Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Sep-2017

الغرائز والأخلاق: محاولة في تهذيب الوحش الإنساني (1 - 2) - معاذ بني عامر
 
الغد- في الجزء الثالث من مسلسل "سبارتاكوس Spartacus" الذي أنتج في العام 2013، يُحاصَر سبارتاكوس وأتباعه في منطقة ثلجية ويبقون هناك  لفترة طويلة، حيث تعرّضوا لظروف قاسية ومؤلمة إلى حدّ أن المُشاهِد يتمنى أن يدخل في الشاشة لينقلهم من هذه المنطقة إلى منطقة أكثر دفئاً وأمناً. فالمُشترك الإنساني بين المُشاهِد والمُشاهَد يجعلهما يدخلان في علاقة حميمة حتى ولو في العالَم الافتراضي. 
لكن السؤال المطروح: ماذا لو كان سبارتاكوس وأتباعه هم أعداء هذا المُشاهِد على أرض الواقع؛ هل سيبقى هذا المشترك قائماً بينهما، أم سيكون ثمة سعي كبير لإيرادهم موارد التهلكة والقضاء عليه قضاء مبرماً؟
لكي يحلّ سبارتاكوس معضلة الحصار والثلوج، فإنه يلجأ إلى اقتحام إحدى المدن القريبة، لكنها تستعصي عليه لبعض الوقت نظراً للتحصينات التي حظيت بها ومن ضمنها خندق واسع يسوّرها ويجعلها منيعة أمام أي اقتحام. لكن في النهاية يتمكن سبارتاكوس وأتباعه من دخول المدينة فيُعْمِلْوَنَ السيف في أعناق سكّان المدينة ويذبحونهم عن آخرهم.
وسط هذه المشهدية الميلودرامية يعمد سبارتاكوس، في واحدة من أفظع مشاهد المسلسل، إلى عمل جسر من جثث الأعداء لكي يردموا جزءاً من الخندق ويسهلّوا عمليات التنقّل؛ فتنعدم القيمة الحقيقة للإنسان ولا يعود له من معنى إلا بالقدر الذي يخدم الغرائز الوحشية لدى الطرف الآخر. 
سؤال آخر هَهُنا مُكمّل للسؤال السابق: ما هو حجم الحقد والكراهية الذي كان يعتمل في نفوس سبارتاكوس وأتباعه لكي يلجأوا إلى هذا الخيار العبثي وذلك بإهانة الإنسان ومعاملته معاملة حيوانية؟.
بالعودة إلى الخلف، أشيرُ إلى أن سبارتاكوس كان قد تعرّض لمعاملة مُهينة في الجزء الأول من المسلسل الذي أنتج في العام 2011، وقد عمل الرومان على إفقاده كل ما من شأنه أن يُشعره بإنسانيته، وفوق هذا فقد دربّوه لكي يقاتل الوحوش، إذ عملوا على مسخ آدميته والانحدار بها بما يليق بحيوانٍ ضارٍ، لا بإنسان كريم.
سؤال ثالث مهم قد ينبثق إلى ذهن القارئ حول مشروعية ما أتحدث عنه، فأنا أتحدث عن مسلسل تلفزيوني لا عن حدث واقعي، بما يفقد السؤالين السابقين مشروعيتهما الواقعية، فهما محض سؤالين افتراضيين ليس إلا؟
سؤال رابع: هل الواقع أقل وحشية من العالم الافتراضي، بما يجعل من الأسئلة السابقة أسئلة خيالية أكثر منها حقيقية؟. فهل –من جهة- كان قادة روما على أرض الواقع أكثر حناناً وإنسانية في تعاملها مع سبارتاكوس حتى لا يثور عليها ويقذف حمم حقده وغضبه في وجهها؟ ومن جهة ثانية، هل استلزمَت المعاملة القاسية التي تعرّض لها "سبارتاكوس" انتقاماً حادا لمن عاملوه تلك المعاملة؟.
ما الذي فعله "معمّر القذافي" –أعي هذه النقلة الفجائية في سياق الكلام، لأقول إن الإنسان لم يتغيّر حتى بعد ألفين من السنين وأكثر عمّا كان عليه يومذاك من وحشية وقسوة- لكي لا يعمد ثوّار ليبيا إلى سحله والتنكيل بجثّته في الشارع؟.
في مقالة سابقة موسومة بـ (مسلكية الذات المفصومة: المذبحة الافتراضية كأنموذج) كنتُ قد أشرتُ إلى عنف الكائن البشري، والقدرة التدميرية التي تنطوي عليها بنيته التأسيسية، سواء في الواقع المعيش أو في العالَم الافتراضي. فهو خاضع للطرف الأول من المقولة الفلسفية: "الإنسان حيوان عاقل"؛ أعني لـ "الإنسان حيوان". فمن ناحية ما يزال الإنسان وفياً لمسلكياته الحيوانية لا سيما ما تعلّق منها بفائقية بطشه وجبروته على حساب حنانه ورقّته. ومن ناحية ثانية فهو إذ يتمثّل المقولة الفلسفية ضمن سياقها الكامل، لناحية أنه "حيوان عاقل"، أي رحلة الارتقاء من الغرائز الوحشية إلى المَلَكَة العقلية، فإنّ أي استخدام لأداة العقل في التبرير –وما أكثرها- لوحشية الإنسان وقسوته تجاه الآخر المُطْلَق، على اعتبار أن الذات مُطْلَقة هي الأخرى هَهُنا، سيكون بمثابة الارتكاسة الكبيرة للإنسان ناحية الحيوانية مرة أخرى. ففي الأساس هو حيوان، واستخدامه للأداة ( = العقل) التي انتقل بموجبها من مرحلة (الحيونة) إلى مرحلة (التعقّل)، وذلك بتبرير مسلكياته البربرية والوحشية، سيجعله حيواناً مرتين. فتلك إدانة إضافية له، لأنه لم يكن أميناً على تلك الانتقالة الكبيرة في بنيته التكوينية، فهو إذ يستخدم أداة العقل ليعود القهقرى إلى مرحلة أدنى من الحيوانات الضارية، فإنه لا يقف عائقاً أمام الحضارة الإنسانية وما يمكن أن تجترحه من إنجازات جديدة فقط -التي كان للعقل دور تأسيسي في إبراز معالمها- بل إنه يعمل، من حيث يدري أو لا يدري، على تدمير ما قام من الحضارة الإنسانية ومنجزات الإنسان المادية والمعنوية في هذا العالَم. فهو يُدمّر بالاتجاهين، الاتجاه الماضوي وما يحتمله من إمكان تراكمي، والاتجاه المستقبلي الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة سليمة دونما هضم واستيعاب وتجاوز لتلك التراكمات الماضوية.
إذاً، ما الذي فعلناه، أعنينا نحن البشر، لكي نعمل على تهذيب أنفسنا والانتقال بها من السياقات الوحشية التي ما تزال تمارس بضراوة حتى هذه اللحظة، إلى السياق الأخلاقي الذي ينظر إلى الإنسان على الإطلاق بصفته شريكاً في إنجاز معمار الحضارة الإنسانية؟
ماذا فعل الرومان لـ "سبارتاكوس" لكي يُعاملهم معاملة غير تلك التي عاملهم بها، ساعة تمكّن منهم؟ وما الذي أسّس له "معمّر القذافي" لليبيين على مدار أربعة عقود، لكي لا يعاملوه تلك المعاملة المهينة في شوارع طرابلس؟
هل يعيش الإنسان ردّة فعل تجاه جلاده، لكي يتمثّل دوره ساعة يتمكّن منه؟ فتلك البكائية التي يعيشها لناحية هدر الجلاد لكرامته وحقوقه، هي من باب تحيّن الفرص للانقضاض على الآخر، وممارسة الدور ذاته الذي تأذّى منه سابقاً؟.
وهل يعيش الإنسان حالة من الكذب المُطْلَق تجاه منظومتي الخير والشرّ، فهو إذ يدين الشرّ فلأنه يتأذّى منه تحديداً، أما إذا طال غيره فلا ضير؟ وهو إذ يتقبّل الخير فلأنه يتكسّب منه أما إذا طال غيره سعى إلى هدره؟.
هذه الأسئلة وسابقاتها يمكنني اختصارها بسؤل واحد لكنه شامل:
إلى أيّ حد بقي الإنسان وفياً لمسلكياته الحيوانية في البطش والجبروت، ولم يستطع التأسيس لمُدونة أخلاقية من شأنها الانتصار للقيم العليا من حب وخير وسلام وجمال، بما يضع المقولة الفلسفية: "الإنسان حيوان عاقل"، موضع اختبار حقيقي لملكات الإنسان العليا، لا لغرائزه الدنيا؟.
في المقالة القادمة سأجترح في تقديم إجابة مُتحرّكة، لكي يبقى السؤال مُشْرعَا على مزيد من التأملات والاستلهامات والمطارحات التي يمكن أن نساهم فيها جميعا.