Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Oct-2019

أصول العلاقات الأميركية-التركية الجديدة

 الغد-جورج فريدمان* – (جيوبوليتيكال فيوتشرز) 14/10/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
منذ العديد من السنوات، حدث تحول كبير في الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط؛ حيث سعت واشنطن باستمرار إلى تجنب القتال في هذه المنطقة. وتجد الولايات المتحدة اليوم نفسها مضطرة إلى البحث عن توافق مع تركيا؛ الدولة التي تشكل قوة إقليمية في حد ذاتها، بناءً على شروط ضرورية من الناحية الجيوسياسية لكلا البلدين. وكانت علاقتهما مضطربة. وعلى الرغم من أنها قد تستمر في أن تكون كذلك لفترة من الوقت، فإن التوتر فيها سيتراجع. ولا علاقة لتوافقهما بالمودة المتبادلة بقدر ما تتعلق بالضرورة المتبادلة. ويشكل التوغل التركي الأخير في سورية، ورد الفعل الأميركي عليه، جزءاً من هذا التعديل الذي له أصول عالمية وتداعيات إقليمية.
بالمثل، هناك أصل جيوسياسي واستراتيجي لقرار الولايات المتحدة التنحي جانباً بينما تقوم تركيا بعملية التوغل في شمال شرق سورية. والأصل الاستراتيجي هو صدام بين عناصر وزارة الدفاع الأميركية والرئيس الأميركي. فقد تشكل مجتمع الدفاع في الولايات المتحدة متأثراً بحرب ما تزال مستعرة منذ العام 2001. وخلال ما تسمى “الحرب الطويلة”، أنشأت الولايات المتحدة هيكل تحالف مع مختلف الجماعات الوطنية وما دون الوطنية. ومع ذلك، ما تزال المنطقة بعيدة عن التوازن. فقد وسع الإيرانيون مجال نفوذهم غرباً. والعراق في حالة فوضى. وما تزال الحرب الأهلية اليمنية محتدمة، وقد انتهت الحرب السورية الأصلية، بطريقة شرق أوسطية للغاية، أي بشكل غير حاسم.
لقد نضج جيل من المفكرين العسكريين والدفاعيين الأميركيين وهو يخوض الحروب في الشرق الأوسط. وكانت “الحرب الطويلة” هي حياتهم المهنية. وأمضت عدة أجيال من هؤلاء حياتهم المهنية في توقع أن تدخل الدبابات السوفيتية إلى “فجوة فولدا”. واعتقد محاربو الحرب الباردة أنه لا يمكن تخيُّل عالمٍ خالٍ من الحرب الباردة. ويمكن قول الشيء نفسه عن أولئك منهم الذين شكلتهم حروب الشرق الأوسط. بالنسبة لجيل الحرب الباردة، كان حلف “الناتو” هو أساس تفكيرهم. وكذلك كان الأمر بالنسبة لجيل “ساندبوكس”، الذين قضوا حياتهم المهنية وهم يتناوبون على الخدمة في العراق أو أفغانستان أو أي مكان آخر، حيث بدت التحالفات التي تشكلت معهم والأعداء الذين يقاتلونهم أبديّين. كانت فكرة أن العالم قد مضى قُدماً، وأن “فولدا” وحلف الناتو أصبحا أقل أهمية، شيئاً لا يمكن تصوره عاطفياً. وأصبح يُنظَر إلى أي تحول في التركيز وبنية التحالفات على أنه خيانة.
بعد انتهاء الحرب الباردة، اتخذ جورج دبليو. بوش قراراً بتخفيض عمليات النشر الجوية لطائرات B-52 على مدار 24 ساعة في الشمال، والتي كانت تنتظر في السابق وقوع الهجوم السوفياتي. فقد تغير الواقع، واتخذ بوش ذلك القرار بعد عام من بدء انهيار أوروبا الشرقية. وفعل ذلك في وقت مبكر يوم 21 أيلول (سبتمبر) 1991، بعد سقوط جدار برلين، وإنما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بالكامل. وكان قراراً مثيراً للجدل. كنت أعرف بعض الأشخاص الجادين الذين اعتقدوا بأننا يجب أن نكون منفتحين على احتمال أن يكون الانهيار في أوروبا الشرقية مجرد غطاء لهجوم سوفياتي قادم، وكانوا مستائين للغاية من قرار تخفيض نشر الطائرات الأميركية.
من الصعب أن نقبل بحقيقة أن حقبة قد انتهت فعلاً وذهبت إلى سجلات التاريخ. وتشبث أولئك الذين تشكلوا في تلك الحقبة، من خلال مزيج من الشعور بالخطر والحنين، بالأشياء نفسها التي تتردد في أذهانهم. وقد تحدث البعض (ولو أنهم ليسوا من الأوروبيين) عن خيانة لأوروبا، وأعرب آخرون عن أسفهم العميق لأن الأسلحة التي عملوا بجد لجعلها قريبة من الكمال والاستراتيجية والتكتيكات التي ظهرت على مدى عقود لن تتم تجربتها أبداً.
حدث الشيء نفسه بطرق مختلفة في الشرق الأوسط. فقد أنتج الانتشار العسكري على مدى فترة تقترب من 20 عاماً أنماط سلوكية وتوقعات والتزامات -وليس فقط بين الأفراد وإنما على مستوى أكثر مؤسسية في جميع تكوينات القوات المسلحة. لكن المهمة تغيرت. في الوقت الحالي، تقلص وجود تنظيم “داعش” إلى حد كبير، وكذلك تنظيم القاعدة. وانتهى الصعود السني في العراق، وحتى الحرب الأهلية السورية لم تعد كما كانت من قبل. ولم تبدأ حرب ضد إيران، وقد لا تحدث على الإطلاق، ولن تشبه في حال اندلاعها الحروب التي خيضت في المنطقة حتى الآن.
يولد هذا الواقع بشكل حتمي إعادة تقييم استراتيجية، والتي تبدأ بقبول حقيقة أن الحقبة السابقة قد ولت فعلياً. كان من الصعب التحول من الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة، ومن الحرب الباردة إلى عالم اعتقد الكثيرون أنه قد تسامى عن الحرب، ليكتشفوا بعد ذلك أن الحرب علِّقت فقط وأنها استؤنفت الآن. وتتظاهر الحرب والإستراتيجية بأنهما غير مرتبطين، لكنهما مسعيان عاطفيان لا يستوعبان التغيير الجوهري بسهولة. والآن، بعد 18 عاماً من الحرب، ثمة شيئان أصبحا واضحين تماماً: الأول هو أن الهدف المتواضع المتمثل في كبح جماح الإرهاب قد تحقق؛ والثاني هو أن الهدف النهائي المتمثل في خلق شيء يقترب من الديمقراطيات الليبرالية في الشرق الأوسط لم يكن ممكناً أبداً.
الثبات على المبدأ
تغير العالم بشكل كبير منذ العام 2001. برزت الصين كقوة كبرى، وأصبحت روسيا أكثر نشاطاً. وأصبحت إيران، وليس الجهاديين السنة، هي التي تشكل التحدي الرئيسي في الشرق الأوسط، وتغير هيكل التحالفات اللازمة للتعامل مع ذلك تغييراً جذرياً منذ حملتي “عاصفة الصحراء” و”حرية العراق”. وبالإضافة إلى ذلك، تغيرت التحالفات من حيث القدرة أيضاً. انتهت عمليات الانتشار العسكرية الضخمة في الشرق الأوسط، لكن بعض القوات ما تزال هناك. وبالنسبة لقسم من الجيش الأميركي، فإن الحرب الجهادية ما تزال مستقرة في مركز تفكيرهم. وبالنسبة إليهم، ما تزال التحالفات التي نشأت على مدار الأعوام الثمانية عشر الماضية حاسمة بقدر ما كان سلاح الجو البلجيكي مهماً خلال الحرب الباردة.
هناك فصيل آخر متزايد القوة في الولايات المتحدة، والذي ينظر إلى الشرق الأوسط كمصلحة ثانوية. وفي كثير من الحالات، يشملون إيران في هذا. وينظر هذا الفصيل إلى الصين أو روسيا (أو كليهما) باعتبارهما المنافس الأساسي للولايات المتحدة، ويرى أعضاؤه أن الشرق الأوسط هو عامل تشتيت غير مُجدٍ ومصدر لتجفيف الموارد الأميركية لا طائل تحته.
بالنسبة لهم، كان جلب الصراع هنك إلى نهاية شأناً حاسماً. وذلك، أصيب أولئك الذين صنعوا حياتهم المهنية في هذه الحرب وفي تحالفاتها بالرَّوع. كانت رؤية الرئيس دونالد ترامب ثابتة لم تتغير. بشكل عام، اعتقد بأن استخدام القوة العسكرية الأميركية في أي مكان يجب أن يكون الاستثناء وليس القاعدة. ولذلك، رفض بدء القتال في كوريا الشمالية. ولم يهاجم إيران بعد إسقاطها طائرة أميركية من دون طيار أو بعد استيلاء إيران على ناقلات النفط في مضيق هرمز. وبعد الهجوم على منشأة النفط السعودية، قام بزيادة الدفاعات الجوية في السعودية، لكنه رفض شن هجمات ضد الإيرانيين.
بالنظر إلى هذا التحول في الاستراتيجية الأميركية، تظهر الآن ثلاث مهام أساسية: الأولى هي احتواء الصين. والثانية هي احتواء روسيا. والثالثة هي احتواء إيران. وفي حالة الصين، فإن هيكل التحالف الذي طلبته الولايات المتحدة هو في المقام الأول الأرخبيل الممتد من اليابان إلى إندونيسيا وسنغافورة -بما في ذلك كوريا الجنوبية. وفي التعامل مع روسيا، هناك موضعان للاهتمام: الأول هو سهل شمال أوروبا؛ والآخر هو البحر الأسود. وتشكل بولندا الحليف الأميركي في الشمال، ورومانيا في الجنوب. لكن إدراج تركيا في هذا المحور يمكن أن يعزز الإطار المعادي لروسيا. كما سيوفر، بالإضافة إلى ذلك، مركز ثقل مهم في وجه التوسع الإيراني.
وأهمية تركيا واضحة. ولذلك تطلب ودها كل من روسيا وإيران على حد سواء. وليست تركيا هي البلد نفسه الذي كانت عليه قبل عقد من الزمن. فقد نهض اقتصادها ثم ذهب بعد ذلك إلى الأزمة. ومرت بمحاولة انقلاب، وكان الضغط فيها الداخلي هائلاً. لكن هذا النوع من الأزمات شائع في القوى الناشئة. كانت الولايات المتحدة قد شهدت حرباً أهلية في الستينيات من القرن التاسع عشر، لكنها كانت بحلول العام 1900 تنتج نصف السلع المصنعة في العالم، بينما تفتخر بقوات بحرية قوية هي الثانية بعد البريطانية في ذلك الحين. ولا تعني الأزمات الداخلية بالضرورة الانحدار الوطني. بل إنها يمكن أن يعني الصعود الاستراتيجي.
يبقى تحالف تركيا مع إيران وروسيا دائم التوتر. فقد خاضت إيران وروسيا في أوقات مختلفة حروباً مع تركيا، واعتبرتا العراق دائماً مصدر تهديد. وفي الوقت الحالي، لدى هاتين الدولتين مصالح أخرى وتبدو تركيا مستعدة للعمل معهما. لكن تركيا تعرف التاريخ جيداً. كما أنها تدرك أن الولايات المتحدة هي التي ضمنت السيادة التركية في مواجهة التهديدات السوفياتية في حقبة الحرب الباردة، وأنه ليس لدى الولايات المتحدة -على العكس من روسيا وإيران- طموحات إقليمية أو احتياجات من تركيا. وباعتبارها حليفة مسبقاً في حلف شمال الأطلسي وبوجود العلاقات الثنائية التاريخية بين البلدين، فإن العلاقة مع تركيا تصب في مصلحة الولايات المتحدة لأن الأولى تشكل هيكلاً يهدد الطريق الذي تقيمه إيران إلى البحر الأبيض المتوسط ويكمل التحالف الروماني-الأميركي في البحر الأسود. كما أن الولايات المتحدة وتركيا معاديتان أيضاً للحكومة السورية. وبالنسبة لتركيا، لا يمكن التنبؤ بروسيا وإيران على المدى الطويل، ويمكنهما أن تهددا تركيا عندما تعملان معاً. ويتوافق الاهتمام الأميركي بتركيا مستقلة تقف في وجه روسيا وإيران مع المصالح التركية طويلة الأجل.
هنا يدخل الأكراد
وهنا يدخل الأكراد إلى المعادلة. إن شرق تركيا كردي، والحفاظ على الاستقرار هناك ضرورة جيو-سياسية لأنقرة. وقد نفذت عناصر من أكراد تركيا، الذين يتجمعون حول حزب العمال الكردستاني، هجمات مسلحة. ولذلك، من مصلحة تركيا تطهير حدودها المباشرة من أي تهديد كردي. وليست للولايات المتحدة مصلحة كبرى في ذلك، بل إنها تعاونت بالفعل مع الأكراد في العراق وسورية. ولكن بالنسبة للأتراك، فإن وجود الأكراد على حدودهم يشكل تهديداً لا يمكن التنبؤ بنتائجه. ويتراجع الاعتماد الاميركي على الأكراد مع تراجع الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط. وتصبح تركيا أكثر أهمية من الأكراد بالنسبة للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بإيران.
يشعر ترامب بوضوح بأنه يجب تهدئة الحروب في الشرق الأوسط وبأن وجود علاقة مع تركيا هو أمر بالغ الأهمية. ويعد الفصيل الذي ما يزال يركز على الشرق الأوسط هذا بمثابة خيانة أساسية للأكراد. لكن السياسة الخارجية شأن قاس وغير عاطفي. الأكراد يريدون إقامة دولة كردية. ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل ذلك ولا أن تدعمه. وفي بعض الأحيان، ستنضم الولايات المتحدة إلى تحالف منفعة متبادلة مع الأكراد لتحقيق أهداف مشتركة معينة. لكن لدى الولايات المتحدة، بغض النظر عن المشاعر، مصالح جيو-سياسية تتضمن الأكراد أحياناً ولا تتضمنهم في أحيان أخرى -ويمكن قول الشيء نفسه عن الأكراد.
في الوقت الحالي، ليست القضية الأساسية تنظيم القاعدة، وإنما الصين وروسيا، وتبقى تركيا مهمة بالنسبة للولايات المتحدة فيما يخص روسيا. والولايات المتحدة مهمة بشكل حاسم بالنسبة لتركيا أيضاً، لكنها لا يمكن أن تسقط ببساطة بين ذراعي أميركا. لقد أصبحت قوية جداً في المنطقة، ولديها الوقت لإنجاز الأمور بالشكل الصحيح. ولذلك، سوف يؤدي عمل ترامب على الحدود السورية إلى زيارة يقوم بها الرئيس رجب طيب أردوغان لواشنطن -وفي الوقت المناسب، إعادة تنظيم للتحالفات في المنطقة بين القوة العالمية والقوة الإقليمية.
 
*متنبئ واستراتيجي جيوسياسي معروف دولياً في الشؤون الدولية، ومؤسس ورئيس مؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”. له العديد من الكتب المهمة التي تُرجمت إلى أكثر من 20 لغة. حاضر في العديد من المنظمات العسكرية والحكومية في الولايات المتحدة وخارجها، وهو يظهر بانتظام كخبير في الشؤون الدولية والسياسة الخارجية والاستخبارات في وسائل الإعلام الرئيسية. منذ ما يقرب من 20 عاما قبل استقالته في (مايو) 2015، شغل منصب الرئيس التنفيذي ثم رئيس مجلس إدارة مؤسسة (ستراتفور)، التي أسسها في العام 1996.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Origins of New US-Turkish Relations