Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Feb-2019

قراءة أوَّلية بمجموعة «امرأة حجرية» للشاعر مهدي نصير

 الدستور-مجدي دعيبس

في البداية لا بد من القول أنني لست ناقدا ولا عالما بخبايا النقد ونظرياته؛ لكنني أقرأ الشعر كما يفعل الكثيرون وأحاول أن أتحسس النص لعلني أصل إلى الدهشة المكنونة بين ثناياه. فهذه فرصة لمعرفة رأي قارئ غير متخصص تربى على قصيدة الفراهيدي؛ ولكن ربما لديه أفق ونية سليمة للتصالح مع القصيدة غير الخليلية ما دام الجمال والابتكار هما السمتان الطاغيتان على النصوص.
من خلال اطلاعي على المجموعتين الأخيرتين للشاعر مهدي نصير وهما ايقاعات ثمودية وامرأة حجرية يبرز أمامي عنصر الغزارة. مجموعة امرأة حجرية تشتمل على (77) قصيدة متفاوتة الطول علما بأن مجموعة ايقاعات ثمودية صدرت قبل أقل من عام وتشتمل على (86) قصيدة. عند تتبع التاريخ المثبت في ذيل القصيدة يتضح أن المجموعة كتبت على مدى نصف عام وهذا يعني أن الشاعر لا يتعنّى الفعل الشعري ولكن هي عملية انتقال وتطور سلسة من الهاجس إلى الفكرة وانتهاءً بالورق الأبيض والغزارة المنضبطة هي من عوامل القوة للشاعر والمقصود بالمنضبطة هي تجنب التكرار بالموضوعات والصور والمفردات ما أمكن.
الملاحظ في أكثر من موضع أن أوزان الخليل تظهر وتختفي بدون نسق واضح ويبدو أن الخروج يأتي تحت ضغط المعنى والصورة المتجددة والمفردة الموحية التي لا تحملها البحور والتفعيلات المعروفة او هو فعل لا قصدي مدفوع من العقل الباطن للتخلص من ظلال المدرسة الكلاسيكية والتوجه إلى آفاق أرحب تتسع لأغراض الشعر وخطابه القابل للحياة بدل الصور التي باتت مكشوفةً ومتكررةً بشكل ايقاعي متوقع. وهذا التزاوج بين الوزن واللاوزن يضيف للنص شيئا من الموسيقى الداخلية وهي ايقاع تحضيري لصخب المعنى في المقاطع اللاحقة الخارجة عن الوزن. ربما يكون هذا الفعل مدروسا وربما هي عملية تلقائية بدون تصميم وتخطيط مسبقين. وعلى أي الحالين هو أسلوب موفق حقق للشاعر مراده.
القصائد متفاوتة الطول بين القصيرة جدا وعددها قليل مثل عواء، امرأة ومطر أشعث والقصائد المطولة وهي أيضا قليلة مثل امرأة حجرية ونبيذ متأخر وغزلية لامرأة سقطت في حروب قديمة وأغلب المجموعة من القصائد المتوسطة التي تعطي القارئ الفرصة لتتبع الصور وخط القصيدة. ما هذا إلا دليل على أن الشاعر لديه النفس اللازم للقصائد الطويلة الذي قد لا يتأتى للبعض كما لديه القدرة على توظيف قصيدة الومضة إن صحت التسمية بشكل جميل.
بالرغم من سهولة اللغة المستخدمة إلا ان بعض القصائد لا تمتاز بالمجانية والمقصود انكشاف المعنى المراد ايصاله أو الصورة التي تشكلت في ذهن الشاعر من القراءة الأولى. وبالتالي هناك دور للمتلقي للبحث والتمعن بالصور والمفردات والنبش بالتاريخ الذي يستند عليه  الشاعر والاسطورة التي يغرف منها ويوظفها لأغراضه الشعرية. 
الصوت الشعري: قصائد المجموعة تشي بملامح صوت شعري له خصوصية واضحة يمكن الاستدلال عليها من خلال عدة أمور تظهر بشكل متكرر في أغلب النصوص:
 أولا: اسلوب استخدام (كان) حيث يوردها الشاعر بشكل متكرر ومدروس وكأنه يترك للقارئ اشارات للتعريف بصاحب النص دون التصريح باسمه جهارا. وكمثال من ضمن عشرات الأمثلة على ما أسلفت أورد مقطعا من قصيدة فرح بسيط: كانت العتمة ترتدّ/ وكان الشارع الخلفي ينمو/ كان يعلو/ كان يمتد ويلقي ظله فوق المدينة. استخدام كان بهذا الاسلوب يحقق عدة منافع أولها الموسيقى التي يشتد عودها من خلال تكرار لفظة (كان) وخاصة في الجمل الشعرية القصيرة كما تضفي على النص صبغة حكائية وتقدمه بطريقة محببة.
ثانيا: حضور الأب ومخاطبته في أكثر من موضع. انظر المقطع الأخير من المجموعة وهو من قصيدة تماثيل عارية: أبي أين أنت الآن؟/ كيف تركتني وحيدا/ وحولي كل هذا الخراب؟ وايضا المقطع الأخير من قصيدة مريض: أبي يتكي فوق موقده البارد الحجري/ يصلي قعودا...إلى آخر المقطع. ربما يعود هذا الامر لاعتبارات ثقافية تشير إلى مكانة الأب في المجتمع الشرقي او أن الاسئلة التي تنطوي على حيرة كبرى توجه إلى الأب لأنه رأس العائلة ومستودع الحكمة والطيبة.
 ثالثا: القاموس اللغوي للشاعر ومفردات بعينها تتكرر ويستخدمها للدلالة على أكثر من معنى معتمدا على أبعادها الإيحائية مثل: معطف الصوف، مطر، فضة، الليلك، نياق والعظاءة. كما ظهرت أيضا مفردات من خارج الإطار اليومي مثل الأشنات، العهن، اللازب، يدحو، دواسر، الرقم وهسيس. تكرر أيضا استخدام بعض الافعال بصيغة غير تقليدية مثل يصّاعد ويسّاقط وهذا من الأشياء التي تصنع هوية لغوية للقصيدة.الملاحظة الأخرى أن كلمة الحجري أو الحجرية تكررت في المجموعة بشكل ملفت قد تزيد عن خمسين مرة (الكوب الحجري، أرنب حجري، الموقد الحجري، الماعز الحجري،...). لا أعرف إن كانت محاولة من الشاعر لمصادرة هذه الصفة وربطها بشعره أو أنه هناك أسباب ثقافية وراء هذا الافتتان بهذه المفردة. وربما تكون مصادفة بريئة بعيدة كل البعد عن الاحتمالات الصعبة.  
رابعاً: القصيدة الحوارية كما تجلت في قصيدة (نبيذ متأخر) وقصيدة (موسيقى أيضا) جاءت لتخرج القارئ من رتابةٍ ربما انزلق اليها بفعل كثرة قصائد المجموعة، جاءت لتغير طبقة الصوت وأسلوب الخطاب فيستشعر القارئ حلاوة مختلفة ورنة مغايرة لما قبل وما بعد. تعدد الأساليب يعد من وسائل الجذب وعدم الانزلاق إلى مطب النغم الأحادي الذي يشد القارئ الى مستنقع الملل. انظر هذا المقطع من قصيدة (نبيذ متأخر): -شربتُ من نبيذ غيرك الكثير/ -هل ارتويت؟/ -كنتُ أبحث عن نبيذك/ -اشرب الآن نبيذي/ -انه مر/ -تعتق في حقيبتي الصغيرة. 
خامساً: عالج الشاعر موضوع الغزل بطريقة مغايرة وابتكر صورا وأساليب غير مألوفة وبعيدة كل البعد عن الفجاجة والمباشرة والتقليد وظهر لي ذلك في قصيدة (قصيدة حب ناقصة). حبيبتي/ هل أنت من ملأ السلال/ وأثث السماء بالمطر المزخرف بالنقوش/ والمساء الفارغ بأصابع دافئة/ واصطحب الليلك في الصالة/ واصطحب الشتاء للمطبخ كي يجلس قرب النار/ يشرب الحليب مع قليل ساخن من الخبز الهش. إن جاز لي القول فإن الشاعر يحلق في قصيدة الغزل ويجود فيها كجود حاتم الطائي فتكون الصورة بهيةً والفكرة قريبةً وغير مطروقة. وهو لا يشبه غزل نزار ولا غزل السابقين والمجيدين. قصيدة (عطر هادئ) من الغزل الناضج الذي يستخدم صور يومية لكنها تضج بالحياة وتطلق المخيلة لترسم التفاصيل الدقيقة التي لم يذكرها الشاعر.  
سادساً: بعض الصور الشعرية تغوص أحيانا في رمزية مجهدة للقارئ لكن أغلبها صور حية وهي أقوى عنصر في المجموعة لتجددها وتوالدها السريع والمباغت. انظر قصيدة (رصاص في الحديقة): اصابع امرأة أفاقت في الصباح/ وحاولت رتق السماء. انظر ايضا قصيدة (سلسلة نحاسية): كنت تحملين في يديك عبوتين من نبيذك البيتي/ وجها من طفولة لذيذة وحلما مستحيل. وأيضا من قصيدة (مطر): وكانت السماء كالنوافذ الشتوية مغلقة. ومن قصيدة (عمان): أين وجهك الصغير يوقظ الصباح. ومن قصيدة (غزلية لامرأة سقطت في حروب قديمة): كان لوجهك أجراس اذا جئت/ تقرع كالصليب. ومن قصيدة (لماذا مضيت): لماذا مضيت وكانت بساتين لوزك توشك أن تتبرعم؟/ كان قلبك يتخم بالعسل الجبلي/ وكانت عناقيدك البيض توشك أن تتحول خمرا/ ووجهك يوشك أن يتسلق نحو مداراته الدائمة.
سابعاً: الأسطورة حاضرة في مجموعة امرأة حجرية من خلال قصيدة (ألواح جلجامش الضائعة). وجلجامش هي ملحمة سومرية معروفة تتحدث عن رحلة الملك جلجامش للوصول إلى الخلود. عدد الألواح المكتشفة هو اثني عشر. استكمل الشاعر الملحمة من خلال اكتشاف ثماني ألواح جديدة تسرد ما حدث مع الملك بعد عودته من الرحلة.  الاسوار والعشبة والأفعى مؤشرات على ما حدث مع الملك خلال سفره مع صديقه انكيدو الذي مات. إن توظيف الأسطورة بهذه الطريقة يعيدنا إلى الشعر اليوناني القديم الذي انطلق من الميثولوجيا وحكايات الآلهة واليونان هم جزء من تراث هذه المنطقة الثرية التي مزجت أساطير وحكايات وحضارات متعددة في حضارتها واسطورتها المتجددة. 
في الختام علينا أن نؤكد أن الشاعر مهدي نصير شاعر مجيد ومجدد. نحن ننظر إلى الشعر على أن مفتاحه هو الفهم من منظور المنطق الرياضي المعروف؛ واحد زائد واحد يساوي اثنان بينما هو يريدنا أن نطرح الفهم جانبا ونتجه للشعور وألا نحشر أنفسنا في زاوية ضيقة لا تستوعب المساحات التي يتحرك فيه الشعر. ربما يعود هذا إلى المدرسة التقليدية التي تحوصلنا فيها ولم نجرؤ على الخروج على بحورها وتفعيلاتها. غير أنني وجدت الروح القديمة تتلبس بعض القصائد ولكن بحلة جديدة مثل قصيدة (عليك أن تقف) ولا أعرف أن كان هذا من أسباب اعجابي بهذه القصيدة الجميلة أم أنه أسلوب المعالجة وليس الموضوع.
هذه القراءة هي قراءةٌ أوَّليةٌ في عملٍ قابلٍ للتأويل والقراءات المتعددة، وهذه القراءة من قاريءٍ يتذوق الشعر وليست من ناقدٍ متخصص.