Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-May-2021

وصايا جيزال حليمي… إلى نسوة الجزائر وتونس

 القدس العربي-سعيد خطيبي

حين وُلدت جيزيل حليمي صيف عام 1927 في حلق الوادي (تونس) استاء والدها، لم يطق أن ينجب فتاة أخرى، ظل ثلاثة أسابيع كاملة يرفض الإقرار بالمولودة، يرد على من يسألها إن كانت زوجته قد وضعت حملها بالقول إنها لم تلد بعد، شعر أن مصيبة نزلت على بيته، هذه الواقعة التي سوف تسمعها المعنية من أهلها عندما كبرت، جعلتها تكتب في شهادتها «حرية مطلقة» (2020): «لقد وُلدت في المكان الخطأ». كانت لحظة ميلادها سبباً في إثارة الغضب في قلبها، في تمرينها على العصيان، في حرصها على دعوة نسوة تونس ألا يذعن إلى صوت الذكر، ويمارسن خياراتهن كما يحلو لهن، فوالدها الذي كاد أن يتبرأ منها لم يعلم أنه أنجب امرأة سوف تلعب دوراً حاسماً في قضايا النسوية، في المقاومة والتحرر، في الدفاع عن المستضعفين، سوف تصير جيزيل حليمي بعد ربع قرن من ميلادها أشهر محامية في عصرها، ترافق جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، ثم تخلفهما في مكانهما القيادي، وسيكون لها فضل في تدويل ثورة الجزائر وفي تسريع مسار الاستقلال.
قرابة السنة تمر على رحيل جيزيل حليمي (أو زيزا الطيب طبقاً لاسمها في الحالة المدنية) بعدما قضت ما لا يقل عن ستة عقود في إثارة الحروب والزوابع من حولها، وقبل أن ترحل تركت وثيقة أخيرة، حوار سيرة مع الصحافية أنيك كوجان، صدر عقب دفنها كي يذكرنا كل مرة بقصتها، التي ألهمت نساءً جئن من بعدها. فلعنة أن تولد أنثى، في بداية القرن الماضي، لم تكن لحظة التحول الوحيدة في حياتها، ففي سن السادسة عشرة شنت إضراباً عن الطعام، رفضاً منها لرغبة والدها في تزويجها، وتحكي: «أرادوا تزويجي بتاجر زيوت ناهز الخامسة والثلاثين من العمر، بينما أنا لم أتجاوز السادسة عشرة» كان تزويج القاصرات أمراً شائعاً، لكن جيزيل كانت الاستثناء في رفضها، متمنعة عن الأكل أياماً، قبل أن يغير أهلها رأيهم ويسمحوا لها بمواصلة دراستها. في الثامنة عشرة من عمرها حلت في باريس، وكانت تلك رحلتها الأولى خارج تونس، درست الحقوق وعادت إلى بلدها محامية، تزوجت من بعلها الأول (حليمي) أنجبت منه ثم تطلقت، متحمسة إلى البذلة السوداء (بذلة واحدة حافظت عليها طوال مسيرتها) إلى المرافعات ومقارعة القضاء، دون أن تسلم من سخرية زملائها الرجال، حيث تتذكر: «كنت كلما كسبت قضية، سمعت محامٍ يحدث موكله: لا يمكننا فعل أي شيء. إنها شابة ومغرية. نحن الرجال نضعف إزاء الإغراء».
لم يقر أحد بشغفها في المحاماة، بل فسروا صعودها إلى كونها المرأة المحامية الوحيدة، وأنها تستغل جاذبيتها في استمالة القضاة إليها. في 1953 دافعت في أول قضية سياسية لها، أثناء محاكمة تونسيين داعمين للاستقلال، اتهموا بقتل عناصر من الجيش الفرنسي. شكلت تلك المحاكمة بادرة مسارها السياسي، الذي سوف ينتقل من تونس إلى دعم التحرر في الجزائر.
 
جيزيل حليمي التونسية دماً، الجزائرية بالتبني، لم تركن إلى الراحة بعد استقلال البلدين، وتسرد في كتابها ما واصلته من حروب صغيرة وأخرى كبيرة، في دفاعها عن الحق في الإجهاض وفي مناهضة العنصرية.
 
قضية جميلة الجزائر
 
عام 1960 اشتهر اسم جميلة بوباشا، التي لم تتعد الثانية والعشرين من العمر، المناضلة الوطنية التي اتهمت بزرع قنبلة في مقهى يرتاده فرنسيون في الجزائر العاصمة، قنبلة لم تنفجر ولم تخلف ضحايا، فتم توقيفها وتعذيبها، وشاركت جيزيل حليمي في الدفاع عنها، صارت قضيتها عالمية، انضم إليها جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار وفرانسواز ساغان وبابلو بيكاسو، والعديد من وجوه الصف الأول في باريس في الدفاع عنها، قناعة منهم بما أتاحته لهم المحامية من معطيات عن القضية، وأنها مسألة تحرير بلد لا مجرد جريمة. «تحتم عليّ إنقاذ تلك الشابة التي كان ينتظرها حكم بالإعدام. كما توجب عليّ إدانة ما تعرضت له من تعذيب ومعاقبة الجلادين» تقول حليمي، فمن اللحظة الأولى كانت مقتنعة ببراءة جميلة، جندت المثقفين في صفها، جمعتهم في ندوات صحافية وفي وقفات تنديد، ألغي حكم الإعدام، ثم أفرج عن بوباشا، عام 1962، وكسبت جيزيل حليمي معركتها الأكبر، أن جعلت من الثورة الجزائرية قضية إنسانية، لا مجرد سياسية. من يتذكر جيزيل حليمي اليوم في الجزائر؟ الجزائر التي نسيت بعض من صنع ثورتها، نسيت أيضاً أصدقاء ثورتها، يكاد اسم جيزيل حليمي أن يكون مجهولاً في جزائر الألفية الثالثة! لم تتحمل المحامية فقط مشقة الدفاع عن الثوريين، والسفريات الدائمة بين باريس والجزائر، بل أيضاً قاست التخويف والتعنيف، بدايات ستينيات القرن الماضي، من طرف أنصار الجزائر الفرنسية، الذين حاولوا تصفيتها، بعدما فشلوا في ترهيبها وحملها على التخلي عن موكليها.
جيزيل حليمي التونسية دماً، الجزائرية بالتبني، لم تركن إلى الراحة بعد استقلال البلدين، وتسرد في كتابها ما واصلته من حروب صغيرة وأخرى كبيرة، في دفاعها عن الحق في الإجهاض وفي مناهضة العنصرية.
جيزيل حليمي، التي صارت في منتصف الثمانينيات سفيرة فرنسا لدى اليونيسكو، تروي كيف حصل ذلك: «كنت في هافانا في مارس/آذار 1985، للمشاركة في يوم المرأة ومن أجل إقناع فيدال كاسترو بإخلاء سبيل أحد المعارضين، حين بلغني نبأ تعييني سفيرة في اليونيسكو» عرفت قادة الإليزيه من ديغول، فاليري جيسكار ديستان، فرنسوا ميتران، إلى ماكرون، تحكي في «حرية مطلقة» عن ذكرياتها بين حربي استقلال، عن تحولات فرنسا من السبعينيات، عن صلتها التي لم تنقطع مع وادي الحلق ومع نسوة الجزائر، عن مرارة تحس بها وهي ترى أن ما سعت إليه من مساواة بين الجنسين لم يتحقق بما فيه الكفاية، وتتذكر علاقتها مع جان بول سارتر: «أحببته مثل أبٍ لي. كنت كلما اعترضتني مشكلة مع واحد من ابني، التمست نصحه. كان كريماً وعطوفاً. ثم صرت محاميته بدءاً من 1958.. أتكفل بعقوده، قضاياه ومتابعة دفع ضرائبه.. كانت مسرحياته تمثل في مسارح العالم دون أن يدفعوا لها حقوقها.. توليت حمايته الفكرية.. كنت أنوب عنه في ملاقاة مخرجين يريدون نيل حقوق تمثيل مسرحياته.. فهو كان منشغلاً بالكتابة فقط.. كان يأتي إلى العشاء في بيتي.. أحضر له الطاجين أو الكسكسي..».
 
روائي جزائري