Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Jun-2019

قراءة في المجموعة القصصية «أمميّة» للدكتور سليمان الأزرعي

 الدستور-مجدي دعيبس

ما انفكّت القصة العربية منذ ألف ليلة وليلة وما قبلها تتقلب على وجوه عدة من حيث الشكل والمضمون حتى تواكب الحقبة التي تمر بها وتعبّر عن هواجس الناس وأوجاعهم وهمومهم. وهي ما زالت على مر الأيام جنسا أدبيا له لونه وطعمه ورائحته التي تنبثق من أسس وركائز متفق عليها مع ما طالها من تعديل وتحوير وتطوير بفعل الزمن. على أن ما ذكرت لا يقلل من شأن المساحات المفتوحة والحرية اللامتناهية أمام المبدع حتى يصب نتاجه في هذا القالب الأدبي الفضفاض أو المرن إن جاز التعبير. 
بعد البابور (1993) والذي قال اخ أولا (1997) والقبيلة (2000) يطل علينا الدكتور سليمان الأزرعي القاص والباحث والناقد بمجموعة قصصية تحمل عنوان (أمميّة) والصادرة عن دار أمجد للنشر والتوزيع عام 2016 بدعم من أمانة عمان الكبرى. المجموعة تشتمل على ست عشرة قصة خُطت بلغة شيّقة ومتجددة تدفعك للشعور بأن لغتنا قادرة على استيعاب مجرّات وأكوان لم نسمع بها من قبل.
القراءة في المجموعة القصصية ليست من قبيل شرح المعلقات على سبيل المثال الذي يذكر الشاردة قبل الواردة ولا يسلم منه أي تفصيل مهما كان حجمه أو وزنه وإنما هي إضاءات على بعض ما ورد فيها من مضامين وتقنيات ولغة وأسلوب على أن الإحاطة بكل قصص المجموعة وما جاء فيها من جماليّات وتقليبها وتمحيصها ليس من باب اجتهادي في هذ السطور القليلة.  
أول ما يشد الانتباه عند قراءة قصص المجموعة هو أن المؤلف يستحضر مشاهد ومواقف وأحداث من مراحل عمرية متفاوتة كان في غالب ظني قد اختبرها بنفسه أو سمع بها من مجايليه وأقرانه وحوّلها إلى مادة أدبية جميلة مع ما يلزم من معالجة حتى يتحقق العنصر الفني للعمل.
في فاتحة المجموعة وهي قصة (عرس قانا الجليل (2)) يعود بنا المؤلف إلى أعراس القرية وأفراح الفلاحين التي باتت من ذكريات الجيل الذي كادت شمسه أن تنحاز بالكامل إلى الأفق الغربي. حلقة الدبكة والزغاريد وحبل المودع ولعلعة الرشاشات وتراقص الصبايا في فناء دار أهل العريس كلها مشاهد عاينها المؤلف وشارك فيها على الأرجح. فايز الهبيلة وفرحان البطحيش والمزيونة وصِبية القرية شخصيات تنبض بالحياة وتكاد تطل على القارىء من صفحات المجموعة وتشده من ياقة قميصه وهي تردد عباراتها كما أراد لها المؤلف. ولا يخفى على القارىء الاستخدام الطريف لعنوان القصة والمستوحى من معجزة تحويل الماء إلى خمر في العرس الذي حضره المسيح الناصري في قانا الجليل.
يُطْلعنا الكاتب على أفكاره وهواجسه وهو يعمل على مادة القصة (هواش.. كلب الدار) ولست متأكدا من التسمية التي تطلق على هذه الحالة إن وجدت. يقول: « ماذا سأقول لكم عن هواش لكي تقتنعوا بأنه يستحق مني أكثر من تضحية نقدية؟ وأن ما كتبته عنه حتى الآن لا ينصفه « وكتب في موضع آخر من القصة: « والثانية، لأنني قررت أن أضرب النقاد – رغم كوني واحدا منهم- بأقدم حذاء لبسته في حياتي. سأعود إليك ثانية وثالثة «.
الوفاء للمعلمين والمربين الأوائل والتأكيد على دورهم في خلق الوعي والهوية الوطنية لجيل بأكمله موضوع قصة (حشفة في دار عمر فائق الشلبي) والقصة مهداة إلى روحه الطاهرة ولا أعرف أين ينتهي التاريخ ويستلم الخيال زمام الأمور في بعض المواضع من القصة فهي تصلح لأن تكون خيالا خالصا أو واقعا خاليا من المعالجة والتصرف.
(خطبة الشيخ ظاهن) تجسيد لسطوة الخطاب الديني وتهييج مشاعر المصليين لأهداف ومآرب يرتئيها الشيخ ظاهر . كتب المؤلف: « صاح نادر بالقوم:» يلعن أبوكم يا أولاد الـ.. تذبحونا لإرضاء ذلك الأخنب.. أبو الحمير.. وهل صدقتم أنه بات شيخا يأمر وينهي ويستجيب لطلبه السفلة والجربان؟ من منكم لم يسرق ذلك الكذاب من كرمه أو من خم دجاجاته؟ وكم مرة قبضتم عليه في الأخمام والعشش؟ «. في خاتمة القصة يقول الشيخ ظاهر: لا (تنحموا) منهم أحدا.. (كنهم كفنة) وملحدون. شيوعيون (وأوناد) كلاب..     
 (في ذكرى رحيل والدي المعظم) تعيدنا إلى رائحة العشب الطازج والأرض المحروثة ومواسم الزيتون وبيوت الشمس في القرى التي غادرناها إلى بيوت لا تدخلها الشمس إلا إذا وجّهنا إليها دعوة مكتوبة. في ذكرى رحيل والدي المعظم حنين إلى حياة تخلّينا عنها بحجة العمل والرزق والتطور لكنها – الحياة – لا تنفك تنادينا وتظلل علينا بذكرياتها الجميلة.   
في ظل الإعلام والإعلام المضاد والفضائيات التي تبث موادها في أثير مفتوح ونهم أصبحت الحقيقة لفظة ضبابية وبحاجة لأعادة نظر في المعاجم العربية. فهناك نصف الحقيقة وربع الحقيقة لكن لا وجود لما يسمى بالحقيقة الكاملة فالحقائق متعددة وعلى المتابع ان يختار الحقيقة التي تناسبه. قصة (اعتزال) تطرح موقف الصحفي الذي يكتشف لاحقا أن المحطة الفضائية التي يعمل لحسابها لديها سياسة تتجاوز كل الحقائق.   
يرفض المؤلف في قصته الموسومة بـ (الأممية) والتي يظهر اسمها على غلاف المجموعة كل الخرائط والعصبيّات والأدلجة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويدعو إلى أمميه طاهرة نقية. يقول: « أيها البؤساء. أيها البسطاء. ارفضوا كل الخرائط وكل من يدعون إليها وعودوا إلى ثدي أمنا الأرض كي لا تصاب باليباس .. إنهم كذابون محترفون ومنحطون وخونة وسفلة وأوغاد «. 
يعمد الكاتب في (قبر جماعي) إلى أسلوب مبدع وغرائبي ليسوق سرديته من خلال أحد الأشخاص الذين نُقلوا بالشاحنات الى موقع القبر الجماعي بعد تفجير أحد المستشفيات حيث الآليات الضخمة والجثث المتراكمة ورائحة الدم المتخثر. هذا الشخص الذي ما زال يعد أنفاسه الأخيرة ينقلنا إلى حالة من الوعي المتقطع والاحتضار فيلتقط صورا متفرقة ومتتالية تجعله يدرك ما هو فيه. يقول: « تلقفتني يد أكثر جبروتا، وسحبتني حتى حافة الهاوية. دفعني الرجل دفعة قوية برجله، فرحت أبرم كمغزل وأتجه نحو قرار المقبرة الجماعية وأصطدم باللحم البشري ويبتلعني ظلام دامس. انقلبت الانقلابة الأخيرة ما قبل الضجعة الأبدية والموت المحقق..»  
قصة ( مواطنون غير شرعيين ) تتناول موضوع الهجرة الذي يسيطر على الشباب في العالم الثالث والرابع والخامس إلى آخر القائمة هروبا من واقع أليم في أوطانهم وأملا بحياة كريمة في أوروبا وأمريكا. هناك إشارة إلى القوارب المطاطية التي تحمل الآلاف من الأفارقة الذين تنتهي أحلامهم على الشاطىء أو في قعر البحر العاتي. عبّر الكاتب عن رأيه بصراحة عندما قال: « لم يعد ثمة من وطن كنت أحلم به، أنا أعترف لكم بأشلاء لما تبقى من حلمي.. ولكن لا تغامروا.. لا تذهبوا «. 
إلى هنا ويبقى السؤال الشائك: إلى أي حد يكتب المبدع نفسه او إلى أي حد يحمّل الكاتب تجاربه وخبراته وما مر به من حوادث ومعاناة للشخصيات التي يحركها في فضاء سردي واسع واتجاهات مفتوحة على احتمالات لا تحصى؟        
الدكتور سليمان الأزرعي من مواليد الحصن عام 1949 وهو الأكاديمي والناقد العتيد وصاحب رؤية نقدية وفي رصيده العديد من المؤلفات في هذا الحقل الشائك. الدكتور سليمان الأزرعي له أياد بيضاء وبصمة ظاهرة في الثقافة الأردنية والعربية وله منا كل تقدير وإجلال.