Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Mar-2020

متلازمـــة المرايـــــــا

 الدستور-نايف النوايسة

مثل كمأة انشقت عنها الأرض نبتت خيمته الشاحبة بين دارين قديمتين قبالة المسجد الكبير..  هو يأتي كالحلم بغتة ويغادر فجأة من غير ميعاد، ولو تواعدنا وإياه ما اتفقنا.. رأيتها من بعيد فأكّدتْ لي سيارتُه الزرقاء العتيقة أنه هو لا سواه.. فما الذي جاء به بعد انقطاع، وكاد الناس يحذفونه من خوابي ذاكرتهم.. دفعني هوس الفضول إلى استطلاع أمره، فانعطفت بسيارتي لتحاذي سيارته.. هو يعرفني جيداً.. دنوت حتى  أصبح  باب الخيمة المُسْدل يُواجهني كالشمس بلا حجاب.. جلست على حافة الانتظار لا تغيب عيني عن باب الخيمة.
باب الخيمة شرّطتْه السنين، وهو باب على أي حال، وسواء أسدله أم لم يسدله فإنه يستر ويشعرك بأن الخيمة لها حُرمة.. حركتُه مع كل نسمة تُشعرك بشيء ما فتظل متنبهاً.
خرج من خيمته بسمته المعهود، وبذلته الكالحة التي أشتراها من البالة ذات عقد تحكي قصة الزمن بلا فضول.. البذلة أوسع منه حتى بدا فيها مثل مهرج في سيرك، وما زالت ربطة العنق على هيئتها منذ اشتراها تصل إلى أسفل فتحة بنطاله وهو حريص على ذلك ولا يجد فيه ما يُعيب.. ولم يفارقه الشماغ مطلقاً وكأنه كماله لا يتم إلاّ بالشماغ والمرير.. هو قصير لا يتجاوز طوله المتر والسين سينتمتراً..
حمل اليافطة التي حفظ أهل البلد تفاصيلها مثل كتاب مقدس ومكتوب عليها كلمة(المرشح) وعلقها بعناية على ناصية الخيمة وعاينها وهو يُميل رأسه جهة اليمين وجهة الشمال كمن يعاين تميمة على كتف طفل.. تأمل الخيمة وبابها واليافطة وكأنه أمام مصفوفة مرايا يرى ما في داخله من خلالها، وحين التفت إلى سيارته لمحني ثم دخل خيمته برهة من الزمن..
يافطة المرشح، منذ ثلاثة عقود تواجه السماء بلا حرج، والمرشح مُصرٌّ على أن يظل حاملاً هذه الصفة على الرغم من أنه أصبح عضواً في مجلس النواب..
ما الذي يدور في رأسه؟
خرج ثانية واستطلع الشارع وتقدم خطوات نحوي وأشّر لي بأن أدخل.. هرعت ولم أكن مصدقاً كل ما أرى؛ هذا الرجل الذي كان بالأمس سخرياً غداً ذا شأن! يا إلهي كيف تسير سنن الحياة، إنّا نحار في وصفها؟!
دخلت متوجساً خيفة من هذه العودة للمرشح، ماذا وراءه؟ لم أجد في الداخل إلاّ كرسيّه المعتاد.. استأذنته لأُحضر كرسيي من السيارة وفق شرطه القديم كما قال ذات يوم: من كان يريد أن يكون من أنصاري فليحضر معه كرسيه وحاجاته فأنا لا أملك إلاّ هذه السيارة والخيمة وكرسيي..
عدتُ إليه فوجدته أمام مرآة صغيرة علقها في عمود الخيمة وكان يتأمل وجهه ويضحك.. ربما كان يثرثر في غيابة سرّه.. وعلّق على الجانب الآخر من العمود قنديل الكاز وأشعله.. جلس أمامي وحملق في وجهي طويلاً ثم ثنى رجلاً على رجل وسرح مع نظره بعيداً.. كان جامداً مثل أبي الهول..
جذبتِ الخيمة كل من يعرفها، رفع أول الداخلين بابها على ظهرها.. كلمة(المرشح) كفيلة بجمع البلد كلها.. من دخل كان يحمل كرسيه معه وبعضهم حمل الماء والقهوة، وأخذ الجميع أمكنتهم التي عهدوه منذ عقود.. تنعقد الثرثرة وتحليلات الواقع وبين فينة وأخرى يتداخل المرشح بنكتة أو تعليق يثير الضحك.. هذه الجلسات حملت في ثناياها طرفاً من التأريخ الاجتماعي للمنطقة..
في هذه المرة آثر المرشح الصمت، وقد خبّأتُ في نفسي سؤالاً سأوجهه له حين تسنح الفرصة لكن أحد الحضور تنحنح، فسكت الجميع ورفع المرشح رأسه صوب النحنحة وانتظر كلاماً: أريد أن نفهم حاجة واحدة هي إصرارك على أن تحمل صفة المرشح وأنت اليوم نائب في البرلمان؟
كان ساهم الطرف وعيناه تحلقان بعيداً وبالكاد يعود إليهم، قال وهو يداري بسمة مختصرة: أُفضّل أن أكون مرشحاً في مثل هذا المجلس البائس، لعل وعسى نرى مرحلة أقتنع فيها بأنني نائب..
طأطأ رأسه والتزم الصمت وكان ينتظرون منه شيئاً جديداً، كانت الخيمة آنذاك عدسة مقعرة هو مركزها.. كان يستفز العيون بصمته وابتسامته وسيجارته التي لا تنطفئ..
غرزتُ عيني بوجهه الذي خدده الزمن مثل ورقة مثنّاة وأُلقيتْ في خوابي النسيان.. أعطيتُ أذني للراديو الصغير الذي يُصر على حمله في كل مكان.. فتحه ورفع هوائيَهُ وراح يُقلّب موجاته حتى يعثر على ما يريد من أخبار وأغانٍ وكان الاهتمام بادياً على وجهه.. هو ذاته المرشح الذي صبر ثلاثين سنة من المحاولات إلى أن دخل المجلس.
لكن كيف؟   
انتشلني صوت عبدالحليم(وابتدا المشوار)، ابتسمت وأن أُسلّط عليه نظرة سابرة، واستلمها مني بعينيه وخبأها بصمته.. أغمضتُ عينيّ وسحبني موج الذاكرة إلى القاع وعلى لساني تساؤل: معقول أن هذا الإنسان عضو في مجلس النواب؟
في الانتخابات الأخيرة مرض (المرشح) بالسرطان وفقد وعيه في يوم الاقتراع، وحمله أقاربه إلى المستشفى، ووجدوا أن علاجه مكلفٌ، ولا يملك شروى نقير، لا مال ولا زوجة ولا ولد.. هو عبء دون شك عليهم.. فمن يُنفق عليه؟
اقترح أحد الخبثاء: لينجح في الانتخابات، وتعالجه الدولة.. وافق الجميع واصطفت العشيرة والمريدون معه، ونجح المرشح ودخل المجلس ببذلته إياها وسيارته وشماغه.. كان يوماً تاريخياً حين دخل المجلس وهو يحمل يافطته(المرشح).. صفّق له الجميع وحين أراد الوقوف ليحييهم وقع مغشياً عليه، فحملته الحكومة إلى المستشفى ليتم علاجه على حسابها، وشُفي بعد شهور وعاد إلى المجلس معززاً ويافطته لا تفارقه..
طُلب منه الكلام فحمل اليافطة واعتلى المنصة وتفحّص الوجوه بجرأة فائقة وقال كلمات ما زالت تتردد حتى الآن: لا ينفع الكلام أيها القوم واليهود يبولون في الأرض المقدسة/فلسطين.. وغادر.
كان مذهلاً..
اقترب مني المرشح ودقمني بركبتي: أين ذهبت؟ ابتسمت، وعدت إليه بسمعي وأزحت غشاوة أخذت بصري بعيداً وردّدت: لا ينفع الكلام واليهود الأنجاس يبولون في فلسطين.. قال: هي شعاري إلى يوم الدين.. قلت له: وماذا أنت فاعل الآن، ماذا تنوي؟ قال: عين على الرئاسة، وعين على فلسطين..
لم أجد لمثل هذا الرجل معياراً.. كائن نادر..
أغلق الراديو وخفّض من ضوء قنديل الكاز إيذاناً بأن الاجتماع مرهون بإطفاء القنديل.. قام الحاضرون ومعهم كراسيهم واصطفوا خارج الخيمة.. تناول المرآة والكرسي ووضعهما خارجاً وأطفأ القنديل وأنزل اليافطة وتأملها جميعاً وكأنه يستعرض مرايا ثمينة قابلة للكسر ورتّبها في حقيبة كبيرة ثم حملها إلى السيارة وأشّر للحاضرين إِشارة فهموها..
أنزلوا الخيمة وأعادوها إلى السيارة على الهيئة التي حفظوها منذ هاتيك العقود وحفّوا السيارة من الجانبين.. جلس المرشح خلف مقوده ونظر في المرآة وفتح الراديو وأشعل ضوءها، وانطلق مبتعداً..