Tuesday 30th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Jan-2024

كتاب «الأغاني» بين التوقير والتكفير

 الدستور-غسان إسماعيل عبدالخالق

على الرغم من كل ما يتمتّع به كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (284-357هـ)، من سمعة سيئة جداً في الأوساط الثقافية المحافظة، فإنّ هناك إجماعاً بين كبار العلماء القدامى وكبار أساتذة الأدب العربي المحدثين، على فرادة الكتاب والكاتب في آن واحد؛ علمياً وتاريخياً واجتماعياً، إلى درجة أن من عرّضوا بعقيدة الأصفهاني أو أخلاقه أو عاداته الشخصية مِن الأقدمين، لم يستطيعوا التنكّر لعلوّ كعبه في العلم. ولم يشذّ عن هذا الإجماع إلا ابن الجوزي الذي قطع بأنّ النظر في كتاب «الأغاني» يوجب إقامة الحدّ على مؤلِّفه!
هذا الإجماع على فرادة الأصفهاني العلمية، لا يمنعنا من التأشير على عدد من المفارقات الطريفة التي طالما استوقفت كل من كتب عنه؛ إذ فيما يوحي لقبه بأنّه فارسي الأصل فهو عربي قرشي مرواني دون ريب! ومع أنّه أموي الأصل والنسب إلا أنه كان متشيّعاً معتدلاً! وعلى الرغم من اعتداده الشديد بنفسه وإصراره على أن يُعامل معاملة خاصة فإنّه كان قليل الاعتناء بمظهره ونظافته الشخصية! ولم تمنعه حظوته السياسية الاستثنائية من التهتك والانكباب على شرب الخمر والتعلّق الشديد بالنساء والغلمان! كما لم تحل غزارة علمه في اللغة والنحو والأنساب والمغازي والحديث وكثير من حقول المعرفة الجادة دون توجيه معظم جهوده التأليفية نحو المغنين والمغنيات والجواري وأخبار نجوم المجون واللهو والعبث! وهو من المثقفين القدامى المحظوظين جدًا الذين لم يدفعوا ثمن سلوكهم الشخصي أو انتمائهم الفكري، إلى درجة أنّ كبار رجال الدولة العباسية كانوا يتسابقون لاجتذابه، بل إنّ أمراء الدولة الأموية في الأندلس، لم يبخلوا عليه بالعطايا الجزيلة على الرغم من تشيّعه المعروف!
ولا يقل مضمون كتاب «الأغاني» طرافة عن طرافة شخصية كاتبه؛ فهو يكاد يكون بمجلّداته التي تنوف على العشرين، المثل الأبرز لتحوّل الهامش إلى متن! لأن الأصفهاني نشط لتأليفه بناء على طلب أحد رؤساء الدولة العباسية، بغية إعادة النظر في الألحان المتداولة منذ أيام هارون الرشيد، واختيار مئة لحن منها مجدّداً، حتى يُصار إلى تقييدها. لكن أبا الفرج لم يقف عند هذه الغاية، بل تجاوزها إلى الاستطراد الشديد بخصوص أخبار المغنين والمغنيات والشعراء والكتّاب وأصحاب النوادر، فضلاً عن أخبار العرب وأيامهم وأبرز رجالاتهم وحكاياتهم، وهكذا فقد صار المتن هامشاً والهامش متناً! مع أنّ كثيراً ممن لم يقيّض لهم الاطلاع على الكتاب يتوهمون أنّه يقتصر على شؤون الغناء وشجونه.
وخلافاً لما ينشط المثقفون والكتّاب المحافظون، لتوجيهه من تهم لكتاب «الأغاني»؛ مثل الزعم بأنّه يشتمل على كثير من أفكار الزندقة – مع أنّ الأصفهاني كان صريح التشيع لآل البيت- ومثل الادعاء بأنّه ينطوي على ميول شعوبية فارسية - مع أنّ الأصفهاني عربي قرشي أموي- ومثل التنديد بأنّ مصادره مستمدة من الكتب والصحف وليس من أفواه العلماء – مع أنّ كل من ترجموا للأصفهاني يؤكّدون أنّه أخذ العلم عن عدد كبير من العلماء المعدودين وأورثه لعدد كبير من العلماء المعدودين- فإنّ المؤرخين والباحثين والنقاد المنصفين، لا يسعهم التنكّر للحقائق التالية:
أولاً: أنّ كتاب الأغاني يمثل مصدراً أساسياً من مصادر الثقافة العربية بوجه عام، ومن مصادر الأدب والفن والفكر بوجه خاص، سواء على مستوى الكم أو على مستوى النوع.
ثانيًا: أنّ كتاب الأغاني ينفرد بكثير من الروايات والأخبار والنصوص التي لم تَرِد في مصادر أخرى.
ثالثًا: أنّ كتاب الأغاني يُعد المصدر الأول على صعيد تاريخ وتأريخ الغناء والموسيقى في الحضارة العربية الإسلامية.
رابعًا: أنّ كتاب الأغاني يُعد وثيقة اجتماعية وسياسية واقتصادية نادرة، على صعيد توصيف أحوال أفراد الطبقة الأرستقراطية وكشف الغطاء عن أنماط عيشهم وأكلهم وشربهم ولبسهم وجدّهم وهزلهم.
خامسًا: أنّ كتاب الأغاني يُعدّ أصلاً رئيساً من أصول فن السّرد العربي. بل إنّ كاتب هذا المقال يميل إلى الاعتقاد بأنّه أصل رئيس من أصول (ألف ليلة وليلة)، نظراً لما اشتمل عليه من أطر حكائية، وخاصة على صعيد قصص الحب العاصفة بين بعض الأغنياء الذين انقلبت أحوالهم وبين جواريهم المخلصات.
سادسًا: أنّ كتاب الأغاني يُعدّ على صعيد الأسلوب السردي، نموذجاً مبكّراً للواقعية المتوحّشة التي تسمّي الأشياء بأسمائها وتصف الأحداث كما وقعت، بغض النظر عن الصورة النمطية الرسمية المرسّخة في أذهان الناس، عن بعض الأشخاص أو الموضوعات أو الوقائع.
وعلى كثرة النصوص القديمة المرموقة التي يمكن أن نوردها، لتعزيز حقيقة الفرادة الاستثنائية التي يتمتع بها كتاب الأغاني، فحسبنا أن نقتصر على ما أورده ابن خلدون في مقدّمته – وهو من هو فقهاً وعلماً وفكراً وأدباً- حيث قال: (ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يُعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنّى له بها)!