Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-Jun-2018

"للصائم فرحتان" - د. محمد المجالي
 
الغد- إن فحوى الشريعة بعمومها وتفاصيلها ما هي إلا مرشدة إلى الالتزام بطاعة الله؛ حيث الغاية الرئيسة من خلق الإنسان: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، والمؤمن يأخذ العهد على نفسه أن يسير على صراط الله المستقيم، ذلك الدعاء الوحيد الذي ندعو الله به في صلاتنا كل ركعة: "اهدنا الصراط المستقيم"، وما الطاعات على عمومها إلا عوامل مساعدة مثبّتة للمؤمن أن يلزم هذا الصراط، بما في حيزه من منهج متكامل للحياة، في علاقة المؤمن بربه وبنفسه وبغيره.
ها قد انتهينا من عبادة الصيام، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا أجمعين، وأن نكون قد تزودنا روحيا وفكريا وصبرا وبصيرة وتزكية، بالأمس بدأ وها هو قد انتهى، وهكذا العمر كله يمضي ونحن لا نشعر، فالوقت ينقضي بسرعة، فهنيئا لمن استغل وقته في طاعة أو على الأقل في منفعة، وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندامتي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي"، وقال أيضا: "إني لأبغض الرجل أراه فارغا لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته".
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب بعضك أن يذهب كلك"، وقال: "ما من يوم ينشق فجره إلا ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى قيام الساعة"، وقال ابن القيم رحمه الله: "إذا أراد الله بعبد خيرا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدا له، كلما همت نفسه بالقعود، أقامه الوقت وساعده"، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما".
انتهينا من الصيام والقيام وقد تعلمنا منهما التحمل والصبر، وأن بإمكاننا أن نفعل ما نعجز عنه في الأيام الأخرى، فالإرادة قوية، والقدرة على التحمل أقوى مما كنا نتوقع، نمتنع عن الطعام والشراب ست عشرة ساعة، ونقوم في الصلاة قرابة الساعة، فلِمَ لا يكون جزء من حالنا مع الله بعد رمضان هكذا؟
هنيئا لمن أطاع ولبى نداء الله، وحرص على أن يفوز برضاه، فصام وقام وأحيا الليالي العشر مظنة أن يدرك ليلة القدر، وأنفق مما آتاه الله من فضله، وتفقد أهله ورحمه وعموم المسلمين، فكان بهذه الهمة العالية راجيا غفران الله.
روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه"، وفي رواية أخرى: "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، وبعض العلماء فسر فرحة الصائم حين يفطر وذلك كل يوم بعد صيامه، وفسره آخرون بأنه حين ينتهي من صيام رمضان عموما، فهو العيد وإكمال العدة، فهو الفرح الحقيقي أن مكنه الله من صيام رمضان، وها هو يفرح بهذه الطاعة أن أداها، ويبقى من الله تعالى القبول.
أرجح هذا المعنى على الأول لأن الفرح الحقيقي هو بإكمال الشعيرة، وكما قلت فهو عيد، ثم لسبب آخر، هو هذا الربط بين فرحه بفطره، وفرحه بلقاء ربه، ففي الأولى انتهاء من أداء فريضة، وفي الثانية انتهاء من حياة دنيا هي عند الله مؤقتة لا نعلم حدّها، ولكننا بطاعتنا لله والتقوى قد اخترنا كيف نموت على الطاعة، كما أمرنا الله تعالى بقوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، وهنا تكون الفرحة بلقاء الله تعالى.
وتبين الرواية الأخرى فرحه بصومه حين يلقى ربه، فكأن الصيام سبب في هذه الفرحة، وذلك لما له من عظيم الأجر، ولما له من آثار كبيرة روحانية وتزكوية أهّلته ليكون صومه شيئا مُفتَخرا به، يوصله إلى بر الأمان، في يوم تزل فيه الأقدام، وتضطرب الأفئدة، وتشخص الأبصار، وتخرس الألسنة، وتنطق الجوارح، يوم مقداره خمسون ألف سنة، فيه بعث وحشر وحساب وتطاير صحف واجتياز صراط منصوب على جهنم، ثم المصير الذي ارتضاه كل واحد منا لنفسه، إنْ أحسن أو أساء، إنْ أطاع أو عصى أو كفر، هنا يفرح أحدنا بصومه، فالصوم كفيل بأن ينقذ صاحبه، ويدخل به الجنة إن شاء الله تعالى.
حُقّ للصائم أن يفرح، فللطاعة لذة لا يستشعرها ويتذوقها إلا المخلصون المنكسرون أمام ربهم، حين يستشعرون معيته تعالى في شأنهم كله، فهم مع الله في صلة دائمة، يذكرونه ويعبدونه ويعظّمونه ويستمدون منه وحده عزيمتهم وحسن توكلهم عليه سبحانه.
حُقّ للصائم أن يفرح بطاعته وبما ينتظره من أجر عظيم، فالصيام من دون العبادات هو لله يجزي به كيفما شاء: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به"، فهو نوع من الصبر، والصابرون يُوفّون أجرهم بغير حساب، وحُق لغيره أن يراجع نفسه ما دام في الحياة رمق، قبل أن يكون الخسران المبين.
تعلمنا من مدرسة الصيام بناء الإرادة التي تعيش مع الإنسان عمره كله، كيف يكون صلبا في دين الله، التزاما ودعوة ودفعا للباطل وأهله، وكيف يكون الانتماء الحقيقي لهذا الدين بشموليته.
وتعلّمنا من مدرسة الصيام كيف نخالف هوانا وشهواتنا، وكيف نرتب أولوياتنا، وكيف نرى ببصيرتنا لا ببصرنا، فندرك حقائق الأشياء، ولا نعيش في سراب الحياة ومتعتها، وأن نقود أنفسنا بالحق لا أن تقودنا هي بالشهوة، فحين يُحْرَم الجسد تنتعش الروح، ويسمو الإنسان ويحصّل التكريم الذي يليق به.
يفرح الصائم بلقاء ربه لأنه يعلم أن الله موفيه حسابه، وأن هذا الصيام أبعد ما يكون عن الرياء، حيث إحباط العمل، فيكون العمل الخالص لله موصلا إياه إلى حيث جنات النعيم المقيم، فالوعد حق، والجنة حق، وها هو يدخلها منعَّما مكرّما مُعَزَّزا، فاللهم أحسن خاتمتنا، واعف عنا، وارزقنا الفردوس الأعلى من الجنة، آمين.