Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Jul-2019

الراحل عيسى بلاطة في كتابه «بدر شاكر السياب حياته وشعره»

 الدستور-د. إبراهيم خليل

أثار بدر شاكر السياب (1926- 1964)بعيد رحيله في ديسمبر 1964 الكثير من الاهتمام بحياته وبشعره. فمن أوائل الذين عنوا بشعره، وبسيرته، وما طغى عليها من تقلبات، محمود العبطة، الذي أصدر في العام 1965 كتابا عنه بعنوان بدر شاكر السياب والحركة الشعرية في العراق. تلاه عبد الجبار داود البصري الذي نشر كتابا بعنوان بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر 1966 وتوالت بعده المؤلفات، منها كتاب إحسان عباس بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره 1969 وكتاب عيسى بلاطة بدر شاكر السياب حياته وشعره 1971 وكتاب ناجي علوش الموسوم بعنوان بدر شاكر السياب- سيرة شخصية 1974 ونشر عبد الرضا علي كتابا بعنوان الأسطورة في شعر بدر شاكر السياب 1978 ونشر إيليا حاوي كتابا بعنوان بدر شاكر السياب شاعر الأناشيد والمراثي 1980 وعلي البطل نشر كتابا بعنوان الرمز الأسطوري في شعر بدر شاكر السياب 1982 وريتا عوض نشرت عنه كتاب «بدر شاكر السياب « 1983 وكتب عبد الكريم حسن كتابا نشره بعنوان « الموضوعية البنيوية دراسة في شعر السياب « 1983 وأحمد شقيرات نشر هو الآخر كتابا بعنوان « الاغتراب في شعر السياب « 1987 وعلي حداد نشر دراسة بعنوان « بدر شاكر السياب قراءة أخرى « 1998 في إشارة لما تنماز به دراسته عن غيرها من الدراسات، وصدر في العام 1999 كتاب آخر بعنوان « بدر شاكر السياب « لعبد الحسين شعبان. وفي العام 2002 صدر كتاب آخر لسامي سويدان عن السياب بعنوان « بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث «. وثمة كتاب آخر انصب فيه جهد مؤلفه عبد الكريم جعفر على « مفهوم الشعر عند بدر شاكر السياب « 2009.
عدا عن ذلك كتبت مقدمات لديوانه على هيئة دراسات نقدية منها مقدمة ناجي علوش للطبعة الأولى من ديوانه 1971 ومقدمة حسن توفيق للطبعة الثانية لديوانيه أزهار ذابلة وأساطير (2012) ولهذا المؤلف كتاب صدر في طبعتين بعنوان « شعر بدر شاكر السياب « الثانية منهما صدرت 1997. أما بن يونس ماجن – مغربي-  فقد نشر كتابًا بعنوان طريف، وهو « أسد بابل يختبئ خلف تمثال بدر شاكر السياب « وقد ظنه بعضهم دراسة عن الشاعر والصحيح أنه ديوان.
وأيًا ما يكن الأمر فإن هذه المقدمة تود القول إن الراحل عيسى بلاطة اختار حياة السياب، وشعره، موضوعا لأطروحة دكتوراه جرت مناقشتها، وأجيزت في جامعة لندن عام 1969 ويجوز أن يعد رائدًا من رواد الدراسات الأدبية والنقدية التي تناولت السياب إنسانا وشاعرًا. ومن يقرأ هذا الكتاب يكتشف أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، دراسة شعره دون الوقوف على ما مر به من ظروف، فلكل قصيدة من قصائده أجواء ترتبط بوقائع، وأحداث، عصفت بالشاعر، أو بمحيطه الاجتماعي، أو الوطني. ورصْد المؤلف بُلاطة لهاتيك الوقائع، والظروف، وتأثيرها في الشاعر، وشعره، رصدٌ دقيق، بحيث يفصح عن دليل جديد يؤكد أن دراسة الشعر في معزل عن الشاعر، وعن ظروفه، دراسة عقيمة بلا ريب، تقود إلى نتائج غير دقيقة في الأعمِّ، والأرجح، إلا إذا كانت من تلك الدراسات التي تكتفي بالوقوف عند الإشكالات اللغوية، والأسلوبية، والصور البلاغية، من غير أن تسلط الضوء على النسوغ التي تنمو، وتتفرع، متشعبة عبر التجارب الإبداعيَّة مجتمعة.
وقد جعل المؤلفُ، الذي فارقنا إلى الدار الآخرة في الأول من أيار الماضي (1/ 5/ 2019) في مونتريال بكندا، كتابه في مقدمة وملحق وستة فصول تقاسمت مراحل شعره بدءًا من الفصل الثاني الذي يتناول فيه المرحلة الرومانطيقية، وهي التي غلب عليه فيها تتبُّع حياة السياب المراهق، وحكاياته المتعاقبة مع بعض الشخصيات النسائية كالراعية، أو وفيقة، وما حصده فيها من تجارب غرامية فاشلة، متراكمة، رسَّخت لديه الاعتقاد بأنه شاب يفتقرُ للجاذبية افتقارا يجعل الجنس الآخر ينْصرف عنه مزورًّا كلّما أحس بدنوِّ الثمرة من الاقتطاف.
تليها المرحلة الاشتراكية الواقعية، وهذا العنوان – في الواقع- يوحي إيحاءًا مباشرًا بأنه دراسة لشعره الذي ارتبط فيه بأحد التيارات، أو المذاهب الأدبيَّة الكبرى، لكنَّ القارئ لا يجد في الفصل إلا القليل مما يوحي به العنوان، وإنما يجد تتبُّعًا دقيقًا موثَّقًا بالشهادات، والمستندات، لارتباط الشاعر بالشيوعيين، وما أسفر عنه هذا الارتباط من نتائح على مستوى الشعر، ومن إشكالات على مستوى علاقته بالسلطة؛ سلطة الكلية، وسلطة الدولة، وسلطة القصيدة. ففي هذه المرحلة دأبَ على نشر القصائد الثورية في « الآداب» اللبنانية، وكتبَ القصيدة التي وضعته في مقدمة الشعراء العرب المجدِّدين، وهي قصيدة « أنشودة المطر» التي نشرها في الآداب 1954 وفيها أيضًا كتب قصيدته «المومس العمياء» وعددا من القصائد التي يحيّي فيها ثورة الجزائر. وفي المقابل اطلع على ترجمة جبرا لفصول من كتاب جيمس فريزر « الغصن الذهبي « واتجه، بتأثير تلك الترجمة، لاستخدام الأساطير في شعره استخدامًا لافتًا للنظر. وفي العام 1955 نشر قصيدة من هذا القبيل بعنوان « رؤيا فوكاي « تلتها أخرى بعنوان « مرثية جيكور « وثالثة بعنوان « مرثية الآلهة «.
ويغلب على المؤلف بُلاطة الإفراط في رواية التفاصيل المتعلقة بالشاعر، وحياته، وأقاربه، وأصدقائه. ولعل القارئ الذي تستوقفه رواية المؤلف عن زواج السياب من إقبال (ص112) يلاحظُ ذلك، يقول المؤلف « وبعد أن حصل نساء أسرة بدر على موافقة أسرة إقبال في البصرة بالطريقة التقليدية، السرية، تقدم عم الشاعر على رأس جماعة من أقربائه الرجال، وطلب يدها رسميا من أخيها الأكبر. وبعد نيل الموافقة الرسمية تم عقد النكاح في 19 حزيران (يونيو) 1955 في البصرة، واقتصر الحفل على اقارب العروسين. ثم زفَّت العروس إلى بدر في بغداد حيث استأجر بيتا جديدا في منطقة الكسرة على الشارع العام «. 
ففي مثل هذه التفاصيل في فصل بعنوان المرحلة الواقعية الاشتراكية سردٌ غير مناسب، ولا يتلاءَم مع دراسة يفترض أنها دراسة لحياة الشاعر من خلال شعره، لا من خلال أخباره. 
ولا يفتأ المؤلف بُلاطة يتَتبَّع بصبر لا ينْفَدُ تطور علاقته بالشيوعيِّين، وقد اعترى هذه العلاقة فتورٌ، وبرود، منذ العام 1956 ولا سيما بعد نشره ثلاث قصائد في الآداب يحيي فيها الانتصارات في مراكش، وتونس، معربًا عن اعتزازه القومي، وهو شيء لا يروق للشيوعيّين. وازدادت علاقته بهم توترا بعد قصيدته الناريَّة (بور سعيد) التي فهموا منها أنه يمجد القومية العربية متمثلة في شخصية جمال عبد الناصر. وفي الفصل الرابع يتناول المؤلف ما يوصف بالمرحلة التموزية، وهي تسمية مشتقةٌ من الإله تموز في الأساطير البابلية القديمة.
ففي هذه المرحلة اتسع ابتعاده عن الشيوعيّين، واقترب من مجلة « شعر « التي أنشأها ببيروت يوسف الخال في شتاء 1957. وعلى الرغم من أن المؤلف يؤكد ثبات الشاعر على مبادئه، ومواقفه السياسية، إلا أن ممارساته كانت توحي للآخرين بخلاف ذلك. وموقفه هذا ناتج - في رأيه - عن شعروه بالخيبة، والإحباط، فقد كانت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ. وهذا ما تعبر عنه قصيدة « النهر والموت « وهي قصيدة نشرها في مجلة شعر وتنضح بالمرارة، والحزن، وكرر التعبير عن هذا في قصيدة ثانية بعنوان « المسيح بعد الصلب «. وشهد العام 1958 الكثير الجم من الأحداث التي أمعن السياب في أجوائها بالهروب من الواقع.
فقد اندلعت حربٌ أهلية بلبنان بين مؤيدي القومية العربية ومؤيدي الائتلاف مع الغربيين ، واكتُشِفَتْ مؤامرة للإطاحة بالنظام في الأردن، وفي العراق انقض عبد الكريم قاسم على النظام الملكي وأنهى وجود العائلة المالكة في مذبحة في قصر الرحاب ببغداد، ونزل جنود الأسطول السادس الأمريكي ببيروت بطلب من الرئيس اللبناني شمعون. وقد تفاءل السياب كغيره أول الأمر، وظنَّ المطر الذي ترقبه في « أنشودة المطر « قد تنزَّل مدرارا. وأنشد قصيدة في البصرة تضمنت بيتا يمتدح فيه عبد الكريم قاسم. غير أن الوقت لم يطل كثيرا قبل أن يكتشف السياب، وغيره من العراقيين، أنهم استبدلوا طاغية بآخر. وكتب السياب من جديد قصائد تندد بالعهد الذي تقدم فيه المد الشيوعي. منها قصيدة « مدينة السندباد « و» سربروس في بابل « و « المبغى « وفي إحدى هذه القصائد يصف الشاعرُ الزعيمَ الأوحد- وهو اللقب الذي يلذ لعبد الكريم قاسم أن ينادى به – يصفه بالكلب ذي الرؤوس الثلاثة الذي يحرس مملكة الموتى المظلمة:
ليَعْوِ سربروس في الدروب
في بابل الحزينة المهدمة
ويملأ الفضاءَ زمْزمة
وفي إحدى قصائد هذه المرحلة (التموزية) يبلغ الشاعر ذروة الياس، والقنوط، فيقول مخاطبا جيكور « جيكور نامي في ظلام السنين « واللافت أن الظروف التي أحاطت بالشاعر، على الرغم مما هي عليه من سوء، كانت مفيدة من بعض الوجوه، فقد عكف في أثنائها على ترجمة الكتب، والمختارات، التي كسب منها بعض المبالغ استعان بها على التخفيف من أعباء حياته اليومية. كما أنَّ الوضع العام دفع به إلى العودة للماضي، فتذكر طفولته، وتذكر الراعية، ووفيقة، وكتب قصائد جديدة نشرت لاحقا في ديوانيه المعبد الغريق، ومنزل الأقنان. ويستقصي عيسى بلاطه في الفصل الخامس ما تبقى من شعر السياب في إقبال، وفي شناشيل ابنة الجلبي، ولكن  الفصل لا يقتصر على هذا، بل يتتبع مأساة الشاعر، ومعاناته مع المرض العضال الذي حار فيه أطباء الجامعة الأميركية ببيروت، وفي مستشفيات لندن. والفصلُ، بما فيه من دقة التتبُّع، والتقصّي، يشبه لحن الرجوع الأخير في حياة هذا الشاعر الذي اختلفت فيه الآراء، وتباينت الأنظار، ولكنها، بالرغم من هذا الاختلاف والتباين، تجمع على أن السياب رائد كبير يُعد شعره علامة فارقة بين عصرين، أحدهما عصْرُ ما قبل السياب، والثاني عصر ما بعده. 
ففي  الفصل السادس، والأخير، يوازن المؤلف بين دوره، والأدوار التي نهض بها شعراء آخرون كبار، مثل أحمد شوقي، ومطران، مشيرا لكتابه الآخر « الرومانطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث « 1960. فالسياب في رأيه يختلف عن غيره ممن تنافسوا على ريادة الشعر: نازك الملائكة، ولويس عوض ، وعلي أحمد باكثير وغيرهم .. فإليه تعزى فكرة تطوير القصيدة تطويرا يتجاوز العروض إلى بناء شعري جديد يقوم على توظيف الأساطير، وإغناء القصيدة بالرموز المتباينة، والصور الشعرية الحيوية المبتكرة، وهذا واضح جدا في مدينة بلا مطر، وفي النهر والموت، وفي إرم ذات العماد, وغير ذلك من قصائد لا يتسع هذا المقال لذكرها مجددا بعد أن ذكرت في السابق. 
ويذكر أن عيسى بُلاطة من مواليد  القدس في 25 فبراير - شباط  1929 وقد درس في الكلية العربية، وتابع دراسته في جامعة لندن، وظفر منها بالبكالوريوس عام 1960 ثم بالدكتوراه عام 1969 وعمل في كلية هارتفورد الأمريكية قبل أن يغادرها إلى جامعة مكغيل بمونتريال في كندا سنة 1975 وظل فيها إلى أن تقاعد في العام 2004. فاز مرتين بجائزة أركنساس للترجمة. ومن كتبه المنشورة كتاب « الرومانطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث « وكتاب « إعجاز القرآن عبر التاريخ « و» عائد إلى القدس « (رواية) و» نافذة على الحداثة - دراسة في أدب جبرا إبراهيم جبرا «. وأخيرا « صخر وحفنة من تراب «. ومن مآثره ترجمته لعدد غير قليل من الآثار الأدبية العربية للغة الإنجليزية، منها كتاب «حياتي « لأحمد أمين، وقد نشره بمقدمة مطولة عرض فيها لاتجاهات السيرة في الأدب العربي االحديث، وترجم بعض أعمال جبرا، وهشام شرابي، وإملي نصرالله، ومحمد برادة، وغادة السمان، ومحمود شقير، وكتب نيفا وثمانين دراسة أدبية، و300 من مراجعات الكتب، وأسهم في موسوعة الأدب العالمي في القرن العشرين.