Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Jan-2019

من محطات الزمن المذاب - د. محمد القضاة

 الراي - أعادتني مقالة الزميل عصام قضماني» ما الذي تغير فينا» المنشورة في الرأي الى 2019 /1 /11 الجمعة الماضي بشبابه ومجاييله ومعطياته، واثارت امامي شجونا من الذكريات العطرة في الزمن المذاب، وأيقنت أنّ الماضي بتجلياته وبساطته وجماله كان مفخرة بكل معطياته ونواتجه، وتعالوا معي نتصفح شيئا من زواياه لكي نلتقي معه بِما أشار اليه من ايّام كانت وتغيرت، وهنا أعود بالذاكرة الى عام 1968 حينما أقامت بلدية عجلون احتفالا فنيا مهيبا تحت رعاية رئيس البلدية المرحوم سالم القضاة، وشارك فيه عدد كبير من الفنانين على رأسهم الفنانة هيام يونس، تسلقنا الاشجار يومها لكي نراها وهي تغني، حضر الاحتفال معظم اهالي عجلون؛ الرجال والنساء والشباب والأطفال، يومها كان الناس يعيشون في أجواء العائلة الواحدة، لا فرق بينهم في دين أو معتقد أو نسب أو عائلة كلهم واحد، ولا أنسى حالة الفرح التي كانت تغمر الوجوه، كنّا أطفالا ننظر الى المستقبل بعيون المحبة والشوق الى الحياة، لا أنسى الجيران الذين تربينا معهم على حسن الجيرة والاخوة؛ مسلمين ومسيحيين، لا فرق بينهم، كنّا أسرة واحدة في كل حارة، ولا أنسى في ذلك الزمن تلك العادات الجميلة والقيم النبيلة التي تحافظ على خصوصيات الناس وشرفهم وأعراضهم وعلاقاتهم وإحساسهم ببعضهم بعضا، كانوا في الأفراح والأتراح والزراعة ومواسم القطاف والحصاد والعمل يدا بيد، لا يتأففون ولا يكذبون ولا يغيبون عن بعضهم، يتناوبون الزيارات ويردونها دون مواعيد، ولا يتبرمون أو يتثاقلون من ذلك، ولا أنسى المدرسة وتقاليدها وهيبة المعلم وصرامته وحزمه وانتظامه في الساحة وغرفة التدريس، كان اذا سار في الطريق يهرب الطلبة ولا ترى لهم أي اثر، لن أنسى كيف كانت التربية تسبق التعليم، وكيف كان العقاب والثواب والحضور والغياب، كانت المدرسة تشتعل حياة واحتراما هكذا كنّا. كانت تلك الأيام أيام صفاء ووداد، وحياة الناس صبر ورضا، كان الناس رغم الفقر والجوع لا يشكون فقرهم ولا يأخذون حقوق غيرهم، وإذا ما هلّ الشتاء تقف من بعيد تتأمل البيوت في الصباح فترى أعمدة الدخان تتصاعد من مدافئهم، وحين يحل المساء تجد الجميع يتحلقون حول كوانينهم في بيوته، ما أقساها من ايّام وما أبسطها، أعراسهم فرح حقيقي وأحزانهم ايّام تتالى في بيوت العزاء، يكرمون بعضهم رغم قلة الامكانات، ولا ينتظرون ذلك، هكذا كنّا؛ ولكن ما الذي تغير فينا؟

وفِي عمّان حيث التحقنا في الجامعة الاردنية حينذاك كانت البساطة والاناقة وجمال الطبيعة ونظافة المكان تؤكد هيبة باذخة لعلماء الجامعة وللقادمين إليها من كل مكان، ما أبهاه من زمان، وما أجملها من ايّام، كنّا ندلف إليها من بوابتها الباسقة بعطر طلبتها، ونقف امام مكتبتها اجلالا وتكرمة، ونجلس في حواريها وشوارعها ونحن نشنّف الصمت وهواء اللزاب يعزف نسيماته الرطاب، وحين نمضي الى وسط البلد يتوزع الطلبة في ازقة المدينة وشوارعها ودور السينما، وحين يخرجون ترى وجناتهم محمرة من الخجل؛ وكأنهم يقفون أمام آبائهم؛ هكذا كانت التربية ترافقهم رغم انهم يعيشون الغربة والوحدة والرغبة في الاستقلال، لن أنسى تلك الأيام كيف كان يتناوب اصحاب الفكر اليساري في محاولاتهم لاستمالة الطلبة، وكيف كانت الأفكار والحوار هو السيد الذي لايبارى، ولا أنسى صراع الأفكار وجدالات الطلبة وكلها تؤكد ان ذلك الزمن كان زمن بناء الأجيال الحقيقي، ولا تتوقف محطات الزمن المذاب عند زاوية هنا أو هناك وإنما منهج الحياة وأسلوبها البسيط وإيقاعاتها المتسلسلة كان يوحي بالرغبة في التحديث والارتقاء والبحث عن كل شيء جديد، وهو أمر لم ينفصل عن الجد والتصميم والارادة القوية الواعية، وهنا تستوقفني تلك العلاقات الدافئة والدافقة المحبة بين المسيحين والمسلمين في علاقات حميمة اساسها الجوار والاحترام والقيم النبيلة وهو ما دعا الصديق ابراهيم العجلوني لتأليف كتابه الموسوم «احزان مسيحية» الصادر عن دار ازمنة في عمان، اعترافاً منه بجمال تلك الأيام التي عاشها وعاينها بنفسه في يومياته التي وقف فيها عند تفاصيل ووشائج قل نظيرها في المجتمعات العربية، وهي محطة مستمرة في الزمن الماثل وصورة متقدمة للتعايش الحقيقي بين المسلمين والمسيحين في بلدنا الحبيب، وهو ما نراه الان في مجتمعنا الذي كان يأبى التعصب والغُلو والتطرف ويبحث عن القيم القارة والسامية في بناء الفرد والمجتمع، وتبقى ايّام الزمن المذاب حاضرة بقوة في تفاصيل حياة الناس الذين لا ينسونها طال الزمن بهم أو قصر لانها أيامهم وحياتهم وتفاصيل لا حد لها.