Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Jan-2020

السيرة الذاتية والشعر في «أقتفي خطو ذاكرتي»

 الدستور-هشام عودة

منذ العتبة الأولى العنوان نجد أن هناك تتبع واقتفاء لأمر وحدث ما وقد جاء في تعريف الاقتفاء في لسان العرب اقتفى فعل ...اقتفى يقتفي اقتفاء فهو مقتف اقتفى أثره : تتبعهولم يكن يشعر أن أحدا يقتفي أثره  ويستمر التتبع الحثيث حين يربطه الشاعر بكلمة خطو التي هي اسم مصدر خطا تعني مشى وتعني أن التتبع لن يتم إلا عبر هذه الخطو للوصول إلى ذاك الغامض الذي يتجمع به كل  ما يمر علينا ويخزن عبر شريحة صغيرة في الدماغ إنها الذاكرة وكأن الشاعر يريد الكشف عما خزنته تلك الذاكرة ذاكرته هو عبر مسيرته في الحياة  ويريد ان يسرده عبر تسجيل خاص يحكي فيه  جزءا من حياته فيقول ... أقتفي خطو ذاكرتي / في الصباح المبلل / والمطر المشتهى/ منذ خمسين عاما / وقفت هنا / لست أذكر إن كنت وحدي / وإن كانت الشمس ممسكة بثيابي/ غير أن الصباح تدثر بالغيم / في ليلة ماطرة/..  وكأن الشاعر هنا يبدأ بسرد الأحداث فيتقاطع الشعر مع السرد للدخول إلى الحديث والبوح والكشف عن تلك السيرة ومنذ خمسين عاما  يحكيها لنا الآن بتتبعه الحثيث لها .
 
 السيرذاتي والشعري
إنّ سؤال السيرة الذاتية والشعر لم يطرح بِقوّة إلا في الندوة النقدية التي انعقدت في مرسيليا (جنوب فرنسا) تحت عنوان: «حصّة السيرة الذاتية داخل الشعر المعاصر: أيّ تجديد؟» في عام 2000)، وفرض على المتدخّلين من نقاد وشعراء.. بحث مسألة العلاقة بين الشعر والسيرة الذاتية اليوم، والتفكير في الوشائج التي تجمع بين ذات الكتابة والذات الواقعية، ومسألة المسافات بكلّ معاني الكلمة
وكان السؤال المهم : أيّ حصةٍ من السيرة الذاتية تحتمي بها القصيدة وتحتملها؟ هل للنظام السير ذاتي من معنى في الشعر؟ وهل من الممكن قول الأنا عبر اللغة، أو بشكلٍ أكثر جذريّةً إعداد «تاريخ الأنا» من داخل ملفوظات اللغة الشعرية التي أنتجتها؟
 من السيرة الذاتية الشعرية إلى البناء الشعري
في المجال العربي، هناك سير شعرية ذاتية، وهي سِيَـر الشعراء الذين عرضوا فيها قصصهم مع الشعر، ويُضمِّنونها تصوُّراتهم للقصيدة وتجاربهم الشعرية ومصادرها الكتابية والمعرفية إذ صار بإمكاننا اليوم أن نتحدّث عن نصوص شعريّة سيرذاتية، أو على الأقلّ يبرز فيها العنصر السيرذاتي بوضوح أكثر من ذي قبل؛ وهو ما يجعل القارئ يتعرّف على أمشاج من سيرة الشاعر وأناه الأصلية ضمن الشِّعر نفسه، وبالتالي يمنحه الشعور بثقته، إذ أنّ ما يكتبه «حقيقي» وينأى به عن شطح الذّات وتهويماتهاوفي المجموعة الشعرية المسماة ب أقتفي خطو ذاكرتي والتي هي من منشورات دجلة – عمان 2015 والتي كتبت بعد زيارة قام بها الشاعرهشام عوده لمسقط رأسه في كفل حارس ووطنه فلسطين في آذار 2014 بعد غياب قسري دام قرابة أربعين عاما يقول الشاعر في المقطع الثاني  بهذه المجموعة ....أقتفي خطو ذاكرتي / كي أقول لهذي البيوت العتيقة / للأرض/ للواقفين على شفرة الحلم والذكريات/ أقول لخمسين عاما / مضين بلا سبب مقنع/ للطريق التي ظلت الريح تسكنها / للقبور / وللتينة الواقفة/ أقول لتلك الحجارة/ للناس في صمتهم / للحروف العنيدة / مهلا / فما زلت طفلا / وما غادرتني المساءات/ منذ انتميت لذاكرتي المتعبة.. يبوح الشاعر هنا يسترجع الأماكن الحجارة الناس ويحث تلك الذاكرة التي سجلت تلك السيرة ومنذ زمن ألا تتعب ... ليسرد لنا تفاصيل تلك الحقبة من حياته ...
في الحقيقة أن العنصر السيرذاتي داخل القصيدة المعاصرة يُشكّل مُقوّما ثيماتيّاً وجماليّاً بارزاً، ولم يعد الأمر يتعلّق بتوظيف أو إدراج أبيات شعرية داخل نصّ السيرة الذاتية. لقد باتت «القصيدة السيرذاتية» تُمثّل جنساً أدبيّاً ينتمي إلى السيرة الذاتية، وهي بمثابة نصوص، شذرات واستدعاءات مقطعيّة، يُميّزها استعمال «أنا» كسيرة ذاتية مرتبطة بالاسم الشخصي للشّاعر، كما يُداخل بنيتها السرد الذي يتواءم مع طبيعتها المفتوحة؛ وإن كان من الصعب، في أحيان ما، أن نحكم في ما إذا كانت هذه العناصر السيرذاتية مُستقاة من حياة الشاعر أو تاريخ شخصيّته. لكن المسعى الجمالي والإيحائي – أيّاً كان – يجب ألا يصرف اهتمامه عن قول الحقيقة، بل على أنا الشاعر، الأصلي والمتلفّظ في آن، أن يلتزم بمبدأ الصدق وطابع الواقعية في سرد تاريخ حياته شعراً بما يقتضيه ذلك من بذلٍ فنّي وقدرة على التخييل، فيكون الشعر مثل نظيره النثر أَهْلاً لاحتضان السيرة الذاتية وكتابتها، ويصبح قادراً على استعادة حياة الأنا والوعد بالكشف عن ماضيها الشخصي، ولكن وفق ميثاق سيرذاتي- تخييلي مغاير للنثر وجديد. فكتابة السيرة الذاتية في سياق الشعر تتطلّب من الشاعر أن يقول أناه ويستعيده بصدق وتعبيريّة نوعية من جهة، ومن جهة أخرى عليه أن يستلهم سيرته البيوغرافية من داخل رؤية أنواعية تتقيّد بقوانين الكلام الشعري وفضاء تكوّنه بقدر ما تنفتح على تقنيّات جديدة يستوجبها السرد.‏ يقول الشاعر في المقطع الثالث من مجموعته مستحضرا سيرته بقالب سردشعري ... هنا كنت أزرع وهما بريئا / وأحصد بالوهم/ ما كنت أكتبه خلسة/ لبنات المدارس/ قبل انتصاف النهار/ هنا كانت الريح واقفة/ كان ظل الجدار حزينا/ووجه المرايا خجولا/ وكنت أنا واحدا منذ أول سطر/ إلى آخر النار/ من دون لافتة أو شعار / أخذت على عاتقي أن أظل هنا / على بعد خمسين عاما/ أعيد السؤال إلى كنهه/ قرب ساحة يوشع/ وتحت خروبة لم تزل / تقيم صلاة الحضور/.. أن الشاعر هنا يسرد سيرة حياتهبشعره لنراه أكثر ونعيش لحظات زمن مر وهو مازال يحتفي به  ... وبأمكنة ذاك الزمن وذكرياته
تمثلات السيرة الذاتية الشعرية
لقد بدا الشاعر في هذه المجموعة حريصا كل الحرص على استدعاء تلك الذاكرة وتتبعها للوصول أو الوقوف على مفاصلها القوية والأساسية في حياته ولعل أهمها
أنا / الشاعر .../ الوطن / الحبيبة / العائلة (الأهل)
أنا / الشاعر:
يقول الشاعر في المقطع الخامس ...اقتفي خطو ذاكرتي/ منذ كانت تنام على شفةالريح/ طائرةمن ورق/ كنت أنسج أطرافها/ من قميص النجوم البعيدة/ من غصن زيتونة/لم تسرح جدائلها في الصباح/ومن نسمة من هواء عليل.ها هي الطفولة تلك الذاكرة البعيدة تطفو على السطح بطائرة اللعب الورقية التي صنعت من زيتونة الدار وصباحاتها العليلة ..
الوطن:
و تكبر تلك الذاكرة ويكبر معها مفهوم جديد للحياة يتشكل على هيئة ارض ووطن يقول الشاعر  في المقطع الأول  ... لم أكن ولدا عابرا/ بل حملت انتظاري/ وكنت أحث الخطى/ كي أراها/ أرى صورتي في يديها/ وأقرأشيئا من الشعر/ في مستهل ثراها/ فلسطين أول أسمائنا/ آخر المعجزات/ وكل الذي جمعته القبائل من رحلة الصيد/ من عاليات قراها/ على أربعين رصيف جلست/ وفي جعبتي بقجة فارغة/ ومن أربعين طريق أتيت/ إلى وطن/ سبقتني إليه المرايا/ وكانت ظلال الطفولة واقفة/ تستحث الخطى/ يا أريحا/ انثري ما تيسر من وردآذار/من طرقات الحنين/ وخلي الفتى في مواسم دهشته/ مولعا بالمساء الحزين/ أرى الناس حولي/ يعودون سرا إلى أربعين المنافي/ ... وتأخذه الذاكرة إلى سيرة ذاك الوطن الذي يكاد يعد أهم ملمح من ملامح تلك السيرة الذاتية الشعرية فيقول ... أرى وطني في الوجوه الندية/ في فتية يذهبون إلى المدرسة/ وعجوز تعود من الحقل / في لحن شبابة يحتفي بالبلاد/ مع الأوف والميجنا/ على بعد ذاكرة من رواق عتيق/ حملت معي أربعين كتابا/ وألفا من الأغنيات/ رأيت البلاد كما حفظتها/ سطور القصيدة ...إنها سيرة الوطن التي هي جزء كبير وعظيم ومهم من سيرة الشاعر وذاكرته إنه يراها رؤيا العين والقلب فتأخذ الحيز الأكبر من تلك السيرة وتلك الذاكرة ..
الحبيبة:
وتاتي الحبيبة (المرأة) التي تكاد تتشابك وتتقاطع وتتقارب مع أنا الشاعر مرة ومع الوطن مرة أخرى فيحكيها ويحكي عنها يسردها كشاعر بكل تفاصيل حضورها بذاكرته يقول ...اقتفي خطو ذاكرتي / أكتب الآن ما فاتني / منذ خمسين عاما / وأرسم بعض ملامحه الغامضة / أعود صبيا / أعود إلى حيث كانت/ إلى حيث كنا /أعود الى شارع ضيق/ كان لي/ من هنا كنت أحمل شريان قلبي/ لعلي أراها/ وأرقب مشيتها / وهي تعرف موعدنا/ في الطريق إلى المدرسة/ من هنا كان رف العصافير يتبعها/ ويحمل عنها حقيبتها/ يدل خطاي اليها/ وكنت فتى الطرقات التي حفظت سرنا / كنت ألم الفراشات/ أزرع في الليل  كل القصائد/ في دربها / أخضر كان درب الصبايا/ أخضر كان درب الصباح/ ولم تكن الأرض ترقص/ إلا لمقدمها/ وهي تزهو بمريولها الأخضر ...تلك الحبيبة الغائبة الحاضرة ومنذ خمسين عام ..
الأب:
وتمر بذاكرة الشاعر في تلك الأمكنة سطور من حياة العائلة الأب والأم والجدة وشريط ذكريات يمر عبر مسيرة الحياة ويصبح عصيا على الذاكرة أن تمحوه وأن تتخلص منه فهو الركن الأساس فيها فها هو حين يقتفي خطو ذاكرته .. يتوقف قائلا ... أبي أيهذا الذي نصطفيه أميرا/ لفطنتنا في دروب الحياة / أيهذا الذي لم يزل واقفا/ والطريق انحنى/ ومالت على هدأة الليل/ كل الجباه / أبي أيهذا الذي / نامت الأرض في كفه / لماذا تأخرت يا حارس الفجر/ ماذا نقول لزيتونة غرستها يداك/ لتينتا الوارفة/ وماذا نقول لصحبك لو سألوا الأرض/ عن ظلها/ عن فتاها المزنر بالريح/ عن عاشق غارق بالندى/ تمهل قليلا...
إن هذه المجموعة تحتاج لقراءات كثيرة ومتعددة ... إنه غيض من فيض هي بحر من الكلمات والمعاني والصور والدلالات المفتوحة على القراءة والتأويل.