تمثُّلات النَّهْضَة في الفِكْرِ العَرَبيّ: أوْرَاقٌ مَطْويَّة مَالِك بن نَبي وعِمَاد الدِّين خَليل نَمُوذَجَاً
الدستور-مُحمَّد عبد الفتَّاح حليقاوي
«إنَّ مُشْكِلَة كُلِّ شَعْبٍ هِيَ في جَوْهَرِهَا مُشْكِلَة حَضَارَته، ولا يُمْكِن لِشَعْبٍ أنْ يَفْهَم أو يَحُلَّ مُشْكِلَتهُ ما لَمْ يَرْتَفِع بِفِكْرَتِهِ إلى الأحْدَاثِ الإنسانيَّة، وما لَمْ يَتَعَمَّق في فَهْمِ العَوَامِلِ التي تَبْنِي الحَضَارَات أو تَهْدِمَها»، بهذه الرُّؤَى يَرُومُ مَالك بن نَبي تفسير إشكاليَّة الإصْلَاح والبِنَاء الحَضَاريِّ في المُجْتَمَعِ العَرَبيّ، وقد أكَدَّ أنَّ حَرَكَةَ الإصْلَاح عُمُومَاً قد ضَلَّت طَريقها عندما افتَقَدَت القوانين السياسيَّة والاجتماعيَّة التي يَقُومُ عليها بُنْيَان الظَّاهِرَة السياسيَّة، ولم تدرك أنَّ الحُكُومَات ليْسَت سِوَى آلة تتغيَّر تَبَعَاً للوَسَطِ الذي تَعيشُ فيه، فإنْ كانَ هذا الوَسَط نقيَّاً وشفَّافَاً عليها مُوَاجهته بما يَتَنَاسَبُ معه، وإذا كانَ هذا الوَسَط يتَّسِمُ بـ»القابليَّة للاستعمار» فلا جَرَمَ أنْ تكونَ حُكومته استعماريّةً، ذلك أنَّ: «الاستعمار ليْسَ مِنْ عَبَثِ السياسيين، ولا مِنْ أفعالهم، بل هُوَ مِنَ النَّفْسِ ذاتها التي تَقْبَلُ ذُلَّ الاستعمار، والتي تُمكِّنُ له في أرْضِهَا».
ويُوشِكُ أنْ لا يكونَ خِلَافٌ على أنَّ النُّخبَة المُثقَّفة في مُقدِّمَة المَسْؤولين عن بناءِ المُجْتَمع، وأنَّ عَالَم الأفكار ينبغي أنْ يكون أولى اهتماماتها كما يرى مالك بن نبي، والعَالِم ليْسَ مُجرَّد تكوينٍ للأشياءِ والأفْكَار، ولكنَّه بِنَاءٌ يَعْكِسُ عبقريَّة الوَطَن وشخصيَّاته، وعلى النَّقيضِ مِنْ هذا فإنَّه على النُّخْبَةِ المُثقَّفَةِ إعادة ترتيب العَلَاقَة، وإعادة الدَّوْر النُّخْبَويّ الذي مَارَسَهُ المُثقَّفون بِوَصْفِهِم وُكَلَاء على القِيَم والحُقوق، ولقد ولَّى زَمَنُ المُثقَّفِ بِوَصْفِهِ مِفْتَاح الحَدَاثَة، أو مِشْعَل الثَّوْرَة والتغيير، أو عَاشِق الحُريَّة، أو رَمْز القضيَّة المُقدَّسة، إذْ هُوَ أصبح يحتاج إلى التنوير، والمُثقَّف بالتالي هُوَ مَنْ تشغله المبادىء والحُريَّات، أو تعنيه سياسة الحَقيقة، ، ولكنْ أيَّاً كان نموذج المُثقَّف وحَقْله المَعْرفيّ، فهو مَنْ يهتمُّ بتوعية الرأي العَام، وهذه صِفَة المُثقَّف ومهمَّته، بل هيَ مَشْروعيَّته ومَسْؤوليَّته، وبهذا المعنى، فالمُثقَّف هوَ الوجه الآخر للسياسيّ، والمَشْروع البَديل عنه، ولهذا فهو ينتمي إلى نُخْبَة المُثقَّفين والعُلَمَاء والفُقَهَاء الذين ينتظرهم المشروع الحَضَاريّ.
ولمَّا كانَ الخَلَاصُ مِنَ الاستعمار لا يتمُّ إلَّا: «بِخَلَاصِ النَّفْسِ مِنَ القَابليَّةِ له»، أيْ مِنْ خِلَال تحوُّل نَفْسيٍّ يُصْبِحُ مَعَهُ الإنسان العَرَبيّ قادراً على القِيَام بأدوارهِ الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة، وجديراً بالمَبَادئ والقِيَم التي تمنحهُ التقدير والكَيْنُونَة، وبالتَّالي لا تستطيع نَفْسُ هذا العَرَبيّ وقد تحرَّرت مِنَ «القَابليَّة للاستعمار» أنْ تَقْبَل حُكومَةً استعماريَّةً، أو مَسْؤُولاً يَسْلِبُ النَّاسَ حُقُوقهم وطُمُوحَاتهم وأوْطَانهم، ولا رَيْبَ أنَّ مُشْكِلَة مُجْتَمَعنا وفْقَ مالك بن نبي أنَّهُ ظَلَّ «خَارِجَ التَّاريخ» دَهْرَاً طويلاً يَشْكُو المَرَض ولا يَجِد الدَّوَاء المُنَاسب، يَسْعَى إلى النَّهْضَة وهو يُعَاني مِنْ تَخَلُّفٍ اجتماعيّ وعِلْميّ لم يَبْرَأ منهما، وفي الوقت الذي اعتبر فيه جمال الدين الأفغانيّ أنَّ مُشْكِلَةَ مُجْتَمعنا سياسيَّة وعِلَاجُهَا يكونُ بِوَسَائِل السياسة، كانَ الإمِامُ مُحمَّد عَبْدُه وتلميذهُ مُحمَّد رَشيد رِضَا يُنَاديان بالإصْلَاح الدِّينيّ والتربويّ، وهذا كُلُّه اعتبَرَهُ مَالك بن نَبي حَديثاً عن أعْرَاض المَرَض لا المَرَض ذاته.
مِنْ هَذَا المُنْطَلَق، أشَارَ مَالك بن نَبي إلى أنَّ المُجْتَمَع العَرَبيّ ظلَّ طوال عُقُودٍ يُعَالِجُ الأعْرَاضَ بَدَلَاً مِنَ المَرَض، ولم يتوقَّف هذا المُجْتَمَع عن دُخُول «صَيْدَليَّة الحَضَارَة الغَرْبيَّة» بَاحِثَاً عن عِلَاجٍ ضِدَّ الجَّهْل، ومُقَاوَمَة الاستعمار، ومُوَاجَهَة الفَقْر، أمَّا المَرَض الحقيقيّ برأيهِ فلا أحَدَ يَعْرِفُه، لأنَّ الذي يُكَدِّسُ مُنْتَجَات حَضَارَةٍ أُخْرَى لا يَصْنَع حَضَارَتهُ الخاصَّة، وأكثر مِنْ هذا فهو يرى استحالَة أنْ تَقُومَ حَضَارَةٌ ما بِبَيْعِ الأشياء التي تُنْتِجُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً مُتَلازِمَةً مع جَوْهَرِ هذهِ الأشياء، أيْ أنَّ هذهِ الحَضَارَة لن تبيع رُوحها وأفكارها، فإذا قُمْنَا بِشِرَاء كُلِّ أشياء الحَضَارَة الحديثة، فإنَّ النَّاتِجَ لدينا هو «حَضَارَة شَيْئِيَّة» وليْسَت حَضَارةً حقيقيّةً مُنْبَثِقَةً مِنَ التَجْرِبَة التَّاريخيَّة والثقافيّة لنا، ويُؤكِّد مالك بن نبي أنَّ كُلَّ ناتجٍ حَضَاريٍّ تَنْطَبِقُ عليه المُعَادَلَة التحليليَّة التَّالية:» نَاتِجٌ حَضَاري = إنْسَان + تُرَاب + وَقْت «، ويُقرِّرُ أنَّ أيَّة حَضَارَة تَتَبَلْوَر عندما يَجْتَمِعُ الإنْسَانُ والتُّرَابُ والوَقْت، باستثناءِ الحَالَة العَرَبيَّة التي تَسْتَلْزِمُ وجود «المُركَّب الحَضَاريّ» المُتَمَثِّل بالفِكْرَة الدينيَّة.
على الشَّاطِئ ذاتهِ، وفي مُحَاوَلة هِيَ الأولى في التَّاريخ الإنسانيّ كما يُشير عماد الدين خليل، أصْبَحَ الانتماء إلى الشَّريعة الإسلاميَّة في نِهَايَة المَطَاف المُوَافَقَة على الدُّخُولِ في عَمَلٍ مُبَرْمَجٍ ومَرْسُوم، وباتَ الإيمانُ هو التحقُّق بالقَنَاعَاتِ الكافية بجدوى هذا العَمَل، أمَّا التَّقْوَى فهِيَ الطَّاقَة الفَذَّة التي تُشْعِلُ مِصْبَاح الضَّمير فيظلُّ مُتألِّقَاً ومُتَوهِّجَاً حتَّى يغيبَ الإنسانُ في التُّرَاب، ثمَّ يأتي الإحْسَانُ لكي يَضَعَ الإنسان الحقيقيّ في مُجْتَمَعِنَا، في القمَّة، وهو الإبْدَاعُ الكَامِلُ في كُلِّ ما يُقدِّمُه، وصولاً إلى جوهر الإتقان، والإنسان العَرَبيّ بمجرَّد انتماءه الحقيقيّ لهذه الشَّريعة، يضع نفسه وقُدُراته في سياقٍ واحد، وتوجُّهٍ واحد، ويتحوَّل إلى طاقة فذَّة في ميدان الفِعْل والإنجاز، وقُدْرَة مُذْهِلة في مَجَال العَطَاء والابداع، وشُعْلة متوهِّجة يمتدُّ إشعاعها إلى أعماق الذات فيُضيئها ويدفعها إلى آفاق العلم الذي يوضِّح ملامح الطريق، ويومها ينطلق مجتمعنا بقوّة اختزالٍ مُدْهِشة لمواضعات الزمان والمكان والتراب، وصولاً إلى أهدافه الكبرى.
وبَسَطَ عماد الدين خليل قَصْدَهُ، في سياق تقديم مَشْرُوعِهِ «نحو إعادة تشكيل العَقْل المُسْلِم»، حيث يُؤكِّد أنَّ الإسْلَام، مُنْذُ اللَّحْظَة الأولى، عَمَلٌ تَحْرِيريّ، فقد حرَّر الإنسان مِنَ الضَّلال والأوهام، في نَقْلَةٍ تصوُّريَّة واعتقاديَّة، ثُمَّ حرَّرَهُ مِنَ الجَّهْلِ والخَوْفِ وإلغاء الآخَر، في نَقْلَتِه المعرفيّة، وصولاً إلى تحريرهِ مِنَ الخُضُوعَ للفَوْضَى، وتبصيرهِ بقوانين الحَرَكَة التي يَسيرُ الكَوْنُ والعَالَمُ والتَّاريخُ بموجبها، في نَقْلَتِهِ المَنْهَجيَّة، ذلك أنَّ الشَّريعة تحضُّ المؤمنين على التَّسَارُعِ الحَضَاريّ: عَمَلَاً وإنجازاً وإبداعاً مَسْؤُولاً، وتُعْلِنُ رَفْضَهَا للكَسَلِ والقُعُود والاتِّكَال دون تغييرٍ أو إعْمَار، وضرورة مواجهة الذَّات بدلاً مِنَ الزُّهْدِ السَّلْبيّ، بل ومَنَحَت هذه الشَّريعة أتباعها مِفْتَاحَيْنِ للخَلَاص هما: التغيير الذاتيّ والإعداد الذاتيّ، وفي هَذيْن المِفْتَاحَيْن مَسَاحَة واسعة تحتلُّها مسألة إعادة تشكيل العَقْل كشرطٍ أساسيّ للتحقُّق بالتغيير الذاتيّ والإعداد الذاتيّ على السواء.
وظَاهِرٌ تأكيد عماد الدين خليل على قَانون التغيير الذي يَمْنَحُ الإرادة البشريَّة المُؤْمِنَة فُرْصَتَها في صِيَاغَة المَصير، وفي التشبُّث به، أو استعادته، وبعد ذلك يبدأ الاستعداد النَّفسي والروحيّ والعقليّ والأخلاقيّ من أجل إرادة العمل والتغيير، وليْسَ ثمَّة ما يَقِف في طريق امتلاك نَاصية التغيير الذاتيّ أكثر مِنَ الرؤية التجزيئيَّة، لأنَّ مُجْتَمَعَنا رأى عملية التغيير بصورةٍ مغلوطة، وأنَّها مُجرَّد تجديد للتوثُّب الرُّوحيّ، أو إعادة التزام بِحَشْدٍ مِنَ القِيَم الأخلاقيَّة، ويذهب إلى أنَّنا سوف نقع في الخطأ نفسه لو قلنا: إنَّ الحَلَّ يَكْمُنُ فقط في إعادة تشكيل العقل، ذلك أنَّ التغيير الذاتيّ عَمَليَّةٌ شَامِلَةٌ تُغطِّي الطَّاقَات البَشَريَّة كافَّة، وأيُّ تفكيكٍ في الرؤيَّة أو المَوَاقَف يَقْتُلُ المُحَاوَلَة في المَهْد، وأنَّ العِلْمَ الحَديث ليْسَ» مَارِدَاً كَافِرَاً لكي نتبرَّأ منه»، وندعو لحربه، ولكنَّه أداة حياديَّة، يُمْكِن توظيفها لخِدْمَة حَضَارَتِنَا، كما أنَّه ليْسَ ابن الحَضَارَةِ الغربيَّة وحدها، لكي نتردَّد في احتضانهِ وتنميته، فقد كانَ لحضارتنا نَصيبٌ وَافِرٌ في وَضْعِ دَعَائِمه، وتَصْحِيح مَنَاهِجه، وطَرْح مُعْطَيَاته.
إنَّ مَدَارَ الحِوَار، في أُطْرُوحَة عماد الدين خليل، إذن، أنَّ الإسلامَ مَنَحَ المُنْتَمين إليهِ قُدُرَاتٍ إضافيَّة لتجاوز حَيْثيَّات الزَّمَان والمَكَان، والتحقُّق بالتَّوَافُق المَنْشُود، ويَذْهَبُ إلى:» إنَّ النَّاسَ في الأغْلَب الأعمّ، يَمْشُونَ إلى أهدافهم، أو يُهرولونَ إليها، ولكنَّنا هنا نَجِدُ أُنَاسَاً يَرْكُضون، لقد بَعَثَ الإسلامُ أجيالاً مِنَ العدَّائين الذين عَرَفوا كَيْفَ يُحطِّمون الأرقام القياسيَّة، وهم يجتازون المَوَانع، ويقطعون المَسَافات الطِّوَال، إنَّ القرآنَ الكريم نَفْسَه يَصِفُهُم بأنَّهم: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وأنَّهم: (لَهَا سَابِقُونَ)، وها نَحْنُ بِصَدَدِ مُؤشِّريْن للسُّرْعَة والإنجاز الذي يَخْتَزِل ويُحقِّق الأهداف: المُسَارَعَة والسَّبْق «، ومِنْ زاويةٍ ثانية فإنَّه يجعل الزَّمَنَ أساساً في مشروعه الحضاريّ لتحقيق النَّهضة واللحاق بركبها البعيد الآن، وأنَّ المفاتيح موجودة لدينا أوَّلاً وآخِرَاً، ولن يكونَ بمقدور ألف سَنَةٍ أُخْرَى مِنَ الاتِّكاليَّة، والجَّهْل، وقَتْل الإبداع، أنْ تصنع المُعْجِزَة، ذلكم هو التحدَّي الحَقيقيّ، وهذه هيَ الإجَابَة لِمَنْ يَسْأل متى تَسْتَيْقِظُ ثقافَتُنَا ونسـتأنِفُ البِنَاء الحَضَاريّ؟.
وَحَسْبُنَا، هُنَا، الإلمَاعُ إلى مدى التَّقَاطُعِ النِّسْبيّ بيْنَ أفْكَار مَالك بن نَبي وعماد الدِّين خليل وأستاذهما ابن خَلْدُون، حيث الاتفاق على أهميَّة انسجام الحَضَارَة مع مَنْطِق «الحَرَكَة التاريخيَّة»، إذْ لا يُمْكِن لأيّ بِنَاء حَضَاريٍّ جَديدٍ أنْ ينمو ويتَّسع دونَ المرور في دَوْرَةِ الحَضَارَة مِنَ «النَّهْضَة» وصولاً إلى «الأوْج» ثمَّ السَّيْر نحو «الأُفول» حسب التعبير الخَلْدُونيّ، ولكنَّهما أكثر تفاؤلاً مِنْ أستاذهم بإمكانيَّة النُّهُوض والبِنَاء مرَّة أُخْرَى، ولعلَّهما في تركيزهما على دور الفِكْرَة الدينيَّة في مُجْتَمَعنا يُقدِّمَان أولويَّة التَّمايُز بَيْنَ الإنسان العَرَبيّ الذي يَعْمَل لِحِسَابه الخَاص أو يَعْمَل لِحِسَاب حَضَارتهِ وثقافتهِ ومُسْتقبلهِ المنشود، وفي سبيل الخروج من متاهة النُّكوص الحَضَاريّ يُمْكِن القول بأنَّ قضيَّة الإنسان العَرَبيّ تتركَّزُ ضِمْنَ ثَلاثِ دَوَائر أساسيَّة: الأولى دَائِرَة الثَّقَافَة التي تَرْتَكِزُ على الدُّسْتُور الأخلاقيّ، والذَّوْق الجَمَاليّ، والمَنْطِق العَمَليّ، والصِّنَاعة، والثَّانية هيَ العَمَل الذي يُحدِّد مصير الأشياء في الإطار الاجتماعيّ، والثَّالثة فهي الاقتصاد الذي يدعم المجتمع وبنيانه، والمأمول، الآن، هو الانسجام مع شُرُوط الواقع العَرَبيّ المُطَالَب بالنُّهوضِ والتقدُّم وفقاً لأسُسٍ جَامِعُهَا العِلْمُ والضَّمَير، مع استصحابٍ دَائِمٍ لمَبَادئ وضَوَابط وقِيَم المجتمع، وفي ضوء تربيَّة اجتماعيَّة تَسْتَلْهِمُ تَاريخنا وتُرَاثنا، فما يزال هذا الطَّريقُ بِحَاجَةٍ إلى المَزيد مِنَ الإشَارَات، والإضَاءَات، والبُرُوق، والمشاريع، والعقليَّة النَّقديَّة، والمنهجيَّة، والحُريَّة، وصولاً إلى تأسيس عِلْمٍ عَربيٍّ حقيقيّ هو « الفِقْه الحَضَاريّ».
ومما تنبغي الإشَارَة إليه أنَّ التاريخ يتحرَّك مِنْ خلال البِنَاء الداخليّ للإنسان، الذي يَصْنع له غاياته التي تُبنى على أسَاس المَثَل الأعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات، إذ لكلِّ مُجْتَمَعٍ مَثَلُه الأعلى، ولكلِّ مَثَل أعلى مسار ومسيرة، وهذا المَثَل الأعلى هو الذي يُحدّد في تلك المسيرة معالم الطريق، وفي حال سقط المَثَل الأعلى في تاريخ الإنسان العَرَبيّ فإنَّه يُواجه ثلاثة تحدِّيَات مُختلفة، أوَّلها سقوط المُجْتَمَع العَرَبيّ أمام غزوٍ عسكريّ مِنَ الخَارج، وثانيها الذوبان والانصهار في مَثَلٍ أعلى أجنبيّ مُسْتَوْرَد لكي يُعطيه الولاء ويَمْنَحه القيادة، وثالثها شعور هذا المُجْتَمَع في أعماقه بضرورة استعادة المَثَل الأعلى من جديد إلى مركزه للقيام بدوره الرياديّ مرّة أُخرى، ومِنَ الواضح أنَّ الأوَّل بدأ منذ القرن السَّابع الهجريّ عندما سَقَطَ ما تبقى من الخِلَافَة الإسلاميَّة في بغداد أمام الغزو المَغولي، أمَّا التحدي الثاني وكذلك الثالث فقد عاشتهما الثقافة العَرَبيَّة عندما وقفت على مفترق طرق في العصر الاستعماريّ الحديث وما تزال.
إنَّ الحديث عن مشروعٍ نهضويٍّ وثقافيٍّ عَرَبيّ، الآن في الألفيَّة الثالثة، يواجه مَجْمُوعَة مِنَ الأسئلة الموضوعيَّة، ذلك أنَّ التفكير بهذا المشروع يعتبره البعض دونَ معنى، بينما تذهب طائِفَة مِنَ المُفكِّرين إلى ضرورة إعادة النَّظَر جَذْريَّاً في الأُسُس البنيويَّة التي قامَ عليها المُجْتَمَع العَرَبيّ المُعَاصِر، مِنْ أجل نَقْد مَظَاهِر الاستبداد، والقَهْر، والفساد بأشكالهِ المُتعدِّدَة، في سبيل تفكيك هذه المَظَاهِر والوصول إلى صيغةٍ تُحقِّق الحُضور الإنسانيّ لنا، وتُشْرِع الأبواب أمَامَ الإنجازات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، مع مُلاحَظَة أنَّ شيوع فِكْرَة النَّهضة دونَ ضوابط علميَّة دقيقة، أضفى عليها غموضاً في دلالتها ومعناها على حَدٍّ سواء، حيث يتقعَّر البعض بحثاً عن معنى لُغويٍّ عقيم، يزيد الفِكْرَة التباساً، بينما يتجاوز البعض الآخر أنَّ النَّهضة في أبهى تجلِّياتها تُمثِّل تراكماً حضاريَّاً، ونتاجاً فكريَّاً وثقافيَّاً، ويقوم هؤلاء بتحويلها إلى مَحْضِ تصوُّرٍ أيديولوجيٍّ يُقدِّمه كُلُّ تيَّار أو حِزْبٍ سياسيٍّ مِنْ تلك التيَّارات الأيديولوجيَّة المُتَنَاثِرَة والمُتَنَاحِرَة في بلادنا العربيَّة، ممّا يُفقِدُها رَصيدها الشعبيَّ والاجتماعيّ، وتغدو النَّهضة والحالة هذه مُجرَّد تَرَفٍ نُخبويّ لدى المُثقَّفين وحدهم.
إنَّ الاضطراب المفاهيميّ في تحديد النَّهْضَة المَنْشُودَة في المُجْتَمَع العَرَبيّ ومقوِّمَاتها، يعود في مُعظمهِ إلى طغيان الأيديولوجيا على العِلْمِ والموضوعيَّة، بغية تصنيف، وتفسير، وحتَّى صِنَاعة التَّاريخ وفق رغباتها، أمَّا الوجه الآخَر الذي تقتضيه الحقيقة، أنَّ الخَلَلَ الرئيس في الخِطَابِ العَرَبيّ حول النَّهْضَة ينبثقُ مِنْ عدم إدراك مفهوم شَامِلٍ حولها، فضلاً عن عدم التمييز بيْنَ خُطُوَات سياسيَّة، أو اقتصاديَّة، تندرج في سياق عمليَّة إصلاحيَّة، وبيْنَ عمليَّة تنمويَّة مُتَكَامِلَة تتلازم مع الأبعاد السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة كافَّة، وتَصْنَعُ تَرَاكُمَاً على هذه الأصعدة بصورة متوازيَّة، إذ النَّهْضَة المنشودة ليْسَت مؤشِّرَات بشريَّة واقتصاديَّة فحسب، وإنَّما هيَ عمليَّة توسيع لخيارات الإنسان العَرَبيّ، وفي إطار مُقاربةٍ شَامَلَةٍ تضمُّ حُريَّة هذا الإنسان، وقدراته المعرفيَّة، وبهذا تُعدُّ النَّهْضَة قَرينة التنميَّة.