Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Aug-2017

أسطورة العنف الديني - حسن أبو هنية
 
الراي - ثمة فكرة شائعة في المجتمعات الغربيّة تنص على أنّ الدين يتوافر على نزعة تشجّع على العنف، وإذا كانت هذه الفكرةٌ رائجة بخصوص الأديان عموما فإن مسألة عنف الدين الإسلامي تقدم على كونها حقيقة لا مجال للتشكيك فيها، الأمر الذي جعل من الربط بين الإسلام والعنف والإرهاب منذ أحداث 11 ايلول مسألة أقرب إلى البداهة، حيث ازدهرت أسواق المقاربة الاستشراقية والثقافوية التي تختزل الظاهرة الجهادية المعاصرة بطبيعة الديانة الإسلامية ونصوصها التأسيسية، وهي مقاربة متلبسة بديمومة الهيمنة السياسية الغربية والمنظور الامبراطوري الإمبريالي المتحالف مع الوطنيات الدكتاتورية التسلطية.
 
في كتابه «أسطورة العنف الديني، الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث» الذي صدرت ترجمته حديثاً عن «الشبكة العربية للأبحاث» ونقله إلى العربية الصديق العزيز أسامة غاوجي، يقوم ويليام كافانو المتخصّص في الدراسات الدينية بتفحص فكرة العنف الديني ويتحدى التوجه السائد في الثقافة الغربية أن الدين لديه قدرة كبيرة وخطيرة على الترويج للعنف، ويعتبرها من أكثر الأساطير شرعية في الغرب الحديث.
 
تبرز فكرة العنف الديني كأسطورة حسب كافانو بوضوح في العديد من المؤسسات والسياسات الغربية، بدءاً من الحدّ من الدور العمومي للكنائس، وصولاً إلى الجهود المبذولة لتعزيز الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط، فما يطلق عليه «أسطورة العنف الديني» هي الفكرة القائلة بأنّ الدين، بما هو سِمَة، عابرة للثقافة والتاريخ، للحياة الإنسانيّة، مختلفٌ جوهرياً عن السمات «العلمانية» كالسياسة والاقتصاد، وذلك لأنّه يحمل ميلاً مخصوصاً وخطيراً نحو العنف ومن ثمّ فلا بدّ من كبحه ومنعه من الوصول إلى السلطة العامة، هكذا تظهر الدولة القوميّة العلمانيّة باعتبارها طبيعيّة، متوافقة مع الحقيقة الكونيّة العابرة للزمن حول الأخطار المتأصّلة في طبيعة الدين.
 
يتفحّص كافانو في كتابه كيف بني التوأمان؛ الدين والعلمانية، حيث يرى أن الدين بالمعنى الحديث بني في الغرب وفي سياقات استعمارية تتفق مع السلطة السياسي. ويردّ على الذين يرون أن الدين يمكن أن يكون مطلقاً بشكل متطرّف وغير عقلاني، بأن الأيديولوجيات والمؤسسات العلمانية يمكن أن تكون كذلك، وأن التمييز الديني- العلماني على أرض الواقع هو اختراع غربي حديث، وتمّ استخدامه في أوقات مختلفة بأدوات متنوّعة ولأهداف مختلفة.
 
يحدد كتاب»أسطورة العنف الديني» والذي صدر بالإنجليزية أوّل مرة عام 2009، الكيفية التي يجري من خلالها استخدام مفاهيم عابرة للثقافات تتعلّق بالدين والعلمانية وتستخدم لتقول إن الدين يسبب العنف، عدّة محاور يناقشها العمل، وعدة حجج من بينها أن الدين لا يمتلك طبيعة عابرة للتاريخ ولا للثقافات، وأن ما يهمّ وينبغي أخذه في الاعتبار فيما يخص «الديني» و»العلماني» في أي سياق هو وظيفة التعريفات السياسية للسلطة، ذلك أن هذا الربط بين العنف والدين يسبغ شرعية لعنف نيو-كولينيالي ضد المسلمين بشكل خاص، وضدّ كلّ من هو وما هو ليس غربياً، ويتضمن الكتاب أربعة فصول وهي؛ «تشريح الأسطورة» و»اختراع الدين» و»ابتكار أسطورة الحروب الدينية» و»استعمالات الأسطورة».
 
لا جدال أن كتاب كافانو يشكل إضافة ثريّة في التحليل النظري لمسألة العنف والدين، وحسب غاوجي فإنّ الهدف الرئيسي للكتاب هو تفنيد ما يُسمّيه كافانو «أسطورة العنف الديني» ويقوم بالكشف عن علاقات القوّة الكامنة خلفها وعن ترتيبات السلطة التي أنتجتها وروّجتها وفسّرت التاريخ وفقها، إلا أنّ تداعيات الكتاب النظريّة تمتدّ إلى التفكير في تاريخ الدين وتشكّله الحديث، وكان غاوجي قد ترجم قبل ذلك كتاب كارين آرمسترونغ «حقول الدم: الدين وتاريخ العنف»، وإذا كان كتاب كارين أقرب إلى السرد والتتبّع التاريخي للعلاقة بين الدين والدولة والعنف، فإنّ كتاب كافانو يُمثّل الأساس النظري الأكثر متانة لذلك التناول، وهكذا فإنّ الكتابين يُمكن أن يُشكّلا معاً نسيجاً واحداً شبه متكامل للباحث في مسألة العنف الديني.
 
إن الاتهامات التي يوجهها الكثيرون اليوم إلى الدين عموماً والدين الإسلامي خصوصا بوصفه العامل الأساسي في الصراعات الدموية عبر التاريخ، والتي تضم قائمة لا نهاية لها من أنصار المقاربات الاستشراقية والثقافوية فضلا عن تيار الإلحاد الجديد ورموزه البارزين كسام هاريس ودانيال دينيت وبيل مار وريتشارد دوكينز، لا تتوافر على حقائق علمية وتاريخية وموضوعية، إذ تبرز المفارقة بجلاء خلال القرن ففي ظل أفول الدين وانحسار هيمنته على الحياة، لم يزدد الوضع إلا سوءاً، حيث كان القرن العشرين بحربيه العالميتين ولأسباب غير دينية تماماً، هو القرن الأكثر دموية في تاريخ البشرية برمته.
 
رغم عدم موضوعية تلك النظرة التعميمية المخلة التي تلصق العنف بفكرة الدين، ظلت رغم ذلك السردية العلمانية السائدة في الثقافة الغربية الراهنة اليوم تنظر إلى الدين كمصدر أساسي للعنف بتأثيرات تاريخية مستمرة من حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، التي كرست ورسخت تلك النظرة والعلاقة بين الدين والعنف، يتحدّى كافانو في كتابه هذا الجزء من الحكمة الشائعة المتعارف عليها، لا بالمحاججة أنّ الأيدولوجيات والمؤسسات الموصوفة بـ»العلمانية» يمكن أن تكون على ذات الدرجة من العنف من تلك الموصوفة بـ»الدينية»، وإنما بالتفحّص الدقيق لـ: كيف تمّ تأسيس ثنائيّة «الديني» و»العلماني» في المقام الأوّل.
 
يشير كافانو إلى تكاثر عدد العلماء والباحثين الذين يعملون على استكشاف كيف تمّ اختراع مقولة «الدين» في الغرب الحديث وفي السياق الاستعماري وفقاً لترتيبات معيّنة للسلطة السياسية، ويعتمد في كتابه على هذه المساهمات العلمية لاختبار كم هي مقولات الديني والعلماني عابرة للتاريخ والثقافات حقّاً، حين تُستعمَل في المحاججة بأنّ الدين يسبب العنف، وهو يحاجج بأنه لا وجود لجوهرٍ للدين عابر للتاريخ والثقافات، وأنّ المحاولات الجوهرانيّة لفصل العنف الديني عن العنف العلماني هي محاولات غير دقيقة وغير متسقة.
 
أحد الأسئلة الأساسية للكتاب التي يسعى إلى فحصها ودحضها يتمثل بلماذا تَشيع وتنتشر مثل هذه التفسيرات الجوهرانية؟ ويحاجج كافانو بالقول: إنّ السعي لتعيين مفهوم، عابر للثقافة والتاريخ، لـ»الدين» بوصفه يمتلك نزوعاً أصلياً لإنتاج العنف، هو واحد من الأساطير المؤسسة لشرعيّة الدولة القوميّة الليبرالية في المجتمعات التي يطلق عليها «غربيّة»، ذلك أنّ أسطورة العنف الديني تساعد في تأسيس فكرة الآخر الديني ومن ثمّ تهميشه، حيث يصبح الميل للتعصّب هو الوجه المقابل للذات العقلانية، الحريصة على السلام، والعلمانية، ويمكن أن تُستعمل هذه الأسطورة، بل وتستعمل، في السياسات الداخليّة لشرعنة تهميش أنواع معيّنة من الجماعات والممارسات الموصوفة بـ»الدينية»، في الوقت الذي تُصادق فيه على احتكار الدولة القوميّة لاستعداد مواطنيها للتضحية والقتل. على مستوى السياسة الخارجيّة، وبهذا تُستخدم أسطورة العنف الديني لقولبة الأنظمة الاجتماعية غير العلمانية، بالأخصّ المجتمعات المسلمة، في قالب «الشرير». فهم لم يتعلّموا بعد ضرورة نزع الآثار الخطيرة للدين من الحيّز السياسي، ومن ثمّ فإنّ عنفهم غير عقلانيّ ومتعصّب. أمّا عنفنا، العلماني، فهو عنف عقلاني، يسعى للسلام، وهو مع الأسف عنفٌ ضروريّ لاحتواء عنفهم، إننا نجد أنفسنا مجبرين على تفجيرهم ليصبحوا ديمقراطيين ليبراليين!
 
منذ أحداث الحادي عشر من أيلول تحديداً، تزايدت عدد الكتب العلميّة المنشورة من قبل المؤرّخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة، وأساتذة الدراسات الدينية، وآخرين يعملون على تفحّص الطبيعة الميّالة للعنف في الدين. في الوقت نفسه، شهدت تلك الفترة ظهور مجموعة لا بأس بها من العلماء الذين تعمّقوا في تفحّص الاستعمالات الأيدولوجية المقترنة بتأسيس مصطلح «الدين» في الحداثة الأوروبيّة. من جانب، ثمة مجموعة من العلماء المقتنعين بأنّ الدين، بحدّ ذاته، يمتلك نزوعاً متأصّلاً لتشجيع العنف. على الجانب الآخر، هناك مجموعة أخرى من العلماء الذين يُشككون بوجود «دين، في حدّ ذاته»، إلا من جهة كونه مقولة تمّ التأسيس لها أيديولوجيّاً، ومن ثمّ فلا بدّ أن ينصبّ النقد والتحليل على تاريخها المتغيّر.
 
يؤكد كافانو أن كتابه ليس دفاعاً عن الدين ضدّ تهمة العنف، إذ يحاجج بعض الناس الذين يُعرّفون أنفسهم كمتدينين بأنّ الدافع الحقيقي وراء ما يُطلق عليه العنف الديني هو دافع اقتصادي وسياسي في حقيقته وليس دينياً. فيما يرى آخرون بأن البشر الذين يمارسون العنف هم، من حيث التعريف، غير متدينين، ففي المقام الأوّل، من المستحيل أن تقوم بفصل الدافع الديني عن الدوافع الاقتصاديّة والسياسيّة بطريقة تجعل الدوافع الدينية بريئة من العنف.