Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Nov-2019

الدكتور غسان عبد الخالق: أنا منحاز لنموذج المثقف العابر للتخصصات

 الدستور-حاوره: عبدالله عمر السيد عبدالله

يذهب الدكتور غسان عبد الخالق إلى أن التعدد في الانشغالات أو الاشتغالات، لدى المبدع، مفيد وممتع جدًا، مذكرا أن هذا التعدّد هو السمة الغالبة على المثقفين العرب قديمًا (ابن حزم نموذجًا) وعلى المثقفين العرب حديثًا (طه حسين نموذجًا) وعلى المثقفين الفاعلين في الغرب (امبرتو إيكو). وبصراحة أنا منحاز لنموذج المثقف العابر للتخصصات، ولست من دعاة التخصّص الدقيق، إبداعيًا أو نقديًا!
* أنت قاص وناقد وأكاديمي.. هل يمثّل هذا التعدّد إثراء لشخصية المبدع أم يمثِّل نوعًا من التشظّي؟
- هذا التعدد في الانشغالات أو الاشتغالات، ورغم صعوبة الجمع بين مفرداته نظريًا، مفيد وممتع جدًا؛ إذ فضلاً عما يمكن أن يتيحه لك من فرص للتعبير بأكثر من طريقة، فهو يتضايف ويتكامل في كل انشغال على حدة؛ فعملي الأكاديمي (مدرّسًا أو عميدًا) يتعمّق بخبراتي الإبداعية والنقدية، والعكس من ذلك صحيح طبعًا. علمًا بأن هذا التعدّد هو السمة الغالبة على المثقفين العرب قديمًا (ابن حزم نموذجًا) وعلى المثقفين العرب حديثًا (طه حسين نموذجًا) وعلى المثقفين الفاعلين في الغرب (امبرتو إيكو). وبصراحة أنا منحاز لنموذج المثقف العابر للتخصصات، ولست من دعاة التخصّص الدقيق، إبداعيًا أو نقديًا!
* لماذا الإخلاص للقصة القصيرة في زمن الرواية؟
- رغم أنني نشرت رواية قصيرة بعنوان (ما تيسر من سيرته)، إلا أنني قاص في المقام الأول. وما زلت أعتقد بأن القصة القصيرة هي الأكثر قدرة على تجلية فاجعة الوحدة التي يعانيها الإنسان في عصر الاتصال. وكلّما تعمّق القاص هذه الوحدة، وعمل على تشخيصها إبداعيًا، ازداد اقترابًا من جوهر أزمة الفرد المعاصر. وسأسمح لنفسي هنا بالاستطراد قليلا لأقول إن مشكلة كتّاب القصة القصيرة الآن، تتمثّل في أن معظمهم لا يدرك حقيقة أنها فن وحيد ويقتات بالوحدة. خلافًا للرواية التي وجدت للتعبير عن المشهد الجمعي.
* كيف ترى مستقبل القصة القصيرة من منطلق النقد؟
- قبل شهور، سعدت بترؤس لجنة تحكيم مسابقة (تلك القصص) التي أطلقتها على مستوى الوطن العربي، دار فضاءات بالتعاون مع موقع (تلك الكتب) الإلكتروني الصيني. ولم أفاجأ بعدد القصص القصيرة التي وردتني، كما لم أفاجأ بحجم المتابعة الشبابية للنتائج. فأنا ومنذ أعوام، أتصدّى بكل ما أملك من تفاؤل وأدوات نقدية، لدعاة موت القصة القصيرة، وما زلت أعتقد أنها بخير. وقد أيّدت نتائج المسابقة التي أشرت إليها آنفًا تفاؤلي على كل الصعد، كميًا ونوعيًا، شكليَا ومضمونيًا، جغرافيًا وتاريخيًا. يا سيدي، ثمة جيل جديد من كتّاب القصة القصيرة، لا يعتصم بها بوصفها خيارًا إبداعيًا فقط، بل يعتصم بها بوصفها (إيديولوجيا!) قائمة بذاتها، لأنها الإطار الإبداعي والفكري الوحيد القادر على استيعاب وإيصال ملامح أزمته الوجودية الطاحنة، في هذا العالم الذي يمور بالإنشاء والتشدّق والادعاء المتواصل بامتلاك اليقين الذاتي والجمعي.                             
* هل يؤثر النقد في لحظات الكتابة عندك؟
- مع ضرورة التذكير بأن النقد يجب أن يكون حاضرًا في كل ورشة يخوضها المبدع، قصصيًا وروائيًا وشعريًا ومسرحيًا – لأنه مطالب بتطوير ذاته وصقلها ثقافيًا- فأنا لا أماري بخصوص استحضاري لأسئلة النقد وأجوبته في كل ما أكتبه، وعلى نحو خفي أجتهد كثيرًا لتمويهه بطبقة سميكة من الأسلوب. ولعل الجزء الأول من سيرتي الذاتية الذي صدر مؤخرًا بعنوان (بعض ما أذكره) مثّل إلى حد بعيد، وجوهًا عديدة من هذا الاستحضار والتغييب في آن واحد، إذ كان علي – بحكم خبراتي النقدية- أن أتجاوز كل مآزق السيرة الذاتية التي لم يدّخر النقاد وسعًا للتنبيه عليها – وأنا منهم- وأن أكتب سيرة ذاتية متميزة على الصعيد الأدبي. ولحسن الحظ، فقد أكّدت آراء النقّاد والقرّاء تمكّني من اجتياز هذا الاختبار الصعب.
* شهرتك ترسّخت كناقد... كيف ترى هذا الأمر؟
- مع ضرورة التذكير مرة أخرى، بأنني أعدّ النقد عملاً إبداعيًا تامًا مثل الرواية والقصة والشعر والمسرح، وأتعامل معه وأمارسه على هذا الأساس، فإنني لا أجد غضاضة في هذه الشهرة؛ إذ بحكم انخراطي العميق في المشهد الثقافي المحلي والعربي، أدرك حقيقة الحاجة الماسة للنقد والنقّاد الذين يتمتعون بمصداقية نقدية عالية – وهم قلّة قليلة- مقارنة بالوفرة الزائدة عن الحد على الصعيد الإبداعي. ودعني أطرفك وأطرف القرّاء الأعزاء بما سأقوله لك الآن: كثير من الروائيين والشعراء وكتاب القصة يبدون لي – بحب لا أشك فيه- استغرابهم الشديد من (شعبيتي الكبيرة كناقد وخاصة في الأوساط الشبابية) لأن المعتاد هو اقتصار هذه الشعبية على المبدعين، وأما النقاد فهم على الأغلب محدودو الشعبية إلى درجة أن بعضهم يعيش عزلة مؤلمة. والحق أنني سعيد بشهرتي وشعبيتي كناقد، لأنها كسرت الصورة النمطية المتجهمة والحزينة للنقد في الوطن العربي.
* هل النقد العربي في أزمة بسبب تخلّفه عن المواكبة وإقامته في ظلال الترجمة لما ينشر في الغرب؟
- نعم، من المؤكد أن النقد العربي يجتاز أزمة عميقة منذ ثلاثة عقود. ولا ريب في أن ارتهانه وتعيّشه على فتات ما يترجم لكتّاب الغرب هو أبرز ملامح هذه الأزمة. لكنني أزعم أن السبب الرئيس لهذه الأزمة يتمثل في الافتقار الشديد للعمق المعرفي الاستراتيجي للنقد، وأعني به القصور الفكري والفلسفي في الخطاب النقدي العربي! وهذه مفارقة كبيرة مضحكة مبكية في آن، فعلى الرغم من إدراك كثير من النقاد العرب حقيقة أن كل المدارس النقدية الغربية قد نمت وتطاولت في أفياء التيارات الفكرية والفلسفية، إلا أنهم لا يبذلون ما يكفي من جهد لتثقيف أنفسهم فكريًا وفلسفيًا، ويستمرئون في المقابل السباحة على ضفاف هذه التيارات، بذريعة ضرورة الانحياز للجانب الجمالي الفني المحض. والمضحك المبكي في هذه السباحة الضحلة أنها تجري في الوقت الذي ودّع معه الغرب أوهام (أدبية الأدب) منذ عقود وانغمس تمامًا في (النقد الثقافي) العابر للتخصصات، وهو ما لم أدخر وسعًا للوفاء به في كل جهودي النقدية.
* هل تعتمد دراساتك النقدية على شهرة المبدع أم تسعى للتبشير بالجديد والمتميز وما يحمل رسالة ثقافية؟
- أنا من النقاد الذين يفرّقون بين دواعي الاشتغال النقدي اليومي وبين دواعي الاشتغال النقدي بعيد المدى. بخصوص الهاجس الأول، فأنا لا أتردّد في رصد وتعزيز كل ما يبدو لي رصينًا وجادًا وحداثيًا، بغض النظر عما إذا كان الكاتب مشهورًا أم مغمورًا. ولم أدّخر وسعًا على هذا الصعيد لنشر مقالات نقدية يومية، من باب الإسهام في تسليط الأضواء على المتميز والمتفرّد وخاصة إذا كان شبابيًا. وأما بخصوص الهاجس الثاني فأنا منحاز لمشروعي النقدي / الفكري الذي لم أتوقف منذ سنوات، عن تأهيله وتأثيثه بأسئلتي وأجوبتي التي أحسب أنها جوهرية، وهو مضمّن في كتبي النقدية التي تزاوج بين الأدب والفلسفة والسياسة دائمًا.
* في ضوء عملك كأكاديمي في جامعة فيلادلفيا، هل تعتقد بأن النصوص والأفكار التي يتلقّاها الطلاب كفيلة بنقل العالم العربي من وهدة التخلف إلى حلم التنوير والتقدم؟
- مع ضرورة التذكير بأن جامعة فيلادلفيا جزء لا يتجزّأ من واقع التعليم الجامعي في الوطن العربي، بحسناته وتحدّياته، ومع ضرورة التذكير بالفروقات الفردية بين المدرّسين على صعيد المعرفة والدوافع والغايات، فإنني أعتقد بأن فيلادلفيا كانت وما زالت منصّة متقدّمة من منصات الإنهاض والتنوير الفكري محليًا وعربيًا؛ سواء من خلال مناهجها الدراسية أم من خلال مؤتمراتها وندواتها ومهرجاناتها المعروفة محليًا وعربيًا. وأما على الصعيد الشخصي، فإنني لم أدّخر وسعًا منذ عشرين عامًا لإحداث فروقات ملموسة في شخصيات طلابي وفي أنماط تفكيرهم، من خلال تعميق منهجيات التحليل والنقد والتركيب، ومن خلال إزاحة الستار عن المسكوت عنه، ومن خلال تقبل التنوع وتعميق ذهنية الحوار. وأحسب أن ما أتلقاه من ردود أفعال داخل القاعة وخارجها، يكفي للظن بأن هناك العديد من الشموع التي تلوح في الأفق العربي المعتم، دون التنكّر لحقيقة أن الواقع العربي يجتاز أكثر الاختبارات قسوة وإيلامًا.
* نشرت كتابًا عن نجيب محفوظ... لماذا لم يهبط طائر نوبل على الأرض العربية منذ ربع قرن؟
- يمكنني أن أختصر الإجابة عن هذا السؤال اللامع بالقول: لأننا لم نحظ بعد بمبدع كبير آخر مثل نجيب محفوظ الذي أحسن الجمع بين شروط الخصوصية والعالمية. ومن باب التفسير يمكنني أن أضيف قائلاً إن نجيب محفوظ أخلص لحارته المصرية إلى درجة أنها غدت نموذجًا روائيًا عالميًا يصعب تجاهله، كما أخلص ديكنز ومارك توين وماركيز لأماكنهم وشخوصهم. لقد فعل ذلك بحب ومسؤولية ودون تنازلات، ولو ألقيت نظرة الآن على ما ينشر عربيًا، وفي كل حقول الإبداع، لأدركت حقيقة انتفاء هذه القدرة على جلب الحصان إلى النهر؛ فبريق الجوائز واستعجال الشهرة والاستعداد المؤسف لمغازلة الغرب فكريًا وسياسيًا تحت مسمى التجريب والانفتاح على ما بعد الحداثة، جرّد معظم المبدعين العرب الكبار، من شرط الجائزة الأول، وهو ضرورة اشتغال الكاتب بدأب وصمت على الإتيان بالعالم إلى أبواب وشبابيك وأزقّة وشخوص وروائح مكانه، وليس العكس!
* كيف ترى أزمة الشرق والغرب؟ وهل نحن بحاجة إلى إدوارد سعيد من جديد؟
- سأفاجئك بالقول إنني مقتنع بمقولة شاعر الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس روديارد كيبلنج (الشرق شرق... الغرب غرب... الشرق والغرب لن يلتقيا!). نعم إنني أمتلك الجرأة الكافية للقول إن هذا التقابل سيظل ماثلاً إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، لأسباب أيديولوجية وجغرافية وتاريخية يطول شرحها.وأزعم أن هذا التقابل غير قابل أبدًا للإلغاء أو التجاهل، كما أزعم أن كل ما يقال ويكتب عن ضرورة التجسير بينهما ليس أكثر من تسويق سياسي لغايات اقتصادية! لكن كلا من الطرفين – لحسن الحظ- يدرك حاجته الماسة للآخر كي يديم سردياته ومصالحه!
إن الإجابة الواقعية الوحيدة التي يمكن أن أستحضرها الآن، تتمثل في اعتقادي بضرورة الإبقاء على هذا التقابل، مع الحرص الشديد على عدم إيصاله إلى مستوى الصراع والتطاحن، لأنه مفيد ومحفّز جدًا للطرفين.
وأما بخصوص إدوارد سعيد، ورغم إقراري التام بألمعيته وعصاميته ومركزيته الأدبية والفكرية، إلا أنني أعتقد – كما أبرزت ذلك في كتابي (الصوت والصدى؛ مراجعات تطبيقية في أدب الاستشراق)- أنه لم يفعل أكثر من أنه أضاف فصلاً جديدًا من فصول توصيف التقابل والصراع بين الشرق والغرب، إذ تم توظيف كتاب الاستشراق من جانب التيارات السياسية الدينية والقومية في الوطن العربي توظيفًا سياسيًا وإيديولوجيًا محضًا، ولم يتم توظيفه توظيفًا معرفيًا كما أراد هو. وقد دلّلت على هذه المفارقة بمقدمته للطبعة الأولى من كتابه (الثقافة والإمبريالية) – حذفت هذه المقدمة من الطبعات التالية- والتي أكد فيها أن كتابه قد آتى أكله في كل أرجاء العالم الثالث، باستثناء الوطن العربي الذي انشغل بإعادة شحذ العديد من تناقضاته مع الغرب، بدلاً من التفرغ لترجمة مقولة فوكو بخصوص تفكيك سلطة الإنشاء التي تغرق الوطن العربي.
* أطلق جابر عصفور مقولة (زمن الرواية) فيما أطلق العالم مقولة (موت السرديات الكبرى)... كيف ترى هذه المفارقة؟
- سأبدأ بمقولة (موت السرديات الكبرى) لأذكّر بأن هذا المصطلح (السرديات الكبرى) قد أطلقه المفكر الفرنسي ليوتارد وفي سياق مناقض تمامًا، أي أنه أطلقه للتحذير من تنامي وتعاظم السرديات الكبرى في العالم، بالتزامن مع ثورات التكنولوجيا والاتصال. والسرديات الكبرى تعني في هذا السياق كل ما تقوله وتتوهمه عن نفسك؛ فالكيان الصهيوني مثلاً لم ينفك عن تعزيز وتوسيع رقعة سردياته الكبرى بخصوص حقّه التاريخي المزعوم في فلسطين، والعرب في المقابل لم ينفكوا عن زعزعة وتقليص رقعة مصداقية سردياتهم الكبرى بخصوص فلسطين وغير فلسطين.وأما بخصوص مقولة جابر عصفور (الزمن الروائي) فهي صحيحة إلى حد بعيد، لأن الزمن العالمي والعربي، ملحمي بامتياز، ويمور بالتحولات والانقلابات التراجيدية، وهو أبعد ما يكون عن الرومانتيكية الشعرية.
* برأيك.. لماذا لا يوجد لدينا مثقفون يقولون الحقيقة للسلطة من دون خوف أو تحسب للعواقب؟
- اسمح لي أن أستعيد - للإجابة عن هذا السؤال- ما قلته قبل أسابيع لأحد الصحفيين: فعلى امتداد 35 عاما من الانخراط التام في المشهد الثقافي ، ومن واقع خبرة أزعم أنها عميقة، يؤسفني أن أحيطك وأحيط القراء الكرام علما، بأن المسؤول الأول عن هذه الكوميديا السوداء هو المثقف العربي نفسه لأكثر من سبب ؛ فهو قابل للاحتواء والتطويع والتدجين بأبخس الأثمان ، وفي المرات القليلة التي قيض له خلالها أن يشارك في صناعة القرار فجع الجميع بأدائه وحساباته الصغيرة، إلى درجة جعلت كثيرا من السياسيين يستلقون على ظهورهم من الضحك ولسان حالهم يقول: هل هذا هو البعبع الذي كنا نتحسَّس رؤوسنا ليل نهار بسببه ؟!
المثقف العربي يا سيدي راجمة شعارات وأشعار في المقام الأول وليس منتجا للأفكار والمواقف، وإن قُيّض له أن يصبح مسؤولا، تقمّص على الفور شخصية نقيضه الذي طالما ادعى أنه يناضل ضده ، وأعني به رجل السلطة ؛ فتراه –المثقف- يبدع في اضطهاد زملائه وإقصائهم وتهميشهم، بل تراه يتطوّع لتفريغ الثقافة من مضمونها الحقيقي ، ويستبسل في التنظير لتسليع الثقافة وفقا لنظرية السوق، وإذا به - بين ليلة وضحاها- من أشد المناصرين للثقافة بوصفها أسواق ومهرجانات ومعارض! وإذا به من أكبر أنصار مقولة سيجموندباومان «اشتر استهلك ارمِ»!إلى درجة التفاني في ترويج كل ضروب الرداءة فنيا وأدبيا وفكريا، بدلا من العمل على ترويج الفن الرفيع والأدب الرفيع والفكر الرفيع.
وحتى لا أبدو مغاليا فيما قلت، يمكنني أن أجزم لك بأن السياسي العربي قد أدرك منذ عقود حدود هذا المثقف، ولم يعد قلقا بخصوص شطحاته؛ هذا المثقف العاطفي النزق الأناني المتعطش للسلطة والأضواء، وغير المؤهل لاحتمال استحقاقات أي دور أو موقف، وطني أو قومي أو إنساني، يمكن أن يكون مرشّحا للاضطلاع به. ودليلي على كل ما ذكرت تلك التجارب المفجعة للعديد من المثقفين العرب البارزين الذين تسنّموا مواقع سياسية متقدمة، فكانوا خير تجسيد لذلك المنبتّ؛ فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!
* من الملاحظ أن اللهجات المختلفة تفرّق بين أبناء الوطن الواحد بدلاً من أن توحد بينهم. برأيك هل الذات العربية تعاني العديد من الأيديولوجيات على غرار الحروب الحضارية والثقافية؟
- نعم؛ العالم العربي، ليس مكانًا واحدًا بل مجموعة من الأمكنة. وليس زمانًا واحدًا، بل مجموعة من الأزمنة. وما يجمع بين كل هذه الأماكن والأزمان هو ذاكرة اللغة العربية الرسمية. وأحسب أن هذه اللغة قد تعمّقت وترسّخت حتى غدت مؤسسة تقبع فوق شروط وظروف الزمان والمكان، ولا يساورني القلق بخصوص إمكانية تغوّل اللهجات المحلية المحكية عليها، بل إنني أعتقد – بحكم متابعتي الأكاديمية لهذه الإشكالية- بأن هذه اللهجات قد تجاورت وتعايشت في ظل اللغة الرسمية التي أفادت منها وأفادتها في آن واحد. كما أحسب أن المطلوب منا الآن يتمثل في استحقاقين رئيسين: التوقف عن التفكير بواقع اللغة العربية الرسمية في ضوء نظرية المؤامرة، والعمل على إغناء هذه اللغة بالمزيد من الأبحاث والدراسات العلمية القابلة للقياس، بعيدًا عن شعوذات الإنشاء والاحتفاء والعواطف التاريخية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.