مات أبي ولم يوصيني بشيء , واعتقد أن الوصايا مجرد مثاليات..أنتجها بعض الكتاب الذين يعانون , من فراغ هائل...لأن الذي يواجه الموت , ليس لديه وقت للوصايا.....

أتذكر حين دخلت الجامعة وفي اليوم الأول , تناولت مع أبي طعام الإفطار..ظننت أنه سيخبرني بأشياء مهمة , عن تجربته في الحياة..وهو يدرك أن ابنه الأصغر قد انتقل لمرحلة مختلفة في العمر..لم يتحدث بشيء ابدا , وحين خرجت نادى علي , قلت في داخلي ربما سيمنحني مزيدا من المال , ربما سيعلن بعضا من فخره واعتداده بي..أخرج من جيبه (ليرات) قليلة..وقال لي :- (جيب زيت بريك

وانت مروح)..كان زيت المكابح قد نفذ من سيارته , وظل يعيد :- (لاتنسى يا بوي زيت بريك من المشحمة)..

كانت وصيته الأولى في اليوم الأول من الجامعة هي :- (زيت بريك)..وقد نسيت ففي زحمة اليوم الأول , سرقتني عيون الصبايا..والعطر , والجالسات على الأدراج..مثل المها...أو مثل قيثارة تعزف وحدها , صدقوني أني كنت أسمع القهقهات عزفا لا صوتا...وعدت إلى المنزل عصرا , مترنحا من العطر الذي ظل في أنفي..وحين وصلت سألني :- (جبت زيت بريك ؟)..أخبرته أني نسيت , فضرب كفا بكف..وقال لي :- كيف ستنجح في جامعتك...ثم ألحقها بكلمة...حمار.

ترى ماهو الرابط بين (زيت البريك) والنجاح...لا أعرف ؟....وأتذكر أنه قرر تعليمي قيادة السيارة في الصف السادس الإبتدائي , كان يأخذني إلى طريق خال من السيارات , ولكنه مليء بالأغنام التي تعبره...وظل يقول لي طيلة قيادتي :- (انتبه للحلال)..ويقصد بالحلال :-

الأغنام...لم أكن أسمع أي تعليمات متعلقة بالغماز مثلا أو بمبدل السرعات , كانت وصاياه مرتبطة (بالحلال)..وذات مرة..اقتحمت ثلة من الأغنام وعدت مشيا على الاقدام للمنزل..

لم أتخيل يوما أني أبي كان سيجلس معي ويقول لي :- أوصيك بالجيران يا ولدي أو مثلا أوصيك بعدم إغلاق بابك في وجه محتاج...أو أوصيك بالعدل...

الوصية الوحيدة التي أوصاني اياها , قبل مغادرته العمر , هي جملة واحدة نطقها من فوق السرير...وهو يطوي ما تبقى له في الحياة من أيام حين قال لي :- (دير بالك على امك )...

من يرث العشق والصبر جينات في الجسد , لا يحتاج لوصية...

لهذا ولدنا على الدنيا , نحترف الصبر...ونروي بلادنا عشقا حين يبخل البعض بالعشق..وما أكثر البخلاء في زمننا هذا...