Saturday 18th of May 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Feb-2014

الدولة في الإسلام بين منطق المقاصد ومنطق الوسائل* د.أحمد الريسوني
الدستور - يقسم علماء المقاصد وعددٌ من الأصوليين أحكامَ الشريعة إلى مقاصدَ ووسائل، أو: ما هو مطلوب لذاته، وما هو مطلوب لغيره. ومنهم من يتحدث عن المقاصد ومقاصد المقاصد، وعن الوسائل ووسائل الوسائل، فتصير القسمة عندهم رباعية وليس ثنائية فحسب.
وهذا التفريق تنبني على معرفته ومراعاته آثار فقهية وتطبيقية عديدة وسديدة، بينما ينبني على إغفاله وعدم إعماله خلط وخبط، وتجنٍّ على الشريعة وأحكامها، وعلى الأمة ومصالحها.
ومن المجالات التي تشتد فيها الحاجة إلى استحضار هذا التمييز وإعماله: مجال الحكم والسياسة والدولة.
فهل الدولة أو الخلافة في الإسلام من قبيل المقاصد أو من قبيل الوسائل؟ وهل “إقامة الدولة الإسلامية” أمر مطلوب لذاته أو مطلوب لغيره؟
وهذا التساؤل كما يجري على الدولة وإقامتها إجمالا، يجري كذلك على كل فرع من فروعها وكل مؤسسة من مؤسساتها؛ كنظام الخلافة والوزارة، وطريقةِ البيعة والشورى، والولايات المتفرقة، ونظام القضاء والحسبة وبيت المال، والتراتيب الإدارية لذلك كله  فهل هي في حكم الشريعة مقاصد أو وسائل؟ أم أن بعضها مقاصد وبعضها وسائل؟
وكذلك يقال في واجبات الإمام وشروطه، المنصوص عليها في كتب الفقه والسياسة الشرعية، ويقال في واجبات الدولة ووظائفها عموما. فأيها مطلوب طلبَ مقاصد؟ وأيها مطلوب طلبَ وسائل؟
على أن الأهم من هذا التفريق، أو الأهم في هذا التفريق، هو ما ينبني عليه من أحكام وترتيبات وأولويات، يختلف فيها ويتفاوت ما هو مقصد عما هو مجرد وسيلة.
طبيعة الدولة ومكانتها في الإسلام
للدولة    لا شك    آثار بليغة شاملة لجميع شؤون الحياة الدينية والدنيوية. لكن مما هو جدير بالملاحظة والتأمل: أننا لا نجد في القرآن ولا في السنة ذكرا صريحا للدولة أو ما يقوم مقامها. وحتى “نصب الإمام” الذي أجمع عليه وجوبه العلماء، من لدُنِ الصحابةِ فمن بعدهم، لم يأت في صيغة أوامر صريحة، وليس فيه ترغيب ولا ترهيب، على الرغم مما يكتسيه من أهمية قصوى وخطورة بالغة. وإنما هو استنباط وتقدير مصلحي وعمل بالقواعد العامة، مثلِ قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويتعجب بعض الدارسين المعاصرين كيف لم يجعلِ العلماءُ المتقدمون إقامة الدولة الإسلامية    أو الخلافة    ضمن الضروريات الخمس. ولذلك فهم يرون ضرورة استدراك هذا النقص الكبير
وقد سمعت مؤخرا    في أحد المؤتمرات العلمية الإسلامية– عالما جليلا يذهب إلى إضافة بعض الضروريات الجديدة إلى الضروريات الخمس المعروفة، وذكر في مقدمة ما أضافه “أمن الدولة”، فقلت له: إن وجود الدولة نفسَه ليس من الضروريات الخمس، فكيف بأمن الدولة؟
ونكتة المسألة هي أن الدولة ليست من المقاصد أصلا، بل هي وسيلة من الوسائل. وحتى لو قلنا: إنها أُمُّ الوسائل، فهذا لا يغير انتماءها إلى جنس الوسائل، المطلوبةِ لغيرها لا لذاتها. ومعلوم أن النُّظمَ والمؤسساتِ السياسيةَ والقضائية والإدارية، إنما هي مصالح مرسلة، تترتب أهميتها ومكانتها تبعا لما تحققه وتخدمه من مقاصد.
قال الشاطبي: “فرجوعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فهي إذاً من الوسائل لا من المقاصد”.
وقال عز الدين بن عبد السلام: “ولا شك أن نصب القضاة والولاة من الوسائل إلى جلب المصالح العامة والخاصة. وأما نصب أعوان القضاة والولاة فمن وسائل الوسائل”.
ومما يؤكد أن الدولة ومؤسساتها ليست من المقاصد المطلوبة لذاتها: أن الناس ليس في نفوسهم حب للدولة أو تعلق بها أو تشوق لرؤيتها والاستمتاع بها، كشأنهم مع أنفسهم وأولادهم وأموالهم. وغالبا ما يكون تعلقُ بعض الناس بالإمارة والرياسة والسلطة واستماتتهم في التمسك بها، مجردَ آفة ومرض في نفوسهم خاصة. فهؤلاء هم من تكون الدولة عندهم مقصودةً ومطلوبة لذاتها، لِما لهم فيها من مُتَعٍ وملذات وشهوات مادية ومعنوية
وأما النظر الشرعي، وكل نظر سوي، فيعتبر أن الدولة مجرد وسيلة لا تطلب لذاتها، ولو أنها لا غنى عنها ولا مفر منها.
مقاصد الدولة
إذا ظهر أن إقامة الدولة والخلافة، وسائرِ الولايات والمؤسسات السياسية، ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مطلوبة طلبَ وسائل، فما هي المقاصد المنوطة بالدولة ومؤسساتها؟ أي ما هي مقاصد هذا المجال؟
يرى الأستاذ علال الفاسي بحق أن “الإسلام يعتبر الدولة خادمة للناس”. وبناء عليه فمقاصد الدولة لن تكون سوى تحقيق مصالح مواطنيها، الدينية والدنيوية، وتلك هي مقاصد الشريعة. فما جعله الشرع مقصدا لآحاد المكلفين، ومقصدا لجماعة المسلمين، فهو مقصود    ويحب أن يكون مقصودا    للدولة ومؤسساتها وسياساتها. فما الدولة إلا نائبة عن الأفراد وعن المجتمع وخادمة لهما. بمعنى أن الدولة ليس لها مقاصد مستقلة أو مختلفة عن مقاصد الأمة والمجتمع. فإذا قلنا مثلا: إن مقاصد الشريعة، ومقاصدَ العباد في ظل الشريعة، تتلخص أساسا في حفظ الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فإن على الدولة الإسلامية أن تجعل في مقدمة مقاصدها حفظَ هذه الضروريات الخمس وتنميتَها، وأن تجعلها محور جهودها تخطيطا وتنفيذا. وهكذا يقال في سائر مقاصد الشريعة، فهي تلقائيا مقاصدُ الدولة الإسلامية. فمقاصد الشريعة الإسلامية، ومقاصد الأمة الإسلامية، ومقاصد الدولة الإسلامية، شيء واحد متحد.
لكن الدولة تختلف وتتميز في باب الوسائل والأولويات؛ فهناك أشكال ووسائل لتحقيق المقاصد تختص بها الدولة وتحتكرها. وهناك مجالات تتولى الدولة الجزء الأعظم منها، لما لها من الوسائل وعناصر القوة التي ليست للأفراد ولا لجماعتهم ومجتمعهم.
فإذا أخذنا علي سبيل المثال “تغيير المنكر” في المجتمع الإسلامي، فسنجد أنه من المقاصد الشرعية المنوطة بالأفراد كلا على حدة، وهو منوط أيضا بالمجتمع وجماعاته المختلفة بصفتهم الجماعية، وهو منوط بالدولة وولاتها ومؤسساتها. وكل جهة من هذه الجهات الثلاث لها أولوياتها ووسائلها في تغيير المنكر.
وقريبا من مسألة “تغيير المنكر”، نجد الشرع الحنيف حث على “إماطة الأذى” من الطريق، وهو تكليف قد يبدو موجها للأفراد وخاصا بهم، ولكن الحقيقة أن هناك أنواعا من “أذى الطريق” لا بد لإماطتها من تدخل الدولة ومؤسساتها، مثل الأذى الذي يكون في طرق سير السيارات والقطارات؛ من تآكل وانجراف، ومن حُفر وأعطاب، ومن مخاطر أمنية أو مخالفات مرورية تتهدد مستعملي الطريق  فهذا كله يدخل في إماطة الأذى عن الطريق.
وأكثر من هذا، فقد قال العلامة بدر الدين العيني في تفسير إماطة الأذى من الطريق: “قوله: (وإماطة الأذى) أي: إزالته، مِن أمَاط يُميط. وهذا عامٌّ يتناول كل أذى يحصل للناس على الطريق، ويَنْدرجُ فيه عزْلُ الولاة الظلمة الفسقة والحكامِ الرُّشَاة، والذين يتولون الوظائف الدنيّة بالبرطيل، والجُهال من الحكام , فإنهم كلهم أذًى وأي أذىً في طريق المسلمين وطريق الشرع؟! وكذلك يندرج فيه قطاع الطريق والسعاة الذين يَقْعدُون على طريق المسلمين، ويأخذون منهم المكس، فكل هؤلاء أذى في الطريق، وإماطتهم صدقة، وأي صدقة”.
وهذا كله لا يمكن أن يقوم به إلا ولاة الأمور، أي الدولة.
الدولة وسيلة ومَجمع للوسائل
مما تقدم يظهر أن الدولة في الإسلام إنما هي وسيلة لا غاية، وأن مقاصدها هي كل ما تستطيع تحقيقه وخدمته من مقاصد الشرع ومصالح العباد. والدولة باعتبارها وسيلة تبقى قابلة    بل مدعوة للتطور والتكيف والتلاؤم مع زمانها ومكانها، وتحتاج دوما إلى استحداث ما لا يحصى من الوسائل ووسائل الوسائل.
والدولةكما هو معلوم– أصبحت عبارة عن أذرع وسلطات متعددة أهمها: سلطة تنفيذية، وسلطة تشريعية، وسلطة قضائية. ولكل سلطة من هذه السلَط مؤسسات وأنظمة وأدوات تتشعب وتتطور باستمرار  وكل ذلك يتحدد ويتغير من زمان لآخر ومن ظرف لآخر، بحسب مدى صلاحيته وملاءمته.
فعلى هذا الأساس يجب التعامل اليوم مع كافة النظم والأساليب السياسية والإدارية التي عرفتها تجارب التاريخ الإسلامي في مختلف أطواره
وعلى هذا الأساس أيضا يُنظر إلى الديمقراطية وغيرها من النظم الحديثة
فكل هذه وتلك إنما هي وسائل ووسائل وسائل، يمكن الأخذ بها، ويمكن تغييرها أو تعديلها. وحكمها هو حكم ما تجلبه وما تفضي إليه. وليس في ذلك أي حرج، بل الحرج كل الحرج هو تنزيل الوسائل منزلة المقاصد والتعامل معها على هذا الأساس.
والقاعدة في اختيار الوسائل وتغييرها وتقديم وبعضها على بعض، هي ما قاله ابن تيمية رحمه الله: “ما كان أبلغَ في تحصيل مقصود الشارع كان أحبَّ، إذا لم يعارضه ما يقتضي خلاف ذلك”.