Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Feb-2018

فيروز.. أغنيات وذكريات! - د. زيد حمزة

الراي -  آخر ما غنت فيروز(( حكايات كتير.. صارت بعيدة )) وتقول فيها: غنيت بكل المسارح، وصدى صوتي ساكن المطارح، ذكرى وحنين كأنه امبارح.. غنتها بصوتها المخملي الذي لم تنل منه السنون بل سربلته بجلال العمر المديد وعتّقتْه بخمرة التجربة المعمقة.. فيروز هذه التي تملاً علينا بالحبور والبهجة صباحاتنا كما تملأ أم كلثوم مساءاتنا وليالينا، لا تشبهها مطربة أخرى ولا يمكن عزلها عن ثالوثها الذهبي مع الاخوين عاصي ومنصور الرحباني فقد قدموا معاً فنا رائعا رائقاً ليس كغيره قط، وهم الذين باللحن والكلمة والصوت نقلوا نمط الاغنية اللبنانية الفولوكلورية التقليدية من العتابا والميجنا الى واحة متنوعة الالوان متعددة النكهات، فدخلوا كل البيوت والقلوب وخاضوا من اجل الناس معاركهم ومواجعهم البسيطة، زاروا المدن وغنوا لها فاحببناها معهم دون ان نراها، لكنهم قط لم يمدحوا سلاطينها ولم يجمّلوا وجوه طغاتها رافضين الأغراءات المالية وما كانوا مترفين والضغوط السياسية وما كانوا ذوي نفوذ.

 
للتاريخ.. لا يمكن ان ننسى ما شهدنا في مطلع شبابنا كيف احتضنتهم في بداياتهم الفقيرة وبآلاتهم الموسيقية القليلة الاذاعةُ السورية ومنها تعرّفنا على جديدهم الحلو الجريء يوم لم تكن هناك إذاعة مسموعة على نطاق العالم العربي سوى إذاعة مصر التي تجاهلتهم لبعض الوقت، وقيل آنذاك تحت تأثير ما كتبه محمد التابعي عن صوت فيروز في مجلة ((آخر ساعة)) ربما تزلفاً لأم كلثوم التي لم تكن بحاجة قط لذلك، وعندما ذهبتْ سفيرة النجوم بعد سنوات عديدة الى مصر بدعوة من محمد عبد الوهاب وغنت له الحاناً جديدة ((اسهار بعد اسهار)) وأخرى قديمة ((ياجارة الوادي)) ولسيد درويش ((طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة)) لفتت النظر والسمع الى طاقتها المبدعة الكبيرة وبدأ المصريون يحبونها!
 
لم أر فيروز شخصياً إلا مرة واحدة في حياتي حين غنت في لندن على مسرحها الشهير ألبرت هول اوائل ستينات القرن الماضي وكنت أتخصص في الاذن وعلوم السمع (!) وفي اليوم التالي لم تنصفها بعض الصحف البريطانية البارزة امتدادًا لقرن من الاستعمار والتآمر مع الصهيونية كما لم تنصف العرب الذين حضروها وملأوا القاعة الكبرى ترحيباً بها ربما لأنهم اهتزوا طرباً على اغنيات تذكّرهم بالوطن البعيد، وبالقدس وبفلسطين..
 
عندما سمعتها بعد ذلك بسنوات في أغنية ((وحدُن بيبقوا قبل زهر البيلسان)) سحرني صوتها واللحن وتساءلت لمن يا ترى تلك الكلمات البعيدة الغور الكثيفة الايماءات؟ إنها للشاعر اللبناني طلال حيدر الذي التقيته في عمان في سهرة خاصة دعتنا لها الفنانة الصديقة نضال الأشقر في تسعينات القرن الماضي، وقد أتحفنا بالقاء العديد من قصائده الرائعة التي وان حملت في طياتها فكراً فلسفياً فضفاضا لكنه إنساني بامتياز، وقد زادني شعره اقتناعا بأن العامية هي الشقيقة الحنون للفصحى فكيف يُطلب منا ان نحاربها؟!
 
نعود للرحبانية فنقول إن منصور الرحباني كان مؤلف معظم أغاني فيروز بالتشارك والتشاور مع شقيقه وزوجها عاصي وتلك ليست معلومة ذات مصدر بل مجرد استنتاج! ولقد تبيّن كذلك أن لمنصور فكراً يسارياً يزدري الطائفية المقيتة ويُنشد للحياة الحرة وينادي بالعدالة الاجتماعية ويدعو لتخليص العقل من الخرافات اياً كان مصدرها ومرجعها.. كل ذلك كان بادياً في بعض الكم الكبير من قصائده التي لم تردد فحسب كلمات الحب والغرام وتسهب في وصف عواطف النساء والرجال حتى ذهبت بنا الى عشاقنا وعاشقاتنا في الاندلس وغردت ايضا في الحقول والمروج وأفسحت المجال للشاعر الكبير سعيد عقل كي يدخل بيوت الضيعة (( وقالوا شَلَحْلِي وَرْدْ على تختي وشو عرّفو أيّاه تختي أنا، وأيّاه تخت أختي؟))، ثم لموهبة زياد الرحباني وهو يصعد بنا الى الجبل مع ركاب البوسطة وعيون ((علياء)) الجميلة.
 
عندما كنت اسمع عما تكتبه صحف الاثارة من الاخبار الشخصية للثالوث الرحباني كنت أعف عن أصاخة السمع لا لأني لم أشأ أن اشوّه الصورة الجميلة التي احملها لهم كما يحملها ملايين المعجبين بفنهم بل لأني كنت موقناً بأن الحياة الخاصة والمشاعر الذاتية هي مُلك اصحابها وحدهم ولا شأن للآخرين بها حتى لو لم ترضَ عنها بعض النواميس فهم من قبل ومن بعد بشر لا ملائكة!!
 
قبل الختام لا بد من كلمة غير عابرة عن زياد الرحباني الذي عرفناه منذ طفولته موسيقيا ذكياً ثم يعتنق فيما بعد مبدأً سياسياً مكلفاً ولم يشأ أن يكون نسخة عن أبيه بل ظل محتفظاً بارث الموهبة الفنية الفذة يغدق منه اول ما يغدق على أمه فيروز ويسبغ عليها في كل مرة ثوباً فريداً من اللحن والاداء.. والحداثة. وبعد.. ليس صحيحا التعميم بأن كل النساء لا يحبن ذكر اعمارهن فاللواتي نذرن أنفسهن لحياة عريضة لا يفطنَّ لمرور السنين ويحتفظن في قلوبهن بشباب دائم يتقد بعطاء لا ينضب، ففيروز تعدّت الثمانين لكنها بعبقرية ادائها واصرارها على تحدي وطأة الزمان جعلتنا في عمرنا المتقدم ايضاً نطرب ونسعد بآخر ما غنت وهي تردد كامرأة شجاعة ودون اعتذار: هيْدي حياتي!