Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Oct-2022

رواية «هاني بعل الكنعاني» لصبحي فحماوي.. قراءة تحليلية

 الدستور-د. رياض ياسين - جامعة اليرموك

 
نحنُ أمامَ روايةٍ تاريخيةٍ ماتعةٍ وجاذبةٍ وغنيةٍ بمعلوماتِها وحقائقِها، تدور أحداثها بين عالمين متقابلين يفصلهما البحيرة الكنعانية(المتوسط) فهناك عالم روماني شماله وعالم قرطاجي جنوبه وشرقه.
 
أبطال الرواية قائد تاريخيّ كنعاني عظيم الشأنِ والإنجازاتِ اسمه هاني بعل أراد ان يبني مجدا عنوانه تأسيس مملكة عظيمة، وكاتب الرواية الذي اشترك في حمل مسؤولية الإنصاف لحقبة تاريخية فيها امة عظيمة أنجبت قائدا لم يُعرف مثله في التاريخ حسب وصف صبحي فحماوي.
 
قَدَّمَتْ لنَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الكثيرَ منَ التَّفاصيلِ الهامَّةِ والمفصليَّةِ، حَولَ هَذهِ الشَّخصِيَّةِ العَظِيمةِ الفَذَّةِ «هاني بعل الكنعانيّ» والذي لم يألُ جهدًا لتحريرِ شعبِهِ والشعوبِ المحيطةِ من البطْشِ الرومانيِّ الديكتاتوريِّ.»فأساءوا إليّ رغم أنني قادم لتحرير شعبهم من بطش قناصلهم وأثريائهم» ص167
 
الروائي صبحي فحماوي مخاطبا القائد هاني بعل: كيف تحملت البرد وشظف العيش كل هذا العمر في معسكرات ليس فيها وسائل الرفاهية. القائد: إنه الشعور بمسؤولية حماية الوطن يا أخي فحماوي، قد يكون قدري هو العيش بهذه الطريقة ما دمت أقسمت لوالدي أن لا أتخاذل أمام العدو الروماني.. إنه محبة بحرنا الكنعاني الذي يوصلنا إلى كل بقاع الدنيا. الرواية ص163
 
أخلاق هاني بعل كانت أخلاق الفرسان حتى في الحرب/ص166وتشبه الأخلاق الإسلامية في الفتوحات حيث المنازلة للجيش وتحييد المدنيين ونبل المسعى وهو نشر المحبة وقيم التسامح والتخلص من الظلم، ولعلي أرى فيها محاكاة لفتح بلاد مصر والمغرب والشام، فقد كانت كلها تحت الاحتلال البيزنطي، أي الدولة الرومانية الشرقية، وهي بالطبع امتداد للدولة الرومانية التي سيطرت على شمال المتوسط ابتداء من المائة السادسة قبل الميلاد.
 
تتحدثُ الروايةُ بالتفصيلِ والتفنيدِ عن إنجازاتِ هذا البطلِ العظيمِ، والذي لم يكرِّرْهُ التاريخُ الكنعانيُّ البتَّةَ.
 
البنية السردية في الرواية:
 
سلكَ الكاتبُ في سردِهِ للرِّوايةِ طريقَةً مغايِرَةً ومختلفَةً عن طريقَةِ السَّرْدِ المُعتَادَةِ، فجاءَتْ الأحداثُ المرويَّةُ مناصَفَةً ما بينَ السَّهراتِ فِي المَسْرَحِ عَلى لِسَانِ الحكواتيِّ، وبَينَ وَقَائِعِ أَحْلامِهِ التِي حَاورَ فِيها هَاني بَعْل شَخصِيًّا فِي مَراحِلِ حياتِهِ المُخْتلفَةِ، ونُلاحِظُ فِي هذهِ الجُزئِيَّةِ كَيفَ تفرَّدَ الكاتبُ وتميَّزَ بطريقةِ سردٍ مُمتِعَةٍ؛ تُبعِدُ المَلَلَ عنِ القارِئِ، والأَهَمُّ مِنْ ذلكَ أَنَّ الكاتِبَ أقحَمَ نفسَهُ في الرِّوايَةِ وأَعطَاهَا دَورًا بُطُولِيًّا؛ بِتَفويضٍ مِن بطَلِها هَانِي بَعْل الكَنعَانِيّ، وَالذي يَبدُو وَكَأَنَّهُ قدْ سَلَّمَهُ رايَةَ البُطُولَةِ، وَوَكَّلَهُ مَهَمَّةَ إِنصَافِهِ تَارِيخِيًّا؛ إِذْ إِنَّهُ ذَكَرَ وَنَوَّهَ لِاسْتِيَائِهِ مِنْ تَشويهِ سِيرَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ العَرِيقَةِ، على أَيدِي المُتَخَاذِلينَ مِنَ المُؤَرِّخِينَ العَرَبِ أَو المُشَوِّهِينَ لِتَارِيخِهِ مِنَ الرُّومَانِ الحَاقِدِينَ، وأَنَّ السَّبِيلَ لِإِيصَالِ رِسَالَتِهِ لِأَحْفَادِ أَحْفَادِهِ الكَنعَانِيينَ؛ هُوَ صُبْحِي فَحْمَاوِي وَقَدْ خَاطَبَهُ» هَانِي بَعْل بِاسْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَأَظُنُّ الكاتِبَ يُشِيرُ إِلى قُوَّةِ وَمَتَانَةِ صِلَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِهَانِي بَعْل، الذي يَثِقُ بِهِ وَبِكِتَابَاتِهِ وَرِوَايَاتِهِ. خَاصَّةً وَأَنَّ الكُتُبَ التي دَوَّنَهَا المُؤَرِّخُونَ الإِغْرِيقُ عَنْهُ قَدْ طُمست وَ صُودِرَتْ وقُتلت وَأُحْرِقَ الكَثِيرُ مِنْهَا مِنْ قِبَلِ الرُّومَانِ، كَمَا ذَكَرَ هَانِي بَعْل لِصُبْحِي فَحْمَاوِي أَثْنَاءَ حِوَارِهِمَا فِي « حلمِهِ الثَّالِثِ « إِذْ خَاطَبَهُ قَائِلًا:- « صِرْتُ أَعْرِفُكَ يَا صُبْحِي فَحْمَاوِي وَأَثِقُ بِكَ كُلَّ الثِّقَةِ، صِرْتَ ظِلِّي وَحَامِلَ بَيْرَقِي وَكَاتِبَ رِوَايَتِي لِقُرَّائِكَ المُنْتَمِينَ لِلْوَطَنِ العَرَبِيِّ الكَنْعَانِيِّ الأَصْلِ وَالفَصْلِ، أَوْ أَنَّنِي صِرْتُ ظِلَّكَ وَهَاجِسَكَ بَعْدَ هَذَا الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ زِيَارَتِي لَكَ سَتَكُونُ سَبَبًا فِي نَقْلِ أَفْكَارِي وَنَشْرِ سِيرَتِي فِي إِحْدَى رِوَايَاتِكَ التِي يَقْرَؤُهَا أَهْلُ عَصْرِكَ؛ لِهَذَا أَتَيْتُ أُطْلِعُكَ عَلَى حَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ الرُّومَانِ المُلَقَّحِينَ بِالعِرقِ الكِلتِيِّ والعِرقِ الآرِيِّ وبَاقِي أَعْرَاقِ القَادِمِينَ مِنْ بِلادِ الصَّقيِعِ إِلى بِلادِ الدِّفْءِ». وفي هَذا الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلى أَهَمِّيَّةِ الدَّورِ المُلقَى عَلى عَاتِقِ فَحْمَاوِي، كَمَا أَنَّ هَانِي بَعْل ذَكَرَ حَقِيقَةً مُهِمَّةً عَن أُصُولِ الشَّعْبِ الرُّومَانِيِّ وَالتِي تُفَسِّرُ عَدَمَ انتِمائِهِم إِلَّا لِمَصَالِحِهِم؛ فَهُم خَليِطٌ مِن عِدَّةِ عُرُوقٍ وَلَيسَ لَهُم وَلَاءٌ إِلَّا لِأَهدَافِهِم الاستِيطَانِيَّةِ والمَادِّيَّةِ البَحْتَةِ.
 
بَدَأَ الكَاتِبُ رِوَايَتَهُ بِطَريقَةِ السَّردِ الاستِهلَالِيِّ (غَيرِ المُمِلِّ) ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ تَحَوَّلَ فِي سَردِهِ لِلرِّوَايَةِ لِيَروِي الأَحْدَاثَ عَلى لِسَانِ الحَكَوَاتِيِّ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنَ التَّنَقُّلِ بَينَ الأُسلُوبَينِ بِرَشَاقَةٍ عَالِيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ بَقِيَ مُتَيقِّظًا مُتابِعًا لِلحَكَوَاتِيِّ بِدِقَّةٍ وَبِكُلِّ حَوَاسِّهِ؛ حَتَّى لَا يَتَمَرَّدَ الحَكَوَاتِيُّ عَلى دَورِهِ وَشَخْصِهِ دَاخِلَ النَّصِّ، وَيحتَفِظَ لِنَفسِهِ بِالدَّورِ الذِي أَسْقَطَهُ عَليهَا؛ حِينَمَا شَارَكَ البَطَلَ (هاني بعل) فِي دَورِ البُطُولَةِ،حَيثُ إِنَّهُ كَانَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ مَكَانٌ لَا يَشغَلُهُ وَلَا يَستَطِيعُ أَنْ يَقُومَ بدَوْرِهِ غَيرُهُ، وَكَأَنَّ البَطَلَ يَطْلُبُ مِنْهُ اسْتِلامَ الرَّايَةِ نِيَابَةً عَنهُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنَ الرِّوَايَةِ.
 
وَتَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ فَحْمَاوِي لِهَيئَةِ الحَكَوَاتِي حِينَ سَرْدِهِ لِلأَحْدَاثِ لَمْ تأتِ مِنْ فَرَاغٍ، فَقَد كَانَتْ هَيأَةُ الحَكَوَاتِي تَتَنَاسَبُ وَالأَحْدَاثَ التِي يَروِيهَا لِمَعَارِكِ وَحُرُوبِ هَانِي بَعْل لِرُومَا، فَيَظهَرُ وَكَأَنَّهُ شَارَكَ فِي هَذِهِ المَعَارِكِ وَقَدْ عَادَ لِلتَّوِّ مِنهَا؛ وَذلِكَ لِإيصَالِ الصُّورَةِ بِشَكلٍ حَيٍّ لِلقَارِئِ.
 
وَبِهذَا يَكُونُ الكَاتِبُ قَد نَحَا فِي سَردِهِ لِلرِّوَايَةِ لَنا مَنْحىً مُختَلِفًا وَغَيرَ تَقلِيدِيٍّ، رَاوَحَ فِيهِ بَينَ أُسْلُوبَينِ بِمُنْتَهَى الرَّشَاقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالإِبدَاعِ وجَمَالِ الطَّرْحِ.
 
بين نمطين سردييّن نجد هذه الرواية، وقد يتبادر لذهن القارئ للوهلة الأولى أن الأحداث المروية متشابهة، ومن يتمعن جيدا يرى أن براعة الكاتب كمنت في إيجاد خيط رفيع بين هذين النمطين، فنمط الحكواتي السردي يتمايز عن نمط الكاتب الذي استقى معلوماته من القائد هانيبعل مباشرة، ولعل ذلك يشير إلى أن طريقة السرد مختلفة في الحالتين، ناهيك عن التفاصيل التي تضمنتها طريقة الكاتب السارد وهو فحماوي وحواراته التي فاض بها بوح القائد له دون سواه، وكأننا أمام معلومات خاصة انفرد بها الراوي صبحي على الحكواتي الذي قدم رواية تراتبية سردية فقط فيها تشويق ومعلومات، اما صبحي في سرده فقد قدم خلاصات ومقولات مهمة استقاها من القائد مباشرة وأضفى عليها روحا ثقافية تشبه روح القائد العظيم هاني بعل، وبنظري حصل التشابك في التكوين بين صبحي والقائد هاني بعل من منطلق الإيمان المطلق بنظرية نشر ثقافة الحب والسلام وألوان التواصل بين شعوب المتوسط وخلق كيان يلف عالم المتوسط شمالا وجنوبا بحثا عن المملكة الفاضلة.
 
نشكُرُ للكَاتِبِ هَذَا الكَمَّ الزَّاخِرَ مِنَ المَعلُومَاتِ المُنصِفَةِ لِبَطَلٍ لَمْ يُنصِفْهُ التَّاريِخُ كَمَا يَستَحِقُّ وبِمَا يَتَناسَبُ مَعَ إِنجَازَاتِهِ وعَطَائِهِ- وهوَ هَانِي بَعْل – وأَمَدَّنَا بِجُمْلَةٍ مِنَ الحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ المَهِيبَةِ بِأُسْلُوبٍ شَائِقٍ ومَاتِعٍ.
 
الإحاطة التاريخية:
 
نُلَاحِظُ فِي الرِّوَايَةِ التَّسَلْسُلُ التَّارِيخِيُّ الدَّقِيقُ للأَحْدَاثِ، وَالذِي يُشِيرُ إِلَى أنَّ الكَاتِبَ مُبحِرٌ فِي التَّارِيخِ، ومُلِمٌّ بِكَافَّةِ التَّفاصِيلِ التَّاريخِيَّةِ والإِنجَازَاتِ، وَتَاريخِ قِرطَاجَنَّة مُنذُ بِدايَةِ تَأْسِيسِها عَلى يِدِ المَلِكَةِ أَلِيسَار، وَالتِي سَعَتْ لِجَعْلِهَا « دُرَّةً مُتَلَألِئَةً عَلَى مِينَاءٍ طِبِيعِيٍّ يُعتَبَرُ مَركِزَ التَّوَجُّهَاتِ نَحوَ الجِهاتِ الأَربَعِ، وَقَدْ اشْتَهَرَت قِرطَاجَنَّةُ الكَنعانِيَّةّ بكونِهَا المَركِزُ التِّجَارِيُّ الأَعظَمُ فِي البِحَارِ المِعرُوفَةِ آنَذاكَ كُلِّهَا والمَنَافِذِ البَحرِيَّةِ المُمْكِنَةِ. مرُورًا بِفَترةِ حُكمِ «هاملكار البرق» وحَربِهِ البُونِيَّةِ الأُولَى، وذِكرِ حَيثِيَّاتِ تَوَلِّي «هَانِي بَعْل» القِيادَةَ، وما تَوَالَى مِن أَحدَاثٍ وَ سِجَالاتٍ حربية مَعَ الرُّومَانِ، حَتَّى وَفاتهِ وما عَقِبَها مِن تَداعِيَاتٍ.
 
أَشَارَ الكَاتِبُ فِي بِدَايَةِ رِوَايَتِهِ «السَّهرَةِ الأُولَى لِلحَكَواتِيّ» إِلَى العَداءِ الذِي نَمَا بَينَ قَبِيلَتَي «هَانُو الأُرُستُقرَاطِيَّةِ» وقَبيلةِ «البَرقِ» المُتَمَتِّعِينَ بِشُعورِ المَسؤُولِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ، فالأُولَى تَسعَى لِلحَيَاةِ وَتَحقِيقِ الرِّبحِ التِّجَارِيِّ، والثَّانِيَةُ تَسعَى لِلحِفَاظِ عَلى أَمْنِ البِلَادِ وَتَحَرُّرِهَا، وَقَد اسْتَمرَّ هَذا العَداءُ وَالخِلافُ مِن عَهدِ «هَامِلكَارِ» الأَب وَخُذلَانِهِ لِعَدَمِ الاستِجابَةِ لَهُ عِندَمَا طَلبَ مِنهُم «الإِمْدَادَاتِ» – الدَّعْمَ الُّلوجِستِيِّ- فِي حَربِهِ ضِدَّ الرُّومَانِ، وَذلِكَ بَعْدَ حَربِهِ الأُولَى مَعَ الرُّومَانِ «الحَربِ البُونِيَّةِ الأُولَى»، وَالتِي انتَصَرَ فِيهَا هَامِلكَار، وجَمَعَ بَينَ فَنِّ تَطوِيرِ الأَسلِحَةِ وَالفُنُونِ القِتَالِيَّةِ الخَلَّاقَةِ، وحَتَّى عَهدِ «هَانِي بَعْل» الابن ثُمَّ َأَعَادُوا الكَرَّةَ مَرةً أُخرَى فِي عَهدِ «هَانِي بَعْل» الابْن. بينما تَخَاذَلَ مَجلِسُ الشُّيوخِ القِرطَاجِيّ فِي تَقدِيمِ الدَّعْمِ المَادِيِّ «لهَانِي بَعْل» بَعْدَ انتِصَارَاتِهِ المُتَوَالِيَةِ عَلى الرُّومَانِ؛ خَوفًا مِن أَن يَعُودَ هَانِي بَعْل وَيَتَحَكَّمَ بِمُجرَيَاتِ حَيَاتِهِم إِنْ هُم أَمَدُّوهُ بِالدَّعمِ المَادِيِّ ضِدَّ الرُّومَانِ، عَدَا عَن أَنَّهُ سَيكُونُ سَبَبًا فِي استِنزَافِ طَاقَاتِهِم الشَّبابِيَّةِ الفَاعِلَةِ فِي الزِّرَاعَةِ وَالرَّعْيِ وَالصِّناعَةِ، وَكَانَ رَدُّهُم عَلَيهِ « دَبِّرْ نَفَقَاتِ جَيشِكَ مِنَ المَواقِعِ التِي أَنتَ فِيهَا «.
 
وَالجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ هَانِي بَعْل قَد وُلِدَ عِندَمَا تَسلَّمَ وَالِدُهُ القِيَادَةَ.
 
أَمَّا حُلُمُ فحمَاوِي الأَوَّلُ فَقَدْ كانَ رُؤيَةً لِجَنينٍ أيقَنَ بَعدَهَا أَنَّهُ «هَانِي بَعْل»، وَمَا كَانَت صُورَةُ الرَّحِمِ الوَاسِعِ كَبُحَيرَةٍ بَعيدَةِ المَدَى، وَتَحرِيكُهُ ِذِرَاعَيهِ وَسَاقَيهِ فِي كُلِّ الاتجَاهَاتِ إِلَّا إِشَارَةً مِن فَحمَاوِي للانتِصَارَاتِ التِي سَيُحَقِقُهَا هَذا البَطَلُ، وَالبُلدانِ التِي سَيَدخُلُهَا. وَأَكَّدَ هَذِهِ الإِشَارَةَ جَعْلُهُ الطِّفْلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُدَلِّلَةٍ عَلى ذَلِكَ «أُحِبُّ.. أَنْطَلِقُ.. أَتَحَرُّرُ». ثُمَّ جَاءَهُ فِي الحُلُمِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِيُخبِرَهُ أَنَّهُ هُوَ هَانِي بَعْل بِشَحمِهِ وَلَحْمِهِ، وَلكِنَّهُ كَانَ شَابًّا هَذِهِ المَرَّةَ. وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رُبَّمَا اختَارَهُ لِأَنَّهُ رِوَائِيٌّ مَعرُوفٌ بِحَفرِهِ حَولَ تَارِيخِهِ الكَنعَانِيّ المَجِيدِ؛ هَادِفًا إبرَازَهُ وَإِعَادَةَ إِحْيَائِهِ مِنْ جَدِيد.
 
ثَمَّةَ فِكرَةً جَوهَرِيَّةً تَطغَى عَلى هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ والتِي تَتَمَثَّلُ فِي رَصْدِ العَناصِرِ الجَوهَرِيَّةِ التِي شَكَّلَتْ شَخصِيَّةَ هَذا القَائِدِ القِرطَاجِيِّ وَكَانَتْ جَمَّةً، لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَواطِنَ مُختَلِفَةٍ مِن رِوَايتِهِ إِلَى أَكثَرِهَا قُوَّةً وَتَأثيرًا؛ وَهيَ الرِّباطُ المَتينُ بَينَ «هَانِي بَعْل الابن» و»هَامِلكَار الأَب»؛ إِذْ تَحَدَّثَ هَانِي بَعْل فِي أَكثَرَ مِن مَوضِعٍ إِلَى أَنَّ وَفَاءَهُ لقَسَمِهِ لوَالدِهِ بِمُناصَبَةِ الرُّومَانِ العَدَاءَ طيلة محاولات الرومان احتلال بلاد العالم بطشاً وقمعاً ونهباً وسلباً وسيطرة بشعة، كَانَ مِن أَهَمِّ الدَّوَافِعِ لِإِصْرَارِهِ وَعَزِيمَتِهِ فِي قِتَالِ الرُّومَانِ، عَدَا عَن مَسعَاهُ لإِنهَاءِ الجَبَرُوتِ الرُّومَانِيِّ واعْتِدَاءَاتِهِم الغَاشِمَةِ عَلى المَمَالِكِ المُجَاوِرَةِ.
 
فَقَد كَانَتْ التَّربِيَةُ النَّفسِيَّةُ والتَّعلِيمِيَّةُ التِي وَضَعَ الأَبُ لَبِنَاتِهَا قَد أَسْهَمَتْ مُسَاهَمَةً فَاعِلَةً فِي صَقْلِ شَخْصِيَّةِ «هَانِي بَعْل».
 
أَيْضًا نَوَّهَ الكَاتِبُ إِلَى تَشَبُّعِ عَقِيدَةِ هَانِي بَعْل العَسْكَريَّةِ بِالحِسِّ الدِّينِيِّ البُونِيِّ، الذِي تقَاسَمَهُ قَادَةُ قِرطَاجَ، إِذْ كَانَ ثِقَلُ الرِّسَالَةِ الدِّينِيَّةِ العَسكَرِيَّةِ والوَلَاءُ والانقِيادُ للإِلهِ بَعْل قَوِيًّا مُتَأَصِّلًا لَدَى هَانِي بَعْل بِحَسْبِ مَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ. فَكَانَ يَحْتَكِمُ لإِرشَادَاتِ وَتَوجِيهَاتِ الإِلهِ بَعْل فِي كُلِّ تَصَرُّفاتِهِ وتَعَامُلِهِ مَعَ أَهَالِي البُلدَانِ التِي يَدْخُلُهَا، ولَمْ يَدَّعِ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا فَعَلَ الإِسكَندَرُ الأَكبَرُ أو غَيرُهُ مِنَ القَيَاصِرَةِ المُتَأَلِّهِينَ.