المشهد الأردني أمام هندسةٍ صهيونية جديدة للصراع وتهديدات التهجير وتحوّلات الديموغرافيا
جو 24 :
كتب وائل منسي -
في خضم التحولات المتسارعة في الإقليم، يبرز الأردن اليوم في قلب معادلة جيوسياسية جديدة تتجاوز حدود المواجهة العسكرية المباشرة مع المشروع الصهيوني، لتدخل مرحلة هندسة الصراع وإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا في فلسطين والجوار.
فالقرارات الدولية الأخيرة بشأن غزة، والميل المتزايد لتحويل الملف الفلسطيني إلى قضية أمنية «مدارة دوليًا»، تترافق مع تصعيد استيطاني في الضفة والأغوار، وتوليد منهجي لأدوات التهجير الناعم والخشن، ما يضع المملكة أمام اختبار تاريخي تتقاطع فيه السياسة والهوية والأمن والاقتصاد في لحظة واحدة.
تعمل إسرائيل بدعم دولي متدرج، على إعادة تعريف المشهد عبر ثلاث أدوات أساسية: أولها تحويل الأرض الفلسطينية إلى فضاء أمني دولي منزوع السياسة، عبر مقترحات الوصاية وإدارة غزة بترتيبات اقتصادية وأمنية، وهو مسار يُضعف بنية القرار الفلسطيني ويعيد توجيه ديموغرافيا القطاع والضفة نحو تصدير الضغوط.
أما الأداة الثانية فهي القضم المتواصل في الضفة والأغوار، ليس فقط عبر العنف الاستيطاني المكشوف، بل من خلال سياسات إدارية واقتصادية تخلق بيئة طاردة للسكان، تدفعهم تدريجيًا نحو الخروج.
الأداة الثالثة تنعكس مباشرة على الأردن: محاولة خلق ضغط ديموغرافي واقتصادي وسياسي عليه، وتفكيك معادلة الوصاية الهاشمية على القدس، ودفع المملكة إلى خانة "الدولة البديلة" أو "الحل الوظيفي" تحت غطاء ترتيبات إنسانية.
هذه البيئة تقود إلى أربعة مسارات محتملة للمشهد الأردني، قد تجري منفصلة أو متداخلة.
المسار الأول هو الاحتواء الدبلوماسي، وهو السيناريو الأقرب في المدى القصير، حيث يجري تسويق حلول اقتصادية إنسانية لغزة والضفة على حساب جوهر القضية، فيما يتعرض الأردن لضغوط مباشرة للتجاوب مع "تسويات" تخص اللاجئين والوصاية.
المسار الثاني، الأخطر على المدى الطويل، هو التهجير الناعم الذي لا يتدفق دفعة واحدة بل يتسرب عبر السنوات، فيزيد الضغط على البنية التحتية الأردنية ويُعيد إشعال حساسية الهوية والانقسام داخل المجتمع.
المسار الثالث هو التهجير الخشن، السيناريو الكارثي الذي قد ينتج عن عملية عسكرية واسعة أو طرد جماعي، فيدخل الأردن في تحديات أمنية وإنسانية ساحقة تفوق طاقة التحمل الطبيعي.
أما المسار الرابع فهو التصادم الأمني البارد، في شكل احتكاكات حدودية وهجمات متقطعة ومحاولات إقليمية لخلق أذرع ضغط على الأردن، بما يخنق اقتصاده ويستنزف أجهزته الأمنية.
تأثير هذه السيناريوهات على الأردن يتجاوز التغيّر العددي للسكان؛ فالمخاطر تمتد إلى بنية الهوية الوطنية نفسها، حيث تتصاعد حساسيات الانتماء والانقسام بين مكونات المجتمع، وتتزايد الضغوط على السرد الرسمي الذي يقوم على توازن دقيق بين الهوية الأردنية والارتباط بالقضية الفلسطينية.
وعلى المستوى الأمني، فإن موجات التهجير سواء الناعمة أو المفاجئة، تفتح الباب أمام شبكات تهريب وفوضى حدودية واحتكاكات اجتماعية، تتطلب من الأجهزة الأمنية مستوى أعلى من اليقظة والتعامل الوقائي.
اقتصادياً، يقود هذا المسار إلى ارتفاع كبير في الطلب على المياه والطاقة والسكن والتعليم والصحة، بما يهدد مؤشرات الاستقرار المالي والاجتماعي إذا لم يُرفق بتدخلات خارجية واسعة.
أما دبلوماسياً، فقد يتعرض الأردن لضغوط لربط الدعم المالي بقبول "حلول استيعابية"، في تحد مباشر للموقف الوطني الرافض للتوطين، وللدور الهاشمي في القدس.
أمام هذا المشهد المتشابك، لا بد من استراتيجية أردنية مركبة، تعمل على مستويين متوازيين.
الأول هو بناء جاهزية طوارئ سكانية وأمنية تشمل سيناريوهات استقبال من عشرات الآلاف حتى المليون وأكثر، مع بنية تمويل دولي مسبقة ومراكز استقبال مرنة تمنع الانفجار الداخلي. والثاني هو دبلوماسية حازمة تحدد خطوطًا حمراء واضحة: رفض التوطين، حماية الوصاية الهاشمية، ورفض تحويل الأردن إلى بديل أو مخزن سكاني للقضية الفلسطينية.
ويستوجب ذلك في الداخل تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، وتطوير برامج دمج وتضامن تمنع الاحتكاك، وحماية للموارد الحيوية عبر تسريع مشاريع الماء والطاقة لتقليل هشاشة الدولة أمام الضغوط.
إن جوهر المعركة اليوم ليس على حدود الأردن مع فلسطين فقط، بل على كيفية إدارة التحول الديموغرافي والسياسي الذي تحاول إسرائيل فرضه كأمر واقع. فالتهجير بصيغتيه الناعمة والخشنة لم يعد حدثًا إنسانيًا بل أداة استراتيجية لتفكيك الأرض والهوية ودفع الأردن إلى زوايا ضيقة تهدد دوره التاريخي واستقراره.
وفي مواجهة ذلك، يمتلك الأردن نافذة فرصة لبناء شبكة توازنات إقليمية ودولية، وتحصين داخلي مدروس، يتيح له تحويل الأزمة من تهديد وجودي إلى معركة سياسية محسوبة تُعيد تثبيت دوره كحارس للاستقرار وفاعل في مستقبل المنطقة، لا كطرف يجري فرض الحلول عليه.