Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Dec-2019

نحو اقتصاد قائم على التكافل*وفاء الخضراء

 الغد

كانت جداتنا يقمن بتدوير الملابس جيلاً بعد جيل، والأدوات لتستخدم مراراً وتكراراً ولأغراض متنوعة، وكانت أطباق الفتة كالعدس والبندورة، وكل المفرّكات، أطباقاً لها شعبية عالية حين كانت اللحمة والدجاج والسمك بذخا وترفاً وليس حاجة، وهكذا تكيّفنا مع شُح الموارد وضيق الحال، عبر ما يسمّى بذكاء الإدارة أو الإدارة الرشيدة. كان التكافل بين الناس سائدًا، فلا يهنأ أحد في الحيّ اذا ما كان جاره جائعا، وعندما كانت الجدّات ومعهن الأمّهات يطبخن طبقا من الأطباق التي تشكّل حولها حالة جماهيرية، فلا بدّ لكل من في الحارة أن يأخذ نصيبه منه. أذكر جيداً أنه كلما انقطع ماء البلدية عن الحيّ لاسيّما في أيام الصيف، كانت أم قاسم صاحبة القلب الكبير تكرم على حارتنا والحارة المجاورة بماء بئرها، بشرط أن نأخذ حاجتنا ونترك ما يكفي للآخرين. أمّا دكانة أم العبد وأبو العبد فقد استطاعت أن تستر على حسب الناس، فتقضي حاجتهم وتترفّق بعسر أحوالهم، فيستدينون منها ليصبح الدين عرفاً متداولاً يخفف من كربهم، لحين ميسرة. حكمتنا أعراف وقيم وأخلاق إنسانية حمت تكافلنا وتماسكنا مع بعضنا البعض في “العوزة” والسنين العجاف، بل حتى في أفراحنا، إذ لم نكن لنجرؤ على أن نبالغ بمراسم وطقوس الاحتفالات خوفاً من أن نجرح مشاعر حزين أو عاجز محتمل. وفِي الأتراح كانت أكياس السكر والرز والإفطار والغداء الجماعي تضيف الرأفة والسكينة على قلوب الناس وتخفف من أحزانهم وهموهم بما فيها تكاليف الدفن والعزاء، وعندما كنّا نقوم بسلوك معيب نأخذ نصيبنا من “البهدلة” الأدبية ومن النصح والإرشاد ابتداء بأم مازن ومروراً بالعمّ صاحب البقالة وانتهاء بعامل الوطن الذي كان هو بدوره معتدّاً بأدواره المتعدّدة في الحي، فهو المسحّر والسقاء والناصح بحسب معرفته بتفاصيل حياة الناس، وهي أدوار منحته احتراماً وتقديراً كبيرين.
هذه عاداتنا قبل أربعين عاماً، بل أقلّ، وليست من قبيل النوستالجيا أو الرومانسية.
لست خبيرة في الاقتصاد ولا في إدارة الموارد والنفقات، ولكن أكتب من وحي معرفتي بالآداب العالميّة من جهة، ومن جهة أخرى من وحي معايشتي مفهوم الاقتصاد المنزلي الذي نحتته جداتنا من واقعهن، فمكّنهن من التوصّل إلى أفضل الممارسات في الإنفاق الرشيد، فأمن ذلك الاقتصاد للناس العيش الكريم والتكافل المجتمعي، أي المادّة والقيمة. وإذا أردنا في الظروف الراهنة، من اقتصاد خانق ووضع مالي متعثر، بناء نموذج لشكل الاقتصاد الوطني الذي نريده الآن، فيجب أن يكون كل من الواقع المعاش وتجارب الناس مرجعية لنا.
نريد اقتصادا يلملم شتات إنسانيتنا المبعثرة هنا وهناك لينقلنا الى حالة تكافل ومودة ورحمة، لا نريد اقتصادا قاتلاً قوامه التنافسية الشرهة التي تجعلنا ننقلب فيها على بَعضنَا البعض ونتوحش عند شح الموارد. نريد اقتصاداً يمكّن الجميع بلا إقصاء أو تهميش، فيمكّن الفقير قبل المقتدر، والمحتاج قبل الميسور ويقاوم كل أشكال أنانية التنافس ونرجسية المكتسبات. نريد اقتصادا يجعل من التعاون والتشاركية سمة لاقتصاد اليوم، اقتصاداً يمقت الهدر ويخطّئه ليصون قوتنا وقوت أسرنا وقوت مؤسساتنا وقوت الوطن. نريد اقتصاداً يخلق تكافلا ومودة لا عنفا مجتمعياً وتغولا. نريد اقتصادا يخلق من المؤسسات مساحات تمكين وتمتين وتعاضد وتضامن، وليس مساحات للاستهلاك والتبذير والهدر.
نريد اقتصادا يكفل العدالة لا الاستقواء والتنمر.
يعزو بعض خبراء الاقتصاد تدهور الوضع الاقتصادي الراهن الى أسباب متعددة منها النيوليبرالية الرأسمالية واقتصاديات العولمة والنيو إمبرالية. و يعزو البعض الآخر ذلك إلى أزمة عالمية في القيم والأخلاق وإلى إفلاس الخطاب الحقوقي،الخ.
عندما نختار أن نحاكي تجاربنا السابقة وواقعنا المعاش معاً، يمكننا حينها أن نصنع اقتصادا محليا يبدأ من المنزل وينتهي بالمؤسسة، فلنطلق إذن عنان الذاكرة لنستعيد قصصاً عن الرأفة بالمكان وحب الأرض، مسترجعين صوت جداتنا عندما كن يقلن : ” لا ترموش إيشي يا ستي كله بيجيه يوم ومنستعمله”.
سيقاوم التكافل “نزوحنا” عن القيم وغربتنا عن بعضنا البعض، “فيذيب” مساحات الغربة التي تفصل فيما بيننا بسبب “ما أملكه” وما “لا تملكه”، و يكفل لنا مجتمعا “كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. ‏
التكافل يكفل العدالة الاجتماعية، ويؤمّن الأمن الإنساني اللذين لم يعودا مطلبين حياتيين للفقراء وللمهمشين والمستضعفين فحسب، بل باتا مطلبين مهمين لاستدامة الدول والشعوب والمجتمعات. لقد تجذّر تكافلنا في ماضينا وبتراثنا، وأثمر، فلا تدعوه يذهب مع الريح!