننا استنتجنا في رأينا أن ملكية الأرض المذكورة تعود للمستأنِف”.
استند القضاة الإسرائيليون في هذا القرار المتناقض بغرابة إلى المادة 5 من الأمر العسكري رقم 58، والذي بموجبه يكون “أي تحويل يتم بحسن نية بين الوصي على أملاك الغائبين وأي شخص آخر، فيما يتعلق بممتلكات يعتقد الوصي عندما دخل في الصفقة أنها ستكون أملاكاً مهجورة، لن يكون باطلاً وسيظل ساري المفعول حتى لو تم إثبات أن الأملاك لم تكن مهجورة في ذلك الوقت”. ولم يكلف القاضي الذي ترأس الجلسة نفسه عناء السؤال عن كيف يمكن للوصي أن يعتقد “بنية حسنة” أن أرض ألبينا كانت مهجورة. كان لدى الوصي، بعد كل شيء، حق الوصول إلى السجل العقاري للمنطقة، الذي صادره الجيش الإسرائيلي بعد الاحتلال مباشرة. وهناك نص معمم بتاريخ 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1949، والذي قيَّد الوصول العام إلى سجلات الأراضي. وما يزال الاطلاع على هذه السجلات محظوراً بالنسبة لمعظم الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل في الضفة الغربية.
بعد وقت قصير من حكم المحكمة ضد ألبينا، جاء ممثلان من مستوطنة عوفرا غير القانونية -التي تأسست بشكل رئيسي على أراضٍ فلسطينية خاصة- لمقابلتي في مكتبي للمحاماة في رام الله. وأرادا أن أقوم بتسجيل شركة محلية لهما في الضفة الغربية. وعندما رفضتُ، جُن جنونهما. “لمَ لا؟ إننا نجلب التقدم إلى المنطقة. هل تريد أن تقول أنك ضد ذلك”؟ وأجبتُ بأن معظم الفلسطينيين يشعرون كما أفعل ولن يقبلوا بأي شيء تكون له أي علاقة بالمستوطنين. وكان ردهما: “ولكن لماذا؟ إننا لا نجردكم من أي شيء. كلما زادت المستوطنات كلما زاد التقدم. كيف يمكن أن يكون هذا سيئاً لكم؟”.
استمرت قضية ألبينا، التي بدأت في العام 1979، في سير متعثر بطيء لسنوات عدة. وخلال تلك الفترة، حدث تغيير في الأسلوب الأساسي الذي تستخدمه الحكومة الإسرائيلية للاستيلاء على الأرض وبناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. شرعنا في رؤية حالات أقل من الاستيلاء على الأرض لأغراض عسكرية والمزيد من الحالات مثل حالة ألبينا، حيث يتم إعلان الأرض أملاكاً للدولة. وحدثت القضية التي فرضت هذا التحول في الاستراتيجية في العام 1979 وتركزت على مستوطنة تُدعى إيلون موريه.
يوم 7 حزيران (يونيو) 1979، ومن قمة تل داخل حدود قرية روجيب، على بعد 1.5 ميلاً إلى الشرق من طريق القدس-نابلس السريع، شاهد مصطفى دويكات وستة عشر شخصاً آخرون والذين يمتلكون 125 دونماً من الأرض (حوالي 31 هكتاراً) بداية “عملية استيطان”. بمساعدة من طائرة عمودية ومعدات ثقيلة، كان يجري إنشاء طريق تمتد من الطريق السريع إلى قمة التل. وكان رئيس هيئة الأركان قد أعطى موافقته يوم 11 نيسان (أبريل) على الاستيلاء على المنطقة لأغراض عسكرية. ويوم 5 حزيران (يونيو)، وقَّع العميد بنيامين بِن إليعازر، القائد العسكري للضفة الغربية، أمر الاستيلاء، والذي خصص منطقة تبلغ مساحتها حوالي 700 دونم وقال أنه “تم الاستيلاء عليها لأغراض عسكرية”.
قدم أصحاب الأرض السبعة عشر التماساً إلى محكمة العدل الإسرائيلية العليا. وخلال المحاكمة، قدم محاميهم شهادة خطية موقعة من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، حاييم بارليف، والتي دحض فيها الزعم بأن المستوطنة تساهم في تعزيز أمن إسرائيل. وإذا كان ثمة شيء، فإنها تعيق العمليات العسكرية. ففي حالة نشوب حرب، كما شهد، قد يجد الجيش نفسه مضطراً إلى حماية المستوطنة المدنية الإسرائيلية بدلاً من محاربة العدو. ومن جانبهم، قدم المستوطنون إفادة خطية موقعة من مناحيم فيليكس، الذي أكد نيابة عن “غوش إمونيم”، الرواد الأوائل للاستيطان في الضفة الغربية، أن “مستوطنة شعب إسرائيل في أرض إسرائيل هي المملكة الأكثر فاعلية وأفضل عمل أمني”. ثم خلص إلى القول: “لكن الاستيطان نفسه لا ينبع من أسباب أمنية أو حاجات مادية، وإنما يستمد القوة من قدَر عودة الإسرائيليين إلى أراضيهم”.
لم تقبل المحكمة الإسرائيلية إفادة فيليكس. ولم تقبل بشهادة بارليف أيضاً؛ لكن محامي الفلسطينيين نجحوا، للمرة الأولى والأخيرة، في إبطال إقامة مستوطنة. وفي حكمها، قالت المحكمة أن الحكومة العسكرية لم تستطع أن تقدم حقائق تدعم الحاجات العسكرية التي تكون مصممة في البداية لتستمر حتى بعد إنهاء الحكم العسكري في منطقة معينة، عندما لا تكون معرفة مصير المنطقة بعد انتهاء مثل هذا الحكم معروفة بعد.
بعد ذلك الحكم، اعتمدت الحكومة أقل بشكل ملحوظ على الاستيلاء العسكري على الأرض. وأصبح الأسلوب الأساسي للاستيلاء على الأراضي من أجل البناء الاستيطاني منذئذٍ فصاعداً هو إعلان أنها أملاك دولة. ولتحديد أي أراضٍ يمكن تصنيفها كذلك، قدر مسح عسكري أجري في العام 1979 أن 1.53 مليون دونم من الأرض في الضفة الغربية تفتقر إلى الملكية المسجلة؛ أو أنه تم تسجيلها، كما في الجليل، بوصف مكتوب فقط.
خطر المستوطنات
عندما سافرتُ إلى الولايات المتحدة في العام 1985 لترويج كتابي “قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية”، تحدث عن المستوطنات والخطر الذي تشكله على حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ووجدت أن الكثيرين من أفراد الجمهور مقتنعون بما كان قد قاله لهم الدعائيون الإسرائيليون: أن المستوطنات ضرورية لأمن دولة إسرائيل. وكنتُ أذكِّر مستمعيّ بتصريح بارليف، لكن معظمهم ظلوا يقبلون بتبرير إسرائيل الأمني لبناء المستوطنات. والآن وقد أصبح احتلال الضفة الغربية في سنته الخمسين، لم تعد الحكومة الإسرائيلية تستخدم هذا التبرير. ويزعم قادة المستوطنات ومسؤولو الدولة اليوم بأن هذه أرضهم التي منحها لهم الله.
لا ينطبق هذا التبرير التوراتي فقط على ما تصنفه إسرائيل كأملاك عامة. إنه ينطبق أيضاً على الأراضي الخاصة المملوكة للفلسطينيين. ووفقاً لفيلدز، وثق تقرير لتاليا ساسون من مكتب المدعي العام الإسرائيلي عمليات مصادرة منهجية للأراضي الفلسطيني الخاصة على يد المستوطنين الذين أسسوا، بمساعدة من مسؤولين متواطئين في الحكومة، بؤراً استيطانية غير مرخصة على تلك الأرض… والتي مُنحت في وقت لاحق الوضع القانوني كمستوطنات رسمية.
لم يتم فعل أي شيء لتصحيح هذا الخطأ وإعادة الأرض إلى أصحابها المسجلين. وتغلَّب تبرير مناحيم فيليكس للاستيطان اليهودي المستند إلى سلطة التوراة على قانون الأرض العلماني.
السياق الأوسع لـ”التطويق” الاستعماري
تحتل قصة تحويل الأراضي في فلسطين/إسرائيل من الحقبة العثمانية إلى الوقت الحاضر حيزاً كبيراً من كتاب فيلدز. لكنه يحكيها ضمن إطار أوسع، متعقباً فكرة “التطويق” عبر إنجلترا والولايات المتحدة قبل الوصول إلى مناقشته للأراضي الفلسطينية. وما حدث هنا، كما يقول، ينتمي إلى “سلالة من نزع الملكية” التي يمكن تعقبها وراءاً في الزمن “إلى ممارسة تغيير أنظمة حقوق الأراضي التي تنبع من فكرة التطويق في إنجلترا الحديثة المبكرة”. ويصف فيلدز بشكل مطول كيف أن الخرائط، وقانون الأملاك، وعمارة المشهد الطبيعي التي استخدمها المحدِّثون من القرن السابع عشر فصاعداً استُخدمت في الممارسات الصهيونية في المناطق الفلسطينية المحتلة من أجل “كسب السيطرة على الأراضي من مالكيها الحاليين وإعادة صياغة الحياة في المشهد الطبيعي بطريقة تتماشى مع أهدافهم للتحديث”.
في فصله عن استعمار أميركا الشمالية وإخضاع الأميركيين الأصليين، يصف فيلدز كيف أن “القانون ظهر كأداة حاسمة لنزع ملكية الهنود الحمر وتحويل أراضيهم إلى مستعمرات”. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما يقول، مال الإنجليز “إلى تفضيل الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر من خلال ما يعتبره المستعمِرون عملية شراء قانونية”، ولو أن المستعمِرين كانوا هم الذين تمتعوا دائماً بالميزة في مثل هذه المعاملات. وعلى النقيض من ذلك، بحلول أوائل القرن التاسع عشر، “أصبح القانون أداة… تمكِّن من تحويل أراضي الهنود الحمر إلى المستوطنين من خلال الاستيلاء القسري”. وكانت لحظة حاسمة في هذا التطور، في رأي فيلدز، حكم رئيس المحكمة العليا، جون مارشال، في العام 1823 في قضية المحكمة العليا المسماة “جونسون ضد مينوش”، والذي جاء فيه أن “الفتح يصنع وضعاً لا تستطيع محاكم الفاتِح أن تنكره أو تلغيه”. وبهذه الطريقة، كما يستنتج فيلدز، استقر خطاب يتحدث عن تحسين الأرض وحقوق الملكية -مدعوماً بأفكار الوحشية والعنصرية- على الأرض… في حين تم وضع السكان الهنود المغتصبين والمدَّمرين في محميات.
تأتي الصورة الشائعة للأميركيين الأصليين في عقول معظم الفلسطينيين في أغلبها من أفلام هوليوود وتحمل قليل شبه بالحيوات والعوالم الاجتماعية الحقيقية التي صنعوها في أميركا الشمالية قبل وصول المستعمِرين. وكان ياسر عرفات مولعاً بترديد عبارة “الفلسطينيون ليسوا هنوداً حمراً”، والتي قصد بها النأي بنا عن الأميركيين الأصليين والإيحاء بأن ثقافتنا هي واحدة أكثر علواً وتطوراً مما قدَّر أنها كانت ثقافة برية وبدائية. لكنني أدركت لدى قراءة فصول فيلدز عن أميركا الشمالية، وجود أوجه تشابه بين المعاملة التي لقيها الأميركيون الأصليون وبعض التكتيات والتوجهات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.
مع ذلك أشك بأن النتيجة، على الرغم من جهود إسرائيل المضنية على مدى العديد من العقود لدفع الفلسطينيين إلى مناطق محصورة داخل الضفة الغربية، ستكون نفسها. إن ما يميز إسرائيل/ فلسطين عن المناطق الأخرى التي يصفها فيلدز هو أن اغتصاب الأرض في المناطق الفلسطينية المحتلة يجري بعد وقت طويل من وصول عصر الاستعمار إلى نهاية، وبعد 69 عاماً من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو يتم في تحدٍّ للقانون الدولي. وتنتهك المستوطنات الإسرائيلية المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل شعبها إلى الأراضي المحتلة. ويحدث هذا في نطاق الرؤية الكاملة لوسائل الإعلام في واحد من أكثر الصراعات تغطية من الناحية الإعلامية في العالم كله.
على الرغم من التوثيق الكثيف، المرئي والنصي على حد سواء، لما حدث في ذلك الجزء من فلسطين الانتداب حيث تم تأسيس الدولة الإسرائيلية قبل 69 عاماً (71 عاماً الآن) وما يزال يحدث حالياً في الضفة الغربية، تبقى إسرائيل عاجزة عن التصالح مع ماضيها، وغير راغبة في الاعتراف بالنكبة التي حدثت في العام 1948، وغير مستعدة للقبول بأن الفلسطينيين هم أمة يحق لها تقرير المصير. وما يزال الزعم بأن الصهاينة جعلوا الصحراء تزهر وأن الفلسطينيين لم يُجبروا على الخروج من أرضهم يُسمع حتى الآن. ومع ذلك، يُظهر رمزي بارود في كتابه الجديد المؤثر “الأرض الأخيرة، قصة فلسطينية”، أن “النكبة، أصل كل الآلام التي تحملها كل فلسطيني على مدى الأجيال الأربعة الأخيرة، ما تزال قائمة”.
في خلاصته، يخبرنا فيلدز بأنه كتب “التطويق” لكي يُظهر كيف أن خلق الحيز الخاص، وخلق الحيز الأبيض، وخلق حيز يهودي على الأراضي الإقليمية، تنبع كلها من نفس الدوافع الإقصائية لعمليات تطويق الأراضي وتخصيصها والاستيلاء عليها في إنجلترا. وقد مكنت مثل هذه الدوافع الناس في كل الأوقات والأزمان من إعلان: “هذه أرضي أنا وليست أرضك”.
في الضفة الغربية، حيث أعيش، أصبح تأثير خلق “حيز أبيض” أكثر وضوحاً بمرور الوقت. في العقود الأولى من الاحتلال الإسرائيلي، كانت المستوطنات تُؤسَّس في معظمها في مناطق قصية، ولم يكن لها تأثير كبير على الحياة اليومية للفلسطينيين. لكن هذا الوضع أصبح مختلفاً جداً الآن. ثمة جدار الفصل الذي يفصل الكثير من المجتمعات عن أراضيها الزراعية؛ وثمة الطرق التي بنيت ولا يُسمح للفلسطينيين باستخدامها؛ كما تم تأسيس محميات طبيعة يُستبعَد منها الفلسطينيون. والآن، عندما أحاول السير في معظم التلال في الضفة الغربية، فإنني أسمَّى متعدياً. وقد أتاح تطويق الأراضي صعود نظام للتمييز حول استخدام الموارد الطبيعة من الأرض والمياه، والذي يشبه الأبارتيد. وبينما كان التفاعل بين المجتمعين ممكناً في الماضي، فإنهما يعيشان الآن في وجودين منفصلَين تماماً في الحيز الصغير الذي يتقاسمانه بشكل غير متساوٍ.
على الرغم من أن كتاب فيلدز يقدم أدلة مقنعة على أن ما حدث في فلسطين/ إسرائيل يتقاسم شبهاً نسبياً مع ما حدث في إنجلترا وأميركا الشمالية على مدار القرون الثلاثة الماضية، يجب الإشارة إلى أن معظم الأراضي في إسرائيل أُخِذت بعد الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1948. وفي الضفة الغربية، لم يكن إلا بعد اتفاقيات أوسلو للأعوام 1993-1995 حين تضاعف عدد المستوطنات اليهودية ثلاثة أضعاف. وعندئذٍ فقط، أصبح الجمهور الإسرائيلي يعتقد بأنه يجب ضم المنطقة التي تشكل أكثر من 60 في المائة من الضفة الغربية والمسماة “المنطقة ج” -تحت السيطرة الإسرائيلية الخالصة- إلى إسرائيل في نهاية المطاف.
تستحضر قراءة “التطويق” قصة مأساة هذا الدمار الهائل الذي لا يمكن نقضه. والحقيقة المحزنة هي أن خلق مجتمعات خلف بوابات، ودولٍ محاطة بجدران، أصبح ظاهرة تنتشر أبعد من مجرد المناطق الثلاث التي يناقشها الكتاب، وتصبح بسرعة هي المعيار في عالم اليوم. قبل بضع سنوات، بينما كنتُ أقوم بنزهة بالقرب من منزلي، قابلت مستوطناً شاباً من دوليف، والذي اعترض على وجودي في التلال حيث اعتدت أن أسير للعديد من السنوات. وفي تحدٍ لحقي في التنزه هناك، حاول أن يتصل بالجيش ليقوم بإخلائي من الأرض. وبينما ننتظر وصولهم، زعم بإيمان راسخ بأنه هو، وليس أنا، هو الذي “يعيش حقاً هنا”.
 
*محام وكاتب فلسطيني، ولد في يافا العام 1951، ويعيش حاليا في رام الله، الضفة الغربية. مؤسس منظمة حقوق إنسان تدعى الحق، وهي منظمة تابعة للجنة الحقوقيين الدولية. كتب عدة كتب عن القانون الدولي وحقوق الإنسان والشرق الأوسط.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: This Land Is Our Land