الدستور-ساجدة الموسوي
ثلاث أيقونات من مدينة بغداد، لكلّ منهن قصّة مؤلمة، ولكلٍّ منهن قصيدة رثاء فارعة كتبها شاعرٌ مهم، إحداهن رسّامة معروفة، والثانية صحفية معروفة، والثالثة حبيبة شاعرٍّ أيضا معروفةٌ، ثلاثتهن واجهن ذات القدر فغبن كلّاً على انفراد، ترى كيف اشتركن بالجمال والموت ظلما وبمجد الشعر، كأن لسطوة الأقدار اختياراتها وفنها في الاختيار...
بلقيس حبيبة نزار
تبدأ قصتها عام 1962 عندما حضر نزار قباني للجامعة المستنصرية وألقى بعض قصائده، وقع نظره على بلقيس الراوي، ليس فقط لجمال شكلها وشعرها الكستنائي الطويل وعينيها العسليتين، بل لأن شيئا ما جذبه لعلُّه السّحرُ والجاذبية مما لا يفسره الرائي مباشرةً ولكنه يقع تحت تأثيره، وهذا ما بدا لي أيضا حين التقيت بها في بيروت عام 1979.
تعارفا وسرى وهج الحب بين قلبيهما فلم يسافر نزار دون أن يتقدم لخطبة بلقيس، لكنه فوجئ برفض والدها، فسافر وفي قلبه غصّة وألم كبير، فهذه البغدادية بنت الأعظمية قد سلبت فؤاده، لكنه لم ييأس، ظل سنوات يتواصل معها، حتى دعي عام 1979، للمشاركة في الأمسية التي أقيمت لمناسبة انعقاد مؤتمر اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وألقى قصيدته الرائعة معبراً عن وجعه الدفين وشاكيا مرارته لبغداد ويقول فيها :
« مرحبا يا عراق، جئت أغنيك
وبعض الغناءِ بكاءُ
مرحبا.. مرحبا أتعرفُ وجها حفرتهُ الأيامُ والأنواءُ
أكل الحبُّ من حشاشةِ قلبي
والبقايا تقاسمتها النساءُ... «
حتى يصرّحُ فيها بما يعتلج في قلبه فيقول :
« كان عندي هنا أميرةُ حبٍّ
ثم ضاعت أميرتي الحسناءُ
أينَ وجهٌ في الأعظميةِ حلوٌ
لو رأته تغارُ منه السماءُ..»
وأدركت بغداد أن في قلب نزار جرحا غائرا وما ان وصلت قصته للرئيس أحمد حسن البكر رحمه الله حتى بعث لأهل بلقيس من يخطبها لنزار، وهما وزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزير الخارجية الشاعر شاذل طاقة، إذ ذاك وافق والدها وتزوجا في العام نفسه.
عاشا ربيع الحب فقد وجد فيها ك ل ما يأمله في زوجة وصديقة وحبيبة أنجبت له ولدين علي وزينب، وكتب فيها أروع الغزل في قصيدة غناها الفنان كاظم الساهر يقول فيها:
«أشهدُ أن لا امرأةً
أتقنت اللعبةَ إلّا أنتِ
واحتملت حماقاتي عشرة أعوامِ
كما احتملتِ
واصطبرت على جنوني
مثلما صبرتِ
وقلمت أظافري
ورتبت دفاتري
وأدخلتني روضة الأطفال
إلّا أنتِ».
استقرت حياتهما في بيروت، وكانت بلقيس تعمل في السفارة العراقية هناك، فإذا بالانفجار الإرهابي يودي بحياتها وحياة 61 موظفا وعاملاً في ذات الوقت.
فمن ذا يعزّي الشاعر الموجوع على فقد حبيبته غير شعره...
فجاءت قصيدته فارعة راعدةً ناثرةً شَعرها على الملأ ترثي حبيبته بلقيس، ومما يقوله فيها:
«شكراً لكم.. شكراً لكم
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمّةٍّ في الأرض
إلّا نحنُ نغتال القصيدة؟
بلقيسُ كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيسُ كانت أطول النخلات
في أرض العراق
كانت إذا تمشي ترافقها طواويسٌ
وتتبعها أيائل
بلقيس يا وجعي
ويا وجع القصيدةِ حين تلمسها الأنامل».
ذهبت بلقيس شهيدةً لكن قصيدة نزار في رثائها بقيت خالدة.
الفنانة القديرة ليلى العطار
لم تكن حكاية الفنانة ليلى العطار حكايةً عابرة، بل حكاية تشبه حكايات الجميلات اللواتي تختطفهن الأقدار على حين غفلة ودون سابق إخطار، فتترك الناس في ذهول كأن على رؤوسهم طيورٌ غريبة قادمة من سماء بعيدة..
الفنانة العراقية ليلة العطار ولدت ببغداد عام 1944، ومنذ طفولتها كانت تحب الرسم. وفي السابعة من عمرها فازت بالمسابقة العالمية التي أقيمت في الهند، تخرجت في كلية الفنون الجميلة عام 1965، وعلى مدى ثلاثة عقود من النشاط الفني والمعارض في داخل العراق وخارجه، حفرت اسمها كفنانة مبدعة وذات خصوصية في إبداعها، كما أنها تولت عدة مواقع ذات علاقة باختصاصها منها مديرة للمتحف الوطني للفن الحديث، ومدير عام دائرة الفنون ومركز صدام للفنون، وهذا المركز كان تحفة معمارية في شارع حيفا ببغداد، فقد كان على شكل سفينة رابضة، وكانت ملاحتها الفنانة ليلى العطار.
لقد نالت ليلى العطار عن مشاركاتها في المعارض العديد من الجوائز أبرزها جائزة الشراع الذهبي من الكويت. كانت لوحاتها تتسم بالحزن والاغتراب.. حتى حين تحولت لرسم الطبيعة غلب على لوحاتها اليباب والأغصان الجرداء.. كأن شيئا ما في أعماقها ينبئها بالرحيل، هكذا يفسر الأمر بعض أصدقائها..
كان يوم اختطافها من حضن بغداد بسقوط صاروخ أمريكي من بين الصواريخ التي استهدفت بعض الدوائر والمؤسسات في بغداد وكان سكنها في شارع الأميرات بالمنصور قريبا من تلك الدوائر فاستشهدت مع زوجها ومربية أولادها عام 1993، وفقدت ابنتها ريم عينيها ونجا حيدر وزينب بأعجوبة من قدرٍّ أصمٍّ وأبكم.
بعد وفاتها كُتبت عنها الكثير من المقالات ورثاها الكثير من الشعراء ولعل قصيدة الشاعر الكبير حميد سعيد (اللوحة الأخيرة)، وهي ليست طويلة لكنها مفعمة بالأسى والحزن العميق وفيها رهافة الريشة التي رمت الفاجعة بدقة شاعرٍّ فنان، تبدأ بوصف إحدى لوحات الفنانة ليلى حيث تستطيل الأغصان الجرداء على يباب شبه أبيض وظهر امرأةٍّ غير مكتملة، واللوحة توحي باغتراب كأن الزمن متوقفٌ والألوان الغامقة والأغصان توحي بأسئلةِ اليباب..
« في اللوحةِ.. سيدةٌ لم تتشكل بعد الأشجارُ الفارعةُ.. امتدت وانتشرت
بين الثمر الغائب والماء العاري
وغواية خط التكوين.. «
ثم ينتقل إلى ليلى ليعطي لها صورة الفنانة التي تحصنت بحجر السمّاق فيقول :
«ولليلى العطار.. تمائمُ من حجر السمّاق
وجدتها ذات نها ر
في صندوقٍّ هنديّ في إحدى غرف الدار
قال لها شيخٌ من أقصى لون الفضّةِ
ليلى.. احتفظي بتمائمك الحجريةِ
تكشفُ للريشةِ ما أُغلق من أسرار... «
ثم وبكل هدوء يصف ليلة القصف كيف كانت ليلى في مرسمها :
« تتصيّدُ من بعض كنوز أصابعها
أقماراً وسحاب ا وفراشات
لك ن الألوان اعتكفت في حُق الكحل
ونامت في برد النسيان... «
في تلك اللحظة جرى كل شيءٍّ وانتهى حلم اللوحةِ التي كانت ترسمها، فقد وقع الصاروخ الهمجي على بيتها ليخلف مأساةً أبكت العراقيين لتتحول ليلى كما بلقيس أسطورة وكأنها حلم كان على الأرض يوما ثم غاب تاركا خيال الضحيةِ يسألُ الأسئلة المرّة لكن بلا جواب...
ولأن للقصيدة بصمةً تتركها للتاريخ، يستكمل الشاعر حميد سعيد لوعة الحدث رابط ا الحاضر بالماضي، وهو الذي عاش في إسبانيا وتشرّب قلبه بمرارة ضياع الأندلس فيقول :»
يدخل بيل كلنتون
في يده رمحٌ جاء به من متحف
إيزابيلا القشتالية
وجهٌ شمعيٌّ وعيونٌ من خرزٍّ
وأظافر من خشبٍّ مشدودٍّ بخيوط نحاس
يطعن رمّانة لوحتها
فيسيلُ دمٌ محترقٌ
وتفور أنابيب الزيت
تتهاوى جدران البيت... «
ثم يصف القصف، ويختتمها بحصاد الريح مستذكرا بيكاسو وجواد سليم فليلى العطار امتداد لهؤلاء الفنانين الكبار، حتى يقول : «
ولشارع حيفا.. وقع خطاها
ولنا.. أن نتذكرها
ونجيءُ لها
بسماءٍّ صافيةٍّ ونجوم «.
أطلق عليها العراقيون لقب (شهيدة حلمٍّ بغدادي) كما أن قصيدة الشاعر حميد سعيد في رثائها صارت فيلما سينمائيا حمل اسم القصيدة (اللوحة الأخيرة) وأخرجته الفنانة العراقية خيرية المنصور. كما بيعت إحدى لوحاتها في دبي بإحدى المزادات العلنية عام 2010 بمبلغ 370,000 دولار.
ذهبت الشهيدة ليلى وبقيت في قلوبنا كما بقيت لوحاتها والقصيدة التي رثتها بصدقٍّ ووفاء.
أطوار بهجت ودموع الحطاب
بنت الأعظمية أطوار بهجت مواليد 1976، ومثلما جمع اسمها أكثر من طور فقد تعددت مواهبها فهي شاعرة لها ديوان تحت عنوان (غوايات البنفسج) إصدار أول، ثم جمع الأصدقاء نثار قصائدها وأصدروه بعد رحيلها بعنوان (على جناح ليلكة( ورواية تحت عنوان (عزاءٌ أبيض).
لقد ظهرت مواهبها الأدبية مبكراً فعملت في الصحافة العراقية، ثم مراسلة لعدد من الفضائيات المحلية والعربية، وعملت مذيعة، في روحها وهجٌ وحب للعمل، وحبٌ للوطن فهي بين كل تلك الالتزامات كانت صاحبة موقف ورسالة، فقد توفى والدها وعمرها ستة عشر عاما فكانت معيلة لوالدتها وأختها الوحيدة (إيثار)، ولما تعرض العراق للاحتلال فكانت تحمل همّه وهم العراقيين بصفاء نية وقلب وفي لتربة آبائه وأجداده..
ومن أهم محطات عملها الجزيرة الفضائية لكن سرعان ما غادرتها لأن برنامج الرأي والرأي الآخر كان كمن يضيف الوقود للنار المشتعلة آنذاك في العراق، لذلك تركت العمل في الجزيرة واختارت العربية ميدانا لنشاطها كمراسلة صحفية.
أطوار كانت جميلة الشكل والروح وحين يلتقيها المرء يشعر أنه أمام شاعرة وفارسة في آن واحد، التقيتها مرة في عمان عام 2005 وكم كانت فرحتها بلقائي كبيرة وفرحتي برؤيتها بعد فراق سنوات، تحدثنا طويلاً وأدمعت عيوننا لما جرى للعراق.
أطوار كانت جريئة في عز الاحتدام الطائفي ذهبت لسامراء لتغطية تفجير ضريح الإمامين العسكريين، ذلك التفجير المهول الذي راح ضحيته العشرات من المواطنين الأبرياء، خلال أدائها لواجبها كمراسلة للعربية تم اختطافها من قبل مسلحين، قتلوها وسال دمها الطاهر على تراب العراق...
شغل خبر مقتلها وكالات العالم الإخبارية ومنظمات حقوق الإنسان، التي أطلقت عليها لقب (عذراء الصحافة العراقية) لكن ذلك كله لم يعدها للحياة..
وهكذا سقطت نجمة من نجوم العراق الزاهرة على ثراه، بكاها العراقيون وكتب عنها الشعراء والصحافيون أجمل ما ترثى فهي ابنتهم الغالية، وهم يتذكرون وصيتها في رسالة وجهتها للعراقيين قبل اغتيالها حيث قالت: «سنيّا كنت أو شيعيّا، عربيا أو كرديا لا فرق بين عراقي وعراقي إلّا بالخوف على هذا البلد «.
ومما نشرته ذات يوم: «أتمنى أن يبقى العراق عراقا وأحتاجُ عراقا كي أبكي على صدره، والأهم أن يعرف الجميع أن العراق هو العراق في كل الظروف «.
مرثية جواد الحطاب (استغاثة الأعزل) هي قصيدة جواد الحطاب في رثاء الشهيدة أطوار بهجت، وتعد من المراثي النادرة في قصيدة النثر، عميقة موجعة مكثفة لم تترك للنسيان قدر خرم إبرة فقد منحت الشهيدة جلالها ولبست شالها...
ومهد لها الحطاب بقوله: «...ها أنا ألبّي أمنيتك أخيراً، وأكتب عنك قصيدة لكنها، ويح أصابعي، مرثيّة !!!
وبما يشبه الصرخة يبدأ قصيدته قائلا:
«ما أنتن الرجولة
حين تنفرد الرشاشات بامرأة..
وفي مقطع كأنه مشهد درامي قال:
« القادمون من العتمة..
الهواة بأ(سمكرة) الأجساد
نصبوا الكمائن للغزالة
وتراهنوا :
خارطة العراق على صدرها
ذهب
أم
شبه ؟!! «
وفي جواب لسؤالهم قال:
«واكتشفوا أن الخرائط :
من بهجةٍّ
وأطوار.. «
وفي سطرٍّ منقعٍّ بالأسى يقول :
«حتى بكى الموتُ خجلاً من القتلة»..
ولعلّ ما يلفت في قدرة جواد الحطاب على استخراج المعنى حين يقول مخاطبا أطوار، وكأنّه بقدر ما كان يواسيها، يواسي نفسه:
«وماذا في رحيلك يا قدّيسة
: عينان خضراوان
واحتاجتهما الملائكة
لإضاءة ليل الجنة»!!
ما هذا المجاز الذي هتفت به اللوعة ؟؟ ويخاطبها ثانيةً بعد مقطعٍّ حاكى من خلاله قصّة يوسف وبلا ذئب كانت هناك غربانٌ سود تحيط بالقديسة يقول:
«ويا طور بهجتنا
تكاثرت انفلونزا الأشواك في مزهرية الطيور
فضعي (حجابك المدمى) على عين العراق
علّهُ يبصر الفاجعة.. «
وصفها شجاعةً لم تتخاذل أمام قاتليها يقول في ختام القصيدة :
«لكن أطوار أعرفها ربتت على كتف خوفها، وهمست بإذنه (من النذالةِ أن يتخاذل المرء أمام قاتليه ( فحققت المعجزة « المعجزة أن الشهيدة انتصرت على قاتليها
حتى يقول :
«الحدائقُ أصابتها التأتأة
وتوقف العطرُ عن الخفقان
طوال الليل ظلت تنزف الوردة
لا لم تمت
خيبات
الأمل
تتنفس
....
في سامراء
لا تنتظر الظهور
في سامراء
تتكرر الغيبة.. !!
وهكذا يرثي جواد الحطاب زميلته حين كان يعمل بالعربية ويوفيها القصيدة التي كانت تحلم بها.