Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Feb-2019

كل ما تعرفه عن النظام العالمي خطأ

 الغد-آدم توز – (فورين بوليسي) 30/1/2019

 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
لو فهمت النخب الغربية كيف تم إنشاء النظام العالمي الليبرالي لمرحلة ما بعد الحرب، فإنها ستفكر مرتين قبل المطالبة بتجديده
 
* *
أصدر كلاوس شواب، المتحدث باسم المنتدى الاقتصادي العالمي، بياناً خلال الفترة التي سبقت الاجتماع السنوي لهذا العام في دافوس بسويسرا، والذي دعا فيه إلى إيجاد معادل معاصر لمؤتمرات ما بعد الحرب التي أسست النظام الدولي الليبرالي. وكتب شواب: “بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمع قادة من جميع أنحاء العالم لتصميم مجموعة جديدة من الهياكل المؤسسية لتمكين عالم ما بعد الحرب من التعاون نحو بناء مستقبل مشترك. وقد تغير العالم، وكشأن مُلح، يجب علينا القيام بهذه العملية مرة أخرى”. ثم ذهب شواب إلى الدعوة إلى لحظة جديدة من التصميم الجماعي للتكرار الرابع المزعوم للعولمة (الذي يطلق عليه بطريقة خلاقة، اسم: العولمة 4.0).
وليس شواب أول من يقدم هذا النوع من الالتماس. فمنذ الأزمة المالية، صدرت دعوات متكررة إلى عقد “بريتون وودز” جديد –ذلك المؤتمر الذي عقد في العام 1944، والذي فيه، كما قال شواب، “اجتمع قادة من جميع أنحاء العالم لتصميم” نظام مالي لعصر ما بعد الحرب، والذي أسس صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي في هذه العملية. وكانت تلك هي اللحظة التي أثبتت فيها الهيمنة الأميركية أنها الأكثر شمولية واستنارة من خلال تمكين رجال الدولة الاقتصاديين، وفي مقدمتهم جون ماينارد كينز، من قيادة العالم للخروج من آثار ما بعد الحرب والعقود السابقة من الأزمات. وتحت قيادة واشنطن الحكيمة، حتى أوروبا المنطوية على أحقادها تحركت نحو تكامل سلمي ومزدهر.
هذه قصة تتمتع بدعم واسع في أماكن مثل دافوس. وهي أيضاً واحدة تستحق قدراً أكبر بكثير من التمحيص. فتاريخها لتأسيس نظام ما بعد الحرب خاطئ؛ والأهم من ذلك، أن نظريتها الضمنية حول كيفية ظهور النظام الدولي -من خلال جهد تصميم جماعي بذله قادة العالم الذين الذين اجتمعوا معاً من أجل التوفيق بين مصالحهم -خاطئة في الأساس ومعيبة في الجوهر. إن ما يقترحه التاريخ حقاً هو أن ذلك النظام مال إلى الظهور، ليس من التعاون والمداولة، وإنما من حسابات القوة والقيود المادية.
ربما كان “بريتون وودز” مؤتمراً للخبراء والمسؤولين، لكنه كان أولاً وقبل كل شيء اجتماعاً لتحالف من زمن الحرب، والذي كان قد انخرط في جهود التعبئة الهائلة للحرب الشاملة. وقد التئم شمل المؤتمر في تموز (يوليو) 1944، في الأسابيع التالية لـ”يوم النصر” والاختراق السوفياتي النهائي على الجبهة الشرقية. وباعتباره اجتماعاً في وقت الحرب أكثر من كونه اجتماعاً بعد الحرب، فقد تم اختزال الخلافات إلى الحد الأدنى. وعلى الرغم من أن المؤتمر كان يدور حول النظام المستقبلي للاقتصاد الدولي، ومع أن الهدف من المحادثات كان إعادة ربط الاقتصادات الوطنية بعضها ببعض، فإن لبنات البناء كانت اقتصادات الحرب ذات الصبغة المركزية التي تسيطر عليها الدولة. وكان المفاوضون في بريتون وودز مسؤولين حكوميين، وليسوا رجال أعمال أو مصرفيين. وكما فعلوا منذ انهيار النظام المالي العالمي في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، لعب المصرفيون المركزيون دوراً ثانوياً بالنسبة لمسؤولي الخزانة. واستأثر الأميركيون الذين كانوا يمولون جهود الحلفاء بالسيطرة والقرار.
كانت الرؤية الأساسية المتعلقة بالنقد لبريتون وودز هي خلق نظام من خلال إنشاء عملات قابلة للتحويل بالكامل بأسعار صرف ثابتة، مع ربط الدولار بالذهب. إلا أن الظروف الصعبة التي شهدتها عمارة بريتون وودز النقدية التي وضعتها الولايات المتحدة أثبتت أنها كثيرة المطالِب بالنسبة للاقتصادات الأوروبية التي أضعفتها الحرب. وعندما حاولت بريطانيا، صاحبة الاقتصاد الأقل تضرراً في أوروبا، تطبيق إمكانية التحويل الحر للجنيه الاسترليني إلى دولار، انهارت محاولتها عند أول عقبة في العام 1947؛ وسرعان ما تحركت حكومة حزب العمل الديمقراطية الاجتماعية في لندن لوقف التصريف اللاحق للدولارات الثمينة عن طريق إعادة فرض قيود على الصرف وتضييق حصص الاستيراد. وفي الأثناء، تعارض التصميم الكبير لنظام التجارة الحرة المتجسد في ميثاق هافانا ومنظمة التجارة العالمية مع رؤية الكونغرس الأميركي، وبالتالي توقف في مكانه. وكانت “الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة” (الغات) هي البديل المرهق وبطيء الحركة عن هذه الترتيبات.
ربما يكتسب الحديث عن وجود صلة بين الحاضر وبين لحظة بريتون وودز شرعية، أولاً وقبل كل شيء، من الاستمرارية المزعومة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين تم تأسيسهما كما يجب في حينه في كانون الأول (ديسمبر) من العام 1945. ولكن، فيما وراء الألقاب المؤسسية، فإن هذه الاستمرارية المفترضة خاطئة إلى حد كبير. ففي غضون عام من إنشاء مؤسساته الرئيسية، تم وضع جدول الأعمال العالمي بأكمله لبريتون وودز على الرف. وفي العام 1946، غيَّب الاتحاد السوفياتي نفسه عن تشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
بينما شلت الحرب الباردة مؤسسات الأمم المتحدة التي كان من المفترض أصلاً أن تشكل إطار بريتون وودز، كان ما ظهر في ظل الهيمنة الأميركية نظامٌ أضيق بكثير لفترة ما بعد الحرب، والذي يركز على شمال الأطلسي. ولم تكن خطة مارشال للعام 1948 مكملة لبريتون وودز بقدر ما كانت إقراراً بفشله. وبالنسبة لليبراليين الحقيقيين في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، الذين تاقوا إلى عصر العولمة الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر، كان النظام الاقتصادي الناجم للحرب الباردة خيبة أمل عميقة. وقد شعرت وزارة الخزانة الأميريكية والجيل الأول من النيوليبراليين في أوروبا بالقلق من وزارة الخارجية الأميركية وميولها الاقتصادية التدخلية. وطالب أصحاب العقليات المستقلة، مثل الشاب ميلتون فريدمان –المدافعون الحقيقيون عن الأسواق الحرة بالطريقة التي أصبحت فيها كمُعطى اليوم- بإحراق جميع اللوائح والأنظمة، وأصروا على أنه بدلاً من تثبيت أسعار الصرف، يجب السماح بتعويم العملات بحيث تتحدد قيمتها من خلال الأسواق التنافسية. وفي الخمسينيات، كان بالوسع النظر إلى فريدمان بازدراء ووصفه بغرابة الأطوار.
كانت حقيقة النظام الليبرالي الذي يُفترض أنه جاء إلى الوجود في فترة ما بعد الحرب، أكثر أو أقل، استمراراً عشوائياً غير منظم لضوابط زمن الحرب وقيوده. وسوف يستغرق الأمر حتى العام 1958 حتى يتم تطبيق رؤية بريتون وودز أخيراً. وحتى في ذلك الوقت، لم يكن نظاماً “ليبرالياً” وفقاً لمعيار العصر الذهبي للقرن التاسع عشر، أو بالمعنى الذي يفهمه به دافوس اليوم. كانت الحركة الدولية لرأس المال محدودة للغاية لأي شيء آخر سوى الاستثمار طويل الأجل. كما حقق تحرير التجارة أيضاً تقدماً بطيئاً. وسار الإلغاء التدريجي لضوابط الصرف جنباً إلى جنب مع إزالة الكوتات التجارية. وكان فقط عندما تمت إزالة هذه القيود الأكثر أولية على التجارة الخارجية حين أصبحت المفاوضات على التعريفات ذات الصلة. ولم تبدأ المداولات المتثاقلة التي أجرتها الـ”غات” في تحقيق تقدم كبير حتى جولة كينيدي في الستينيات، أي بعد 20 سنة من نهاية الحرب. وكان صعود التجارة العالمية نعمة ونقمة. فقد وضعت الفوائض التجارية الضخمة الألمانية واليابانية ضغوطاً على نظام سعر الصرف الذي وضعه بريتون وودز. وتضاعف هذا الضغط في الستينيات بتواطؤ وزارة الخزانة الأميركية وسلطات المملكة المتحدة في تمكين وول ستريت من تجنب القمع المالي وإطلاق سوق اليورودولار غير المنظم، والمتمركز في حسابات مصرفية في لندن.
بحلول أواخر الستينيات من القرن الماضي، بعد أن بلغ عمره بالكاد أكثر من 10 أعوام، كان بريتون وودز يعاني بالفعل من متاعب آخر العمر. وعندما وجد الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، نفسه في مواجهة المطالب بالانكماش، عاد إلى القومية الاقتصادية. وقام، بين العامين 1971 و1973، بفصل الدولار عن الذهب وتخلى عن أي جهد للدفاع عن سعر الصرف، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار والمساعدة في استعادة شيء أقرب إلى الميزان التجاري. وإذا كان لعالمنا مكان ميلاد تاريخي، فإنه لم يكن في العام 1945 وإنما في أوائل السبعينيات، مع ظهور النقود الورقية وأسعار الصرف العائمة. والحقيقة غير المستساغة هي أن عالمنا لم يولد من رحم اتفاقية جماعية حكيمة، وإنما من الفوضى، التي أطلقها رفض الولايات المتحدة أحادي الجانب لضمان النظام النقدي العالمي.
بينما انفجرت التوترات التي نشأت وتراكمت في الستينيات، ساهم عدم استقرار سعر صرف العملات الأجنبية في زيادة تاريخية وغير مسبوقة في التضخم في كل أنحاء العالم الغربي. ونحن نعلم الآن أن عصر عدم الاستقرار التضخمي هذا سوف ينتهي بثورة السوق، وما أطلق عليه بن برنانكي وصف “الاعتدال الكبير”. ولكن مرة أخرى، لا ينبغي أن يعمينا الإدراك المتأخر عن رؤية عمق الأزمة وعدم اليقين اللذين سادا في ذلك الوقت. لم تكن المحاولات الأولى لاستعادة النظام قد جرت عن طريق ثورة السوق، وإنما من خلال أسلوب الشراكة -المفاوضات المباشرة بين الحكومات والنقابات العمالية وأرباب العمل بهدف الحد من الدوامة الشرسة الهابطة للأسعار والأجور. وقد وعد ذلك بالتحكم المباشر في التضخم عن طريق تحديد الأسعار. لكن تأثيره كان خلق تسييس متزايد بلا توقف للاقتصاد. ومع تشخيص المنظرين الاجتماعيين اليساريين لوجود أزمة في الديمقراطية الرأسمالية، حذرت اللجنة الثلاثية من عدم قدرة الديمقراطية على الحكم.
لم يكن الشيء الذي كسر الجمود مجرد نوع من مؤتمر شامل لأصحاب المصلحة. كان أصحاب المصلحة في السبعينات من القرن الماضي عبارة عن نقابات مهنية مشاكسة، وكان ذلك النوع من التشاور على وجه التحديد هو العادة السيئة التي عكف الثوريون النيوليبراليون على كسرها. وكان الحل، كما أوضحت المذكرات الأخيرة لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، بول فولكر، بطريقة محرجة، هو القوة الفظة التي مارسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وقد وجه رفع فولكر من جانب واحد لرفع سعر الفائدة، وإعادة التقييم الحادة لقيمة الدولار، وتراجع التصنيع، والانهيار الناجم عن معدلات البطالة المتصاعدة، وجهت كلها ضربة قاتلة للعمالة المنظمة، وروضت الضغوط التضخُّمية. وكرست صدمة فولكر من يُدعَون بالمصرفيين المركزيين المستقلين ليكونوا هم المحكمين الحقيقيين للتوزيع الجديد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Everything You Know About Global Order Is Wrong