Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    04-Aug-2018

15 عامًا على رحيل القيسي غـِرّيدِ الـحـزنِ الموزون
الدستور - د. إبراهيم خليل
قلما نتذكَّر نحن الذين نهتم بالشعر، والنثر، الراحلين من الشعراء، وقد يُعزى ذلك- غالبًا -  لانشغالنا بما هو لصيق بحياتنا اليومية. فها هو الشاعر الكبير محمد القيسي – وقد مرت على رحيله خمس عشرة سنة- يكاد لا يتذكره أحد، لا من أصدقائه، ومريديه، الذين كانوا يتحلَّقون حوله، من حين لآخر، ومن موقع لموقع، ولا من القراء المهتمين بالشعر الرصين، والإبداع المبتكر الرفيع. فكأن الشاعر الذي شُغل به الناس دهرًا، وفاز بجوائز عدة، وأصدر ما يربو على عشرين ديوانا، عدا روايتين ، وبعض كتب السيرة، والشهادات، منها الموقد واللهب.. كغيره ممن كتبوا أسماءهم على الماء، فلم يترك ما يُذكِّرُ الآخرين به، كقول السياب رحمه الله:
فاين أبي، وأمي، أين جدي، أين آبائي؟/ لقد كتبوا أساميهمْ على الماء/ ولستُ براغبٍ حتى بخطِّ اسمي على الماء/ وداعا يا صِحابي، يا أحبِّائي../ إذا ما شِئْتمو أن تذكروني/ فاذكروني ذاتَ قمْراء/ وإلا فهو محضُ اسْمٍ تبدَّد بين أسماء/ وداعًا يا أحبّائي.
فالقيسي، من حيث هو شاعرٌ – لا روائيٌ، ولا قاصّ- لم يكتفِ بكتابة اسمه على الماء، حتى يمضي نسيًا منسيًا، فلا يذكره أحدٌ، لقد حفر اسمه حفرًا على جذع سنديانة الشعر العربي الحديث، ولا يستطيع دارسٌ يستحق هذا الوصف تجاوُزَهُ إذا أراد لدراسته الشمول، والدقة، والاحتفاء بالشعراء الحقيقيين، لا المتطفّلين، الذين وصفهم المتنبي قبل ألف ونيّف من الأعوام، في قوله المأثور، وبيته المشهور:
بأي لفظٍ تقولُ الشِعْر زِعْنِفَةٌ
تجوزُ عنْدكَ لا عُرْبٌ، ولا عَجَمُ
فالقيسي، من بداياته، وبواكيره، شاعرٌ تمتلئ قصائدهُ بالأحاسيس التي تشدُّ إليها القارئ شدًا، فهو يعبر تعبيرًا قويا، وصادقًا، عما يمور في سويداء القلب، ودخيلاء النفس، ولا يتشدَّقُ بالألفاظ كغيره من أنصاف الشعراء، وأشباه المبْدعين، يقول في إحدى بواكيره عما يعانية من شعور بالحزن، والمرارة، وأنه لا يفتأ يقاسي آلام الانتظار؛ انتظار العودة إلى وطن لا يدَ له في التخلي عنه، أو الهجرة منه، أو الرحيل إلى غيره، فهاجسُ العودة من المنفى هاجسٌ يعذب الشاعر، ويقلقُه، ويجعل من الأسى غذاءَه اليومي، ومن شعوره بالضياع، والإحباط، والحيرة، شعورًا لا يزايله:
أحبائي/ يمر الليل عن جفني ويسألني/ حزينٌ ساهرٌ تشكو من الأيام والمِحَنِ/ متى تشفى من الشَجَنِ/ سؤالُ الليل يؤلمني/ ويحزنني/ لأني كل ما أدريه أني بتُّ منفيا/ وأني لم أزلْ حيا/ تعذبني وتقلقني/ طيوف الأمس والذكرى تعذِّبُني/ فأجترُّ الأسى والصمت والحيرة.
ثلاثة أشياءَ- إذًا - هي التي تجعلُ منه كائنا كلُّ ما فيه هو المعاناة، وهي: الأسى، والصمت، والحيرة. على أن الحزن هو الإحساس المهيمن على أشعاره، المبكرة، فإذا سمع الشاعر أغنية تُبثُّ من مذياعٍ ما تتحدَّث عن الوطن، فاضت نفسه بالأحزان، وانثالت الأشجان في عروقه عذابًا تارةً، وتارةً هوْنًا، وطورًا شعورًا قاسيًا بالحرمان:
أغنيةٌ/ تسْكبُ في قلبي الأحزان/ جمعتْ في بيدر إحساسي الأشجانْ/ وانثالت في روحي/ شلالاتُ عذابٍ وهَوانْ/ وأنا والقلبُ وأهدابي/ نجترُّ الحزنَ/ ونقتاتُ الحرْمانْ.
يلحُّ القيسي في بواكيره على مُفردة «الحزن»، فما من قصيدة له في ديوانه الأول « راية في الريح « ، الذي يضمُّ قصائده المبكرة، تخلو من هذه المفردة، التي لها ألقٌ خاصٌ في شعره. فهو، وإنْ حاول أن يخفي شعوره بالحزن، وأن يطويه في أغوار نفسه، ويغيّبَه عن أعين الآخرين، إلا أن شعره الذي يقوله، معبرا فيه عن ذاته، سرعان ما يسلط الضوء على هذا الحزن، ويخرجه من عتمة الخفاء إلى ألَقِ التجلّي:
وأوغلُ في متاهاتي/ أواري الحزْنَ في طيّات أغواري/ وأطمُر في رمالِ الغيب أسراري/ على شفتيَّ قد صلبوا جَنين الحرف/ أهانوا عفة الكلمة/ أرادوا الموت للكلمة/ أرادوا الصمت للشاعر/ وما حَسِبوا بأنَّ الحرف بحرٌ ما له آخر/ وأنَّ المجدَ للشاعر.
فالحزْنُ الذي يحاول القيسي إخفاءَه، في أغواره، ليس مجرَّد شعور، وإحْساس، كالذي تمتلئُ به نفس الإنسان العادي حين يمر بتجربةٍ لا تخلو من الفاجِع، وإنما هو حزنٌ مَسْئول، يضطربُ مثلما تضطرب مشاعر المقاتل، أو المناضل، وهو يتأهَّب لخوض معركةٍ ما، لذا يتعَرَّض هذا الشعور لمحاولاتٍ هدفُها إخماده، وذلك كي لا ينفجر فجأة في وجوه الاحتلاليين، انفجار قنبلة موقوتة، أو لغَمٍ يوشك أن يثور . وقول الشاعر « وما حسبوا .. « و « أن المجد للشاعر « قولٌ يؤكد فيه أن الإخفاق الذريع هو مآل هاتيكَ المحاولات، ومصيرها الحتمي. وليس للحزن عند القيسي وقتٌ معيَّنٌ، أو زمن محدَّد، فهو لا يفتأ يتجرعُ مرارة هذا الإحساس منذُ وعى، وعلى مدار العمر، بلياليه الطوالِ، المتكرِّرة:
يا ويلَ أعمارنا/ من طول ما نسير/ في درْبنا المُغبَّر الحزينْ/ في ليْلنا الطويلْ
وليسَ لهذا الحزن مكانٌ خاصٌ، أو فضاءٌ معيَّن، يستطيعُ الحزينُ، بمغادرته، أن يستبْعد من أعماقه هذا الإحساس، وإنما هو حزنٌ يلاحق الحزينَ أنّى سار، وأيّانَ استقرَّ، وكان. فحيثما تلفّت الشاعر ألفى أصدقاءَ، وأصحابًا متفرقين، تتجسد المأساة في نظراتهم، وعيونهم، صورًا خطوطُها الحزن، وألوانها الألم المبرّح، العميق، فهو حزنٌ يتجاوز انتشاره حدود المكان، مثلما يتجاوز أيضًا حدودَ الزمان:
تتلفَّتُ العينان حولي/ لا أرى إلا صِحابًا – ها هنا – متفرّقين/ تتجسّد المأساة في نظراتهم/ صورًا من الأحزان، والألم الدفين/ ويروح يمخُر في عباب البحر،/ مركبُنا الحزينْ/ ونظل نغرقُ في دياجير السنينْ.
لا الليلُ، وحْدَه، ولا عتمة الدياجير، وحدها، هو ما يظلِّلُ حياة الشاعر بالكآبة، والأحْزان، فحتى الريحُ تلاحق الشاعر ، وتلاحق رفاقه المشتَّتينَ، بالحزن، كأنما تضيقُ عليه الأرض بما رحُبَتْ، فلا يستطيع التفَلُّت، لا هو، ولا الرفاق المتعبون، من هذا الإحساس العميق، والألم المستبدّ اللصيق، ولذا نجدهُ- من باب المفارقة - يتلذَّذ بالحزن، منتشيًا بالألم، فهو لا يفتأ يُكرِّر ذلك:
الريح تركضُ خلفنا/ وتصبُّ لعنتها/ ويمضي الركبُ/ يوغلُ في مفاوز غربة الحزن العميق/ يا حاديَ الأحزان نحنُ بلا دليل/ ضاع الطريق/ ضاع الطريق
***
في المرحلة التي سبقتْ الخامس من حزيران 1967 وقبل ظهور المقاومة علنًا، بعد أنْ كانتْ قد ظهرت سرًا في العام 1965، ظلّت ذخيرة الشاعر الفلسطيني- دومًا- فيْضًا من المشاعر، والإحساسات، التي يغلب عليها الأسى، ويكتنفُها الحزن. ولذا لا نعجب إذا وجدنا القيسي يكرر مفردة الحزن كثيرًا، والحسرة، والأسى، والخيبة، والمرارة، والحيرة، ففي قصيدة له بعنوان « المصلوب « وهو - ها هنا - اللاجئ الفلسطيني، يقول الشاعر:
لأني حينما أبحرتُ في عينيْكِ كان الحزْنُ موالي/ وكان الجرح في أعماق أعماقي/ ينزُّ  دمًا، ويروي ذلّ مأساتي. لأن الخيبة السوداءَ كانتْ كلّ ما جمّعْتُ، قبْضَ الريح كانَ حصادُ ماضينا، تكوَّمْنا على قشّ الحصير نلوبُ بالحسرة.
فكلماتٌ، مثل: الحزن موالي، الجرح، الدم، الذل، مأساتي، الخيبة السوداء، قبض الريح، الحسرة، توحي بهاتيك الأجواء القاتمة، التي تحيط بالشاعر إحاطة السِوار بالمعْصَم، وهو يعبّر عنها في لوحة تتَّسع لكل هاتيك البُقع الكامدة، وهذا الحزن الذي لا يحول بين الشاعر القيسي ورؤيته لما يجري على الأرض، فهو دائم الالتفات إلى الأهل في فلسطين، لا يني يتذكرهم، ويخاطبهمْ، في شعره الشجيّ، مشيدًا بصمودهم، ومقاومتهم للاحتلال الفاشي، وهو يراقب بحدْسِهِ الخطى تعبُر النهر غربًا، وتحاول أن تفجِّر الأرض تحت أقدام المحتلّين، لتمْحو من النفوس ما تراكمَ فيها عبر سنوات القهْر، والحزن، من عذاباتٍ، فقصيدتهُ هذه تشقُّ طريقها في ليل الاحتلال، سلاحُها- فضلا عن الكلمة- تكريس الشهادة، وتلبية نداء الأرض:
وأرقب يا أحبائي/ خطاكم وهي تعبر ضفة النهر/ وفي عينيَّ أحمل ما بأعينكم/ من الأحزان والقهر/ فمي سدٌ أمام تفجُّر الكلمات/ تعذبني من الأعماق/ تغرسُ شوكها في قلبيَ الدامي/ فيا عاري/ إذا ما زالت الكلماتْ/ سلاحي، والطريق علامةٌ حمراء/ فكيف أصمّ آذاني/ وأقعد عن نداء الأرضِ، والشهداء/ وفي عينيَّ إصْراري.
يبدأ الشاعرُ، من هنا، اتجاهًا جديدًا في بواكيره، اتجاها لا يتخلّى فيه عن الحزن، ولكنه يضيفُ إلى صُوَر الأسى، والحسرة، والألم، صورًا أخرى جديدة، كالتخلي عن سلاح الكلمة وَحْده، لأنه لم يعد كافيًا، والاستجابة لنداء الأرض، ونداء الشهادة، والإصرار على رؤية ما ينبغي للإنسان أن يقومَ بهِ في ضوء هذا الواقع الجديد الذي انبَلَج فيه فجر المقاومة من ليل الاحتلال البغيض. ولئنْ كانت لغة الشاعر، سابقًا، تموجُ بالحنين إلى الديار ذات الحدود الموصدة، والأسوار الشائكة المتعدِّدَة، فإنّ في الطيْر، الذي يرمز بعودته لما يشبه عودة اللاجئ بعد الفراق، تعْويضًا عن ذلك، وتخفيفًا من الشعور بلوْعة النفْي:
(بالله يا طير الحيّ إنْ جيتْ دارنا/ ريّضْ ألا يا طيرنا وارتاحْ/ قلْ لها بحالِ الجَهِل يا طولْ عزنا/ يا ما قعدنا عَ الفراش صْحاحْ/ يا مِنْ درى يصفا زماني وأعاتبه/ وأعاتبه عَ اللي مضى لي وراحْ/ ويزداد الحنينُ، ويقطرُ الموالُ أشجانا(.
فهذه النغمة الشجيَّة ما فتئت أنْ خَلَتْ منها بواكيرهُ التالية، إذْ تواترتْ في قصائده الإشاراتُ للشهيد الذي لم يمتْ، وللدم الزكي الذي يُراق، والذي لم يُرَقْ، وللعاصفة التي تكنِسُ عن الغصون الأوراق الزائفة المستعارة.. وها هو ذا يستذكر المشيِّعين لشهيد المقاومة، وهم ينشدون أبياتًا من الشعر المتداول في مواكب الشهداء:
(طلَّتِ البارودة والسبع ما طلّ/ يا بوز البارودة من الصدا مبتلْ/ بارودة يا مجوهرة شكّالك وينْ/ شكالك عَ عاداتوا سرى في الليل/ شكالك عَ عاداتو سرى مصباحْ).
فهو - إذًا - طَرِبٌ لهذا التغيير، فرحٌ بهذا التطْوير، ولكن، أيمكن أن يتحرَّر شعره من نغمة الحزن، وتراتيل الشجَن؟ مَنْ جُبل، في الحقيقة، على هذا الشعور، وفُطر على هذا الإحساس، من الصعب أن يتخلى عنه، ولذلك ظلَّ شعره» المقاوم» حافلا بذيّاك الجرْس الحزين، والشجَن المفْعَمَ إلى حافَّتهِ بالحنين، فهو لا يفتأ يتصوَّر الحزن نبتة راسخة الجذور، والشروش، في كيانه العضوي، كشجرَةٍ ضاربةٍ في أغوار التراب، سامقةٍ في عَنان السحاب، وهو- في هذه الحال- لا يقتصر على كلماتٍ تتردَّدُ من حين لآخر:والذي أحضرني اليوم هنا/ كانتْ رصاصة/ أخطأتني أمس أثناء العبور/ حين تابعنا المسيرة/ زنبقاتُ الحزْن في قلبي/ يعانِقْنَ الظهيرة.
فالقيسيُّ، الذي فارقَنا في الفاتح من شهر آب- أغسطس 2003 شاعرٌ حزينٌ بالفِطرة، شجيٌّ بالوراثة، فلقد استُشْهدَ أبوه عام 1948 ولما يتمّ الرابعة من عمره، ورثاه في قصائد استعاد فيها صورة الشهيد، وتكررت تلك الصورة في أشعاره، وفي السِيَر، التي كتبها عن ذكريات اللجوء، والطَّرْد من المكان، وعذابات النَفْي، التي تعرَّض لها طفلا، وتعرض لها شابًا، ومُكْتهلا، والمنافي التي تقاذفتْهُ من هنا إلى هناك تقاذفَ الكرة بين أقدام اللاعبين، لذا، لا غرْوَ إنْ وجدنا في أشعاره للحزن هذا الحضورَ المستمرَّ، اللافت، ولقد صحَّ عليه وصفُ الشاعر المرحوم أحمد دحبور له في إحدى المقالات « بــ « غِرِّيد الحزْن الموزون* «.
* أحمد دحبور: محمد القيسي غرّيدُ الحزن الموزون، الموقف الأدبي، دمشق، ع 77، السنة 1977