Wednesday 1st of May 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Mar-2019

بين محمود السمرة وطه حسين

 الدستور-أ. د. إبراهيم خليل 

لا تقتصر جهود أستاذنا المرحوم محمود السمرة على النقد القديم، وتتبُّعهِ لمرتكزات النظرية النقدية فيه، ولا سيَّما لدى القاضي عبد العزيز الجرجاني، مؤلف « الوساطة بين المتنبي وخصومه « فقد التفَتَ إلى المحدثين، وفي مقدمتهم الناقد الراحل الدكتور طه حسين (1889- 1973) الذي صنف في دراسته لآثاره كتابًا بعنوان سارق النار- طه حسين (2004) يقع الكتاب في أربعة فصول، اثنان منها عن طه حسين الأديب، واثنان آخران عن طه حسين التربوي، والمفكر الإصلاحي، وهذان الفصلان لا يقعان في دائرة اهتمامنا في هذه المقالة القصيرة.
فطه حسين ، إذا تجاوزنا سيرته،وما كتبه عن حياته في  «الأيام «، وفي « أديب «، وفي « مذكرات طه حسين «، مبدعٌ كبير، وناقدٌ رائد، كُتبَتْ عنه الكثير من الدراسات، واستأثرت آراؤه النقدية بعناية غير قليل من الباحثين والدراسين، وفي هذا الكتاب يتتَبَّع أستاذنا آراء عميد الأدب في أدبنا العربي قديمه وجديده، مسلِّطا الضوء على المؤثرات التي أسهمت في تكوين رؤيته الأدبية للإبداع ونقده. فقد تأثر في بداياته ببعض المستشرقين ممن تَتَلْمذ لهم، وفي طليعة هؤلاء كارلو نللينو الإيطالي Nallino وعندما غادر مصر للدراسة في مونْبِلْييه، ثم في السوربون، تأثر بكل من بيير جانيه Janet وجوزيف لانسون Lansson  كما تأثر بهيبوليت تين Taine صاحب النظرية التي تزعم أن الأديب ثمرة عوامل ثلاثة هي: الزمان، والبيئة أو المكان، والعِرْق. ومن الفرنسيّين الذين تأثر بهم سانْتْ بيف Bauve صاحب النهج القائم على تتبع سير الشعراء، والكتاب، وتقَصّي أخبارهم، والاهتمام بما يكتنف سيرهم، ويحيط بها، من خفايا، وأسرار شخصية، تؤثر في نتاجاتهم الأدبية تأثيرًا كبيرًا. وتأثر طه حسين أيضًا بجول لوميتر Lemaitre وبرونتيير Brunetiere الذي أقحم نظرية داروين عن النشوء والارتقاء في الدراسات الأدبية. وبهذا التتبُّع لخلفية طه حسين المعرفيّة يضعُنا المرحوم السمرة على طريق مَهْيَع، وَواضحٍ، ولاحِب، لفهم ما كان يتوسَّل به طه حسين من وسائل في فهمه للأدب، ونقده. 
ففي كتابهِ الأول عن « أبي العلاء المعري « تبرز الفكرة التي أشاعها هيبوليت تين في النقد، إذ نجده يسلط الضوء على عصر أبي العلاء، وعلى بيئته، وسيرته، وعلاقته بأمِّه، وما تعرض له في حياته من أوضاع نفسيه، وما كان يؤمن به من أفكار فلسفية، جعلت منه شخصية لا تخلو من غرابةٍ، وغموض. وقد توسَّع في ذلك توسُّعًا شغله عن النظر في شعره. وذلك لأن طه حسين، حينَ درس شخصية أبي العلاء، آمن بنظرية الحتمية التاريخية الاجتماعية، فشخصية الإنسان، وَفْقا لها، نتاجُ سلسلة من الوقائع، والحوادث، التي لا يدَ له فيها، ولا إرادة. (انظر: ص 69) وهنا يدلي أستاذنا برأيه في هذه الدراسة التي استغرق الحديث فيها عن العصر 80 صفحة، والحديث عن حياة أبي العلاء 80، والحديث عن فلسفته 60، ولم يظفر الحديث عن شعره بأزيد من 50 .. والسببُ واضحٌ، فالحديث عن هاتيك الأمور الخارجية ضرْبٌ من الأحاديث التي تسمح بالتوسُّع إلى حد الإفراط، بينما دراسة الشعر دراسة ذوقية، ذاتية، تحليلية، ويبدو أن طه حسين كان راضيًا عن دراسته هذه، على الرغم من أنها، في رأي أستاذنا، تشاغَلَتْ عن الشعر الذي هو حَجَرُ الزاوية في كتابيه «مع أبي العلاء في سجنه « و» تجديدهِ لذكرى أبي العلاء «.
 النقدُ والعلم 
ولعلَّ طه حسين قد أراد بهذه الدراسة عن أبي العلاء الانطلاقَ من فكرة مفادُها أنَّ النقد يقترب من العلم، على أن يأخذ بالأسباب التي تؤدي لوجود الظاهرة، مثلما يقوم عالم الكيمياء- مثلا - بتحليل العناصر في المختبر كاشفًا عمَا يحدث فيها من ظواهر التغيير بسبب التفاعلات. ولكن طه حسين لم يتقيد، في رأي أستاذنا، بهذا النهج في جلّ ما كتب. وهذا يفسر التناقضات التي نعثُر عليها في بعض دراساته للشعر القديم، والحديث، فضلا عن المسرحية والرواية. وقد أسْفَر تقلُّبه هذا عن اعتناقه لفكرة النقد التكامُلي. وهو النقد الذي يأخذ من كل نهج بطرف، دون أن يتقيد بمنهج واحِد من مناهج النظر (انظر: ص28) ولهذا نجده يرد على العقاد، ومحمد النويهي، لأنهما دَرَسا شعر الحسن بن هانئ( أبي نواس) من وجهة نفسيّة خلصَتْ إلى أن هذا الشاعر عانى من مركب النقص، والشذوذ الجنسي، ومن عقدة أوديب. فعلى الرغم من أن عميد الأدب العربي لا يُنكر الفائدة الكامنة في التحليل النفسي للأدب، إلا أن الاعتماد على هذا النوع من التحليل- وحده- لا يؤدي إلى نتائج دقيقة، وربما أتتْ الدراسة النفسيَّة للأديب بنتائجَ عكسية.
وقد فسَّر أستاذنا موقف عميد الأدب العربي من النقد الإيديولوجي، والالتزام، تفسيرًا عِمادُه التذكير بموقف طه حسين من حرّية الأديب. فهو لا يفتأ يلحّ، في جلّ ما كتَب، وألَّفَ، ونشَر، على أن الفنان، أو الأديب، يمتلك الحرية المطلقة في أن يكتبَ ما يشاءُ، وكيف يشاءُ، بالطريقة التي يرضى عنها، بعيدًا عن أيِّ قيود اجتماعية، أو دينية، أو أخلاقيَّة. (انظر: ص 35) ولهذا نجده يردُّ على النقاد من أمثال: رئيف خوري، وحسين مروة، وسلامة موسى، ومحمود أمين العالم، قائلا: « إن الأدب قد يدعو للعدالة، والمساواة، ولكن إلزام الأدباء بشيءٍ كَهذا أمرٌ لا يخْلو من خُطورة، لأن هؤلاء سيَخْسرون، في هذهِ الحال، الصفة التي تجعلُ منهم مبدعين، ألا وَهي الحريّة، حرية الإبداع. «(ص59) 
 الناقدُ الانطباعيُّ
وعلى الرغم من أن طه حسين بدأ داعيًا لِعَلْمَنة النقد، وانتقل إلى التكامل بين مناهج النظر، إلا أن ما كتبه من نقد عن الشعر خاصَّةً لا يخلو من انطباعيَّة تؤكد تأثُّرهُ بجول لوميتر. وقد اقتبَس أستاذنا من كتاب « شوقي وحافظ « ما يؤكد بالدليل المحسوس، والبرهان الساطع الملموس، إشادتَه بأشعار لكلٍّ منهما إشادةً تؤكد أنَّ الذوق الشخصي هو الركيزة الأولى في عمليَّة النقد (انظر ص 26- 27) وتبعًا لذلك، يشير السَمْرة إلى أن عميد الأدب العربي، في بعض نقده، يتجنب القول بأن النقد علمٌ، مؤكدًا أن النقد مزيجٌ من العلم والفن، فقد ردَّ على العقاد في بعض مقالاته، قائلا « أنا لا أقول: إن النقد علم، ولا أحبُّ له أن يكون علمًا، إنه مزيج من العلم والفن. « أي أن النقد، في رأيه، تحول من علم، في ما كتبه عن أبي العلاء، إلى فنٍّ فيه نكْهَةُ العِلْم (انظر ص 41). وبما أن طه حسين ظنَّ في البداية أن النقد علمٌ كغيره من العُلوم، فقد وظف هذه النظرة العلمية في دراسته للشعر الجاهلي وتاريخه(1926) . تلك الدراسةُ التي أثارتْ الكثيرَ من السخط، وردود الفعل السلبية. ولا جرمَ أن المسألة – وهو يعني ها هنا الشك في صحة هذا الشعر-  ليست من ابْتكاره، فقد سبقه للشك فيه كثيرون؛ بدءًا بابن سلام(237هـ)، ومرورا بالمستشرق الألماني آلوورد Alwardi وتشارلز ليال Lyal في مقدمته لتحقيق المجلد الثاني من المفضليات(1918) وانتهاءً بمرجوليوث الذي تناول الفكرة في مقالٍ له عن أصول الشعر العربي1925.  وخلاصة رأي عميد الأدب العربي في هذا الشعر أنه مَنْحول، إذ لا تتجلى فيه الحياة الجاهلية بجوانبها كافَّة، ولا الفروق اللغوية التي كانت شائعة بين الشمال والجنوب، وسِيَرُ الشعراء- مثلما جاءت في كتب الأخبار والتراجم- سِيَرٌ متناقضة ، مُفْتعلة، ولا يتقبَّلُ العقلُ، ولا المنطق، الكثير مما قيل فيها، أو يُقال. وقد رَدَّ عليه مستشرقون، ووصفوا آراءه هذه بالتطرف، والمغالاة، فأعاد نشر كتابه هذا بعنوان آخر، هو « في الأدب الجاهلي « بعد أن أضفى عليه شيئا من خِفَّة اللهجة، دون أن يتراجع عن آرائه مثلما وَهِم شارل عيساوي (انظر ص 49).
 وَحْدةُ القصيدة
ولطه حسين رأيٌ في القصيدة العربية. فهي في بداياته قصيدةٌ مفَكَّكة، تَفْتقِرُ للوحدة. ودليل ذلك ما يقوله في كتابه حديث الأربعاء: « وبقيَتْ القصيدة معتمدة على وحدة القافية والوزن، غير معنيَّة بوَحْدة المعنى» ولكن عميد الأدب العربي لا يتمسك بهذا الموقف، ففي جزء آخر من الكتاب نفسه يقول عن معلقة لبيد ما يأتي: « إن وحدة المعنى موجودةٌ في معلقة لبيد، وتفكُّكُ القصيدة، واقتصارُ وحْدَتها على الوزن والقافية دونَ المعنى، أسْطورةٌ يا سيدي.» (انظر ص 52) واللافتُ أنَّ طه حسين – مع حبِّه للتراث العربي، شعره ونثره، ومع ذوده المستمر عن غُرَره، ودُرَره، لم يتصف موقفه من التجديد بالتزمُّت الذي ألفيْناهُ لدى بعض معاصريه كالعقاد، الذي اتهم شعراء المدرسة الجديدة أمثال: نازك الملائكة، والسياب، وصلاح عبد الصبور، بالعمالة للاستعمار، يقول ردًا على هذا الموقف المتشنِّج في إحدى مقابلاته « أنا لا أرفض الشعر لخروجه على عموده، وعلى قواعد الخليل، إنني أرفض الشعر عندما يعجز عن تحقيق شرطين، هما: الإخلاص، والجمال، وجِدَّة الصُور، والكتابة بلغة عربيَّة سليمة « (انظر ص 66) .
وقوله هذا لا يقتَصِر- في الواقع - على شرْطيْن، وإنما هي أربعة أشراط، وأحد هذه الشروط لا صِلة له بالشعْر، أو بالفنّ، وهو الشرط الأول، ومن هذا الشرط يتَّضحُ أن عميد الأدب يعتمد في قبوله، أو رفضه، للشعر على مِعْيار ذاتي، فالإخلاص، والجمال، وجِدَّةُ الصور، وسلامة اللغة، معايير نسبية، ومقاييس تختلفُ من قارئ لآخر، وهذا يقربنا من تقويم أستاذنا لمسيرة طه حسين ناقدًا. فقد بدأ موْضوعيّا (علميًا) وانتهى ناقدًا ذاتيًا، انْطباعيًا، للذوق المصقول عنده المقامُ الأول (انظر ص 66). فهو، على سبيل المثال، يُثني على لزومياتِ أبي العلاء المعري، زاعمًا أنها الصورةُ الحقيقيَّة لشيخ المعرَّة. ويتساءل أستاذنا، قائلا « هل يكفي أن يكون الشعْرُ صادقاً في التعبير عن شخصية صاحبه ليوصفَ بالجودة؟ ويحظى بالاسْتِحْسان؟ ويضيفُ: قلَّ من يجد في لزوميات المعري، ودرْعياتهِ، شعرًا جيدًا» (انظر ص 73). 
وفي كتابه « مع المتنبي « يخلطُ عميدُ الأدب العربي بين دراسة الشعر منْ حيْثُ هو فنّ، والدراسة الرامية لاسْتخراج ملامح الشاعر، وشخصيَّته، من شِعْره. لكنَّه في الفصل الأخير من الكتاب يرفض النظرية التي تقول إنَّ الشعر مرآة تتجَلّى فيها نفسيَّة الشاعر. ومع أن شعر المتنبي بعيد عن أن يكون ترجمة لحياته، أو تصويرًا لذاته، فإنَّ قصائده التي قالها في السنوات التسع التي قضاها في بلاط سيف الدولة الحمْداني من أروع ما قيل في الشعر العربي. (انظر ص 78- 79). 
 كلمة أخيرة
وأيًا ما يكن الأمرُ، فإن لطه حسين رأيًا في مهمَّة الناقد، إذ من الخطأ، والخطل، عندَهُ، أن ينشغل الناقد في البحث عن شخصية الشاعر في شعره، وفي هذا يتَّضح – في رأي أسْتاذنا- الفارق بين طه حسين والعقاد؛ فالشعر الجيّد لديْهِ ليس مرآة لتجارب صاحبه، وليس ذكرًا دقيقًا لحقائق التاريخ، والواقع، وإنما الشعرُ الجيدُ هو الذي يُؤَثِر في أحاسيس القارئ، ويستثير تصوُّره، وينشِّط مشاعرهُ، وفكره. وتعقيبًا على هذا يقول الدكتور السمرة: إن نظرية الذوق(الانطباعيَّة) لدى عميد الأدب العربي نظريةٌ قِوامُها الصدقُ، وجودة الصور، والبعدُ عن التشبيهاتِ والمجازات الغريبة، وأنْ تكون الألفاظ سهلَةً موحيةً، والموسيقى مناسبةً للعاطفة.
وبهذا يتضح لنا أن الراحلَ السمْرة في كتابه عن « طه حسين- سارق النار « لا يكتفي بموقف من يقدم للقارئ كشفًا بحساب الناقد مَوْضِعِ الدراسة، وموْضوعِها، وهو- ها هنا- عميدُ الأدب العربي طه حسين، وإنما يُسلّط الضوء على ما يتناثرُ في جهوده النقدية، وآثاره الأدبيّة، من مَلاحِظ شاردَة، أوْ لائذَة، تنمُّ على التغيير حينًا، وعلى التقلُّبِ، والتناقُض، أحيانًا أخرى.