Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Sep-2020

الشعر البصري والإعلان… أداة تسويقية أم قيمة أدبية؟

 القدس العربي-آية عبد الحكيم

يلجأ الشعراء والمروجون إلى خيارات وانحرافات محددة الهدف، بشكل منهجي عن المعايير اللغوية، لرغبتهم المستمرة في الحاجة إلى التعبير عن أنفسهم وما يشعرون به. وبقدر ما يبدو هذا تجديفا على فن الخطاب الرفيع بالنسبة للشاعر، هناك مشترك واحد بينهم وهو «القتال الشاق مع اللغة».
قد يبدو للوهلة الأولى أن الإتيان بمقارنة بين الفن الشعري والإبداع الإعلاني، أمرٌ غريبٌ، ربما لأن تخيلنا الجماعي، يربط بين شخصية الشاعر، والشخصية العبقرية المستوحاة من عالم الدعاية، حيث الغرض وراء الرغبة في كسب ثقة الجمهور، وزيادة حجم المبيعات، تقودنا إلى الاعتقاد بأن الفن بشكل عام (والأدب بشكلٍ خاص) يندرج ضمن مصالح الأسواق، وعلى العكس من ذلك، لا تتبع الأعراف الفنية الجمالية أسباب الربح. وعليه، إذا تفحصنا القانون الأدبي الغربي، سوف نجد العديد من نقاط التصادم بين الإبداع الشعري وفن الترويج، وبالتالي بين الإعلان والأدب. وكان الشاعر الإيطالي «باولو بازوليني يرى أن الإعلان لم يكن ولا يمكن أن يكون شكلا من أشكال الفن.
فإذا أردنا أن نتفق مع فكرة أن الفن هو كل شيءٍ قادر على خلق شيء يساوي نفسه إلى الأبد، ومختلف في الوقت نفسه عن نفسه، بمعنى أن الفن يخلق ويدمر ويتحول ولكنه خالد، أي أنه قادر على التواصل في فترات مختلفة بطرق جديدة وغير متوقعة. على العكس من ذلك، فإن الشعار ليس سوى لعبة كلمات فارغة، يمكن أن يتردد صداها على أفواه الناس لبضعة أشهر أو موسم، أو عقد على الأكثر، ولكن سيموت بعد ذلك حتما. ولكن هل يتألف الشاهد الوحيد للتمييز بين الشعر و«الشعار» من خلود الأول مقابل زوال الثاني؟ ألا يمكننا أن نقول بأن شعار الإعلان، مثل أي شكل من أشكال الفن، يتكيف مع الظروف التي يزدهر فيها؟ خاصة في مجتمع سريع مثل مجتمعاتنا، أليس من الطبيعي أن يصبح الشعر ظاهرة متسارعة وعابرة ومضطربة مثلنا جميعا؟
 
اللغة الشعرية والإعلان
 
العلاقة بين اللغة الشعرية والإعلان تقوم على عدة عوامل، حيث أنها متغيرة مع العديد من الثوابت والعكس صحيح: العصر، المنتج، العلامة التجارية والذوق والمعدل الفني للعدد الإبداعي. هذا إذا اعتبرنا أن التعايش ما بعد الحداثي وتلوث الأنماط صالح أيضا للفن الإعلاني. بخلاف ذلك، هل من الممكن أن نميّز أخلاقيا بين إدراج الشعر والإعلان؟
يرى الشاعر الأيطالي يوجينيو مونتال، أن الإعلان يجذب مشاعرنا، ورغباتنا، واللاواعي وغير المعبّر في داخلنا، لكن بغرض استغلاله وإخضاعنا للنظام الرأسمالي الذي يغذيه. إذ يريدنا الإعلان أن نصدق أن الروحانية (اليتيمة الفقيرة في عصرنا) والسعادة الداخلية، يمكن العثور عليها في هذه السلع المادية. المشكلة هنا أنه لا يمكننا التمييز من الناحية الجمالية، ولا من وجهة النظر الأخلاقية، لأن الإعلان ببساطة يستخدم أداة الشعر نفسها بالضبط، و هي «البلاغة» ولأنه مثل أي شكل من أشكال اللغة يتطور داخل الثقافة، من سياسة أو نظام قائم مسبقا. ومن هنا تشير ميسون قطب في دراستها المشتركة مع اساتذة التصميم في قسم الإعلان في كلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، والمعنونة بـ«تصميم الإعلان بين البلاغة البصرية والمعرفة البصرية» إلى أن البلاغة البصرية تساهم بشكلٍ واضح في جذب انتباه الجمهور ونقل الرسائل الإعلانية، حيث أن اختيار اللغة البصرية المناسبة لتجسيد المعاني والأفكار وعمل معالجات غرافيكية، وتصميم نسيج بلاغي، يزيد من قوة تأثير الفكرة الإعلانية، من خلال تحويل أو تشفير المعنى جماليا، من خلال ربطه بالمنتج بلاغيا، سواء بالتشبيه أو بالاستعارة أو المجاورة.
ومع ذلك فإن التمييز يكمن في اختيارنا نحن، في اختيار عدم استغلال اللغة، وأن نمنحه قدرته على أن يكون حرا جزئيا، على الأقل في مجتمع معدوم الحرية كمجتمعنا. وعليه، فإن اقتصاد التصنيع الرأسمالي له قوة في التلاعب باللغة والأسلوب والخطاب. تلك القوة تسهم قبل كل شيء، في الإثراء الجمالي للمجتمعات المعاصره، وبالتالي، فإن الإعلان كخطاب، سيكون معالجا لأشكال التعبير التقليدية. ومن هذا المنطلق، يؤكد المفكر الفرنسي جاك دوراند، على أن الإعلان إذا كانت له مصلحة ثقافية، فإنه مدين له بالنقاء الخطابي، ليس لما يمكن أن يجلبه من معلومات حقيقية، بل لنصيبه من الخيال. وباختصار، فإن لعبة الإعلان، إلى جانب النبذ الذي تتعرض له، تساعد على نقل التراث السيميوـ الثقافي للمجتمعات.
 
العلاقة بين الشعر البصري والإعلان
 
إن مصطلح ‘الشعر البصري» يعود هنا إلى ذلك الشعر الذي يعطي نفسه ليُرى كما يُقرأ. يلعب دائما على تجزئة النص، واحتلال السطح مثل «الفضاء البلاستيكي» مع مراعاة الأيقونية في الكتابة لخلق آثارها في المعنى، إلى حد إدراج الصورة كمكون خاص بها. وقد تضمن هذا النوع من الشعر منذ بداية القرن العشرين، حركات طليعية مختلفة، وبالنسبة للنصف الثاني منه: السخرية، والشعر الخرساني والابتدائية، والرسومات إلخ، في الفترة المعاصرة، أصبحت الألعاب الرسومية الآن جزءا من المفردات الشائعة للعديد من الشعراء، الذين لا يقعون بالضرورة تحت هذا الشعار.
 
 
تشرح الناقدة الأدبية مارجوري بيرلوف في دراستها المقارنة لتاريخ الشعر المرئي والإعلان «الراديكالية: كتابة الشعر في عصر الإعلام» إن النصوص الإعلانية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت طويلة وتتضمن تفسيرات تفصيلية للمنتجات وخصائصها، ولكن يتم بعد ذلك اختزال هذه النصوص إلى كلمة واحدة أو كلمتين. كان الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، أول من فهم الإمكانيات التي تتيحها تكنولوجيا الطباعة للشعر في القرن التاسع عشر، ولا يزال عدد كبير من شعراء القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، يطالبون في ما يتعلق بالديناميكيات التي يوفرها العمل المطبعي، والطريقة التي يمكنهم من خلالها إدارة أفكارهم، أو إبرازها من خلال حجم الحروف، واستخدام الخط الغامق أو المائل، أو الأحرف الكبيرة، أو الخطوط المختلفة. ومن هنا كان التأثير الأول لهذا الاتجاه هو اختراع ما نسميه «قصيدة الإعلان» إذ نلاحظ أوجه الشبه بين اللوحات الإعلانية والقصائد التي يكتبها الشعراء البصريون، فالقصيدة البصرية تعيد استخدام عمليات اللوحة الإعلانية، لكنها في الوقت ذاته، تعكس «تخريب» أدوار المسيطر (الشاعر). فعلى الرغم من تميز القصيدة المرئية بقوتها التحليلية، لكنها تتجاوز اللغة وتدفعها نحو التجريد. على سبيل المثال القصيدة الإعلانية للشاعر البرازيلي فرانكلين كابيسترانو التي جاءت للاستغاثة: جاءت الأحرف الثلاثة ( S.O.S.) اختصارا لجملة «Save our Souls» أي أنقذوا أرواحنا. التخريب الذي قصدته يظهر هنا في تحويل كابيسترانو دلالة اللفظة «subservivio» التي ترتبط بالحياة، إلى معنى مسيس من خلال كلمة subvertido» « التي تعني التدمير والخراب. فوفقا للشاعر البصري أوجينيو موتشيني أصبحت لغتنا اليومية سلعة جنونية تحتاج الكثير من النكهة العقلية. لهذا فإن الشعر البصري هو تغيير «شبه سيولوجي» لجميع الأحداث الأنثروبولوجية في عصرنا، حيث أنه لا يتجاهل الحضارة وحسب، بل ينكرها ويعزلها، فيمكننا القول إنه يعيد بناء رماد الغموض ترتيبا من الدلالات البشرية، التي تتجاوز الاغتراب، حتى في الشكل الحقيقي أو الظاهري للعيش في الاغتراب. لهذا السبب فإن الشعر البصري هو «نفي للنفي». وبعبارة أخرى، هو الإقناع الجمالي في مواجهة الإقناع النمطي.
والواضح أن مسار الشعراء البصريين تحول بعيدا عن اللغة، من خلال استيراد الصور والرسوم التوضيحية وشعارات العلامات التجارية، ثم إرفاقها بنصوص قصيرة، غالبا ما تتضمن تلاعبا بالكلمات والأحرف وأحيانا الأرقام. ومن هنا يرى موتشيني، أن الشعر البصري، يحول وسائل الإعلام إلى ثقافات جماهيرية، لكنه يتسبب ـ بعنادٍ واضحٍ ـ في مشكلة نظريات الاتصال «غير الشرعي» أي استخدام الرموز وتجريد اللغة، وبالطبع إلى انحراف المعنى، والانقلاب الساخر للدلالات، وعدم القدرة على التنبؤ الذي يثير الحاصل الإعلامي. فالشعر البصري لا يقترض كلمات ورموز اللغات الأخرى وحسب، ولكن أيضا كل ما ينتمي إلى الاقتصاد المشترك، أو العلامات النقدية، كما جاء في القصيدة البصرية للشاعر المكسيكي ماتياس جوريتز: «نوافذ روستا الساخرة».. دولة يخدمها 150 مليون يد وكلمة. إن أشهر القصائد البصرية تم إنتاجها في روسيا. فمن منا لم تعبر مسامعه تلك الشعارات السوفييتية المشهورة، التي انتشرت إبان الحرب الأهلية مثل «الوطن يناديك» و«هل تطوعت كجندي؟» والعديد من العبارات الأخرى التي كان تهدف إلى تعزيز الوطنية والقيم الإنسانية خلال تلك الفترة.
إن مضامين تلك الشعارات لم تتضمن رسائل حادة وحسب، بل تم توظيفها في شكل القصيدة البصرية، حتى أصبحت بمرور الوقت نوعا منفصلا من الفنون الجميلة السوفييتية. وقد تشكّل منها نوع منفصل من فن الملصقات الدعائية، عُرف بـ«نوافذ روستا الساخرة أو الهجائية» التي تعاون في كتابتها وتصميمها العديد من الشعراء والفنانين السوفييت، تحت إشراف الشاعر الروسي المعروف فلاديمير ماياكوفسكي ومصممي الرسوم البيانية ألكسندر رودشينكو وميخائيل تشيريمنيخ. وقد أصبحت هذه القصائد البصرية ظاهرة استثنائية في تاريخ الفن الشعري والبياني السوفييتي.
في 7 سبتمبر/أيلول 1918، قررت رئاسة اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا، إنشاء وكالة التلغراف الروسية «نوافذ روستا» لتصبح هي السلطة المركزية الفعالة والمسؤولة عن حملات الدعاية والتغطية الإعلانية، لمختلف الأخبار العسكرية، وأيضا لتشويه السمعة البورجوازية لمعارضي السلطات الجديدة. وبالطبع انتشرت هذه القصائد المرئية بسرعة جبارة، في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي، وتم توزيعها في جميع الأماكن العامة، ونقلت رسائلهم إلى كل مواطن سوفييتي.
أصر ماياكوفسكي على أن تكون القصائد الإعلانية قريبة قدر الإمكان ومفهومة لعامة الناس، بدون أي بيروقراطية، فلم تصبح هذه الملصقات الشعرية التي تحمل دلالات قوية ورمزيات خاصة، نوعا منفصلا من الفن التشكيلي وحسب، بل أصبحت أيضُا آلية قوية لتشكيل الرأي العام. وهذا ما يثبت أن تأثير الفن الأدبي والتشكيلي يمكن أن يمتد إلى الأحداث السياسية والعسكرية. ونلاحظ أن الرسومات التوضيحية أعلاه، اعتمدت بشكلٍ رئيسي على ثلاثة ألوان فقط، وكانت لها رمزية معينة. حيث تم تصوير الأبطال باللون الأحمر، والأعداء باللون الأسود، لتكون هذه الرسائل الإعلامية مفهومة للأميين ايضا، كذلك استخدموا تقاليد المسرح الشعبي. ومن ناحية أخرى طوروا لغة الطليعة، من بنات أفكار العصر الحديث.
وبالطبع لم يكن الإعلان بالنسية لرودشينكو وماياكوفسكي مجرد مسألة تجارية فقط، بل كان شكلا من أشكال الفن التقدمي. فقد كان هذا المزج بين العبارات الشعرية الرنانة، والرسومات البسيطة، هي طريقتهم في كسر النمط التقليدي للتعبير. على الرغم من تعرض ماياكوفسكي للاتهام والنقد من قبل الشعراء والنقاد، لربطه الشعر بالأنشطة الإعلانية، حيث أنها مهنة رديئة بالنسبة للشاعر.
ومن هنا فإن القصيدة البصرية، مهما تعددت وسائلها ونواياها، حتى في تلك الأعمال التي يقل فيها المحتوى اللفظي، دائما ما تكون شاعرية، وتستخدم في الواقع أساليب التعبير نفسها المستخدمة في الإعلان المطبوع، أو «البوسترات» على الرغـــــم من أن غرض الإعلان هو إبراز صفات منتج معين للمجتمع الاستهلاكي. ففي القرن الحادي والعشرين، ربما نتجه نحو استكشافٍ جديد للكلمة والصورة، في ممارسة الشعر والفن البصري، وربما حتى الإعلان، في ظل تعدد أساليب الإنتاج والتوزيع، وتقارب الوسائل التي تشمل الإنترنت والنشر السريع، والاهتمام المتزايد بالصورة والنص.
 
٭ كاتبة مصرية