Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Jan-2020

مختبر المدرسة..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

في أول السبعينيات، انتهت وكالة الغوث من بناء مدرستنا على قمة أحد جبال عمان الشرقية. وانتقلنا إليها من عدة مدارس صغيرة مستأجرة كانت شققاً سكنية غير مؤهلة. وكانت مدرستنا الجديدةُ تحفةً في ذلك الحين. المبنى كبير من ثلاثة طوابق على شكل زاوية قائمة أحد ضلعيها طويل. ممراتها عريضة، وغرفها واسعة جداً إحدى واجهاتها زجاجية بالكامل، وملاعبها وساحاتها فسيحة مرتبة، ومساحاتها الترابية مزروعة. وفوق ذلك، كل شيء جديد ولامع والأزرق السماويُّ هو السيد.
من بين محتوياتِ المدرسةِ كان مختبر للعلوم؛ قاعة واسعة بأرضية مدرَّجة، على أدراجها العريضةِ طاولات بيضاء طويلة على كل منها حوض وصنبور ماء، ودوارق وأنابيب ومشاعل وأجهزةٌ وأدوات. ولوجود المختبر، خصصوا له جزءاً من حصص العلوم. وقد درسنا نحو ست سنوات في تلك المدرسة، أجرينا فيها كلها تجربة علوم واحدة أو اثنتين على ما أذكر –واحدة منهما كانت تشريح أرنب، والثانية كيميائية احتوت على مزج عناصر. وهذا كل شيء.
بالطبع، كنا نذهب إلى المختبر في حصص المختبر. لكن ذلك كان لمجرد تغيير المكان. وكان التغيير مستحباً فقط لأنه يكسر الرتابة. لكننا كنا نتلقى في المختبر نفس الدرس النظري الذي نتلقاه في غرفة الصف عادة. وكانت تلك خسارة حقيقية. ففي منهاج العلوم كيمياء وفيزياء وتراكيب ومعادلات. ولو أنهم استغلوا وجود المختبر لتعليمنا إجراء تجارب عملية، لكان ذلك سيغير مصائر البعض منا ممن قد يُغرمون بمتعة العمل مع المركّبات والعدسات والأجهزة.
لا بُدّ من الاعتراف بأن مدرستنا تلك كانت مميزة بأمور غير المباني واللوجستيات. فقد ضمت نخبة من أساتذة “ذلك الزمان” الفاهمين العارفين، الذين أسّسوا معارفنا بطرق أصبحت تندر اليوم. لكنّ عدم الاستفادة من وجود المختبر –وغرفة الفن إلى حد ما- كان من السقطات. ولخّصت قصة ذلك المختبر أفظع عيب في أنظمتنا التعليمية: الالتزام العنيد بالمعرفة النظرية الجافة، حتى عندما تُتاح أدوات المعرفة العملية التجريبية –بل وعدم بذل أي جهد واعٍ لتخصيص جزء معقول من التعليم للتجريب والتطبيق العملي.
في ذلك الحين، كما هو الآن، ما يزال الاستظهار الأعجم هو الأسلوب السائد في التعامل مع المعلومة: الأستاذ يسرُد عليك فقط ما هو مسطور في الكتاب هُوَ هوَ بطريقة ما، ثم يطلبه منك نفسه في ورقة الامتحان على طريقة “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”. بل إنك إذا اجتهدتَ وأوّلت وشرحتَ واقترحتَ شيئاً من عنديّاتِك، فإنك رُبما تعاقَب على “تفلسُفك” وانحرافك عن حرفيّة النص. وقد يكون الأستاذ نفسه قد استظهر المادة من كثرة التكرار، ولم يخرج سنتيمتراً واحداً عنها ولا حولَها، فأصبحت نصاً مقدساً لا يُمس. وقد يُرى هذا نفسه في التعليم الجامعي أيضاً بعد المدرسيّ.
ليس “المختبر” في حقيقته مفهوماً حكراً على العلوم البحتة. ثمة “مختبر” للإنسانيات لا يقلُّ غنى وضرورة. وهو في الحقيقة أرخص كلفة، لا تلزمه قاعة خاصة ولا أجهزة ولا أدوات -سوى العقل ومدرب حاذق يُشرفُ على استحضارِ أدواته وشحذ أطرافه واقتراح الخطوات والمقاربات، من دون فرض النتائج سلفاً. وفي غياب “المختبر” من أي نوع، تصبح علاقتنا مع الشِّعر، مثلاً، محصورةً بتسميع الأبيات مثل آلة صماء لا يلزم أن تعرف معنى المفردات ولا العبارات والمجازات، وكأنك تقرأ لغة أجنبية مكتوبة بأحرف عربية. وهذا هو الغالب السائد في تعاطينا مع نصوص التاريخ والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد وما تُريد من “المناهج”.
في خبرتنا، لم يجعلوا المختبرات/ التجريب جزءاً من مفاوضة المعرفة. ولذلك ضمُر ذلك الجزء من العقل المعني بالتساؤل والشك وفحص البدائل والابتكار بسبب قلة الاستعمال. وبعد ذلك تظل الأسئلة المتعامية تُطرح عن أسباب شيوع الجمود والتطرف والتعصب وندرة الاستكشاف في كل مجال.
المسؤول، حسب كل منطق، هو نظام تعليم مصمّم -قصداً أو اتّفاقاً- لصناعة عقل يقبل ثبات كل السلطات، ويُخزِّن ما يُودع فيه كـ”حقائق” قد يذهب استنطاقها بصاحبه إلى الكُفر أو العزلة. ومع ذلك، ما تزال بدائل الحكم التي تطرحُ نفسها على أساس التطوير وصنع مجتمعات المعرفة تعادي “المختبرات” في الممارسة، والتي سُرعان ما تنسجم تماماً مع المنظومة العاجزة عن استنباط أي حلول، والتي لا يُنتظر منها شيء.