رواية الجزيرة تحت البحر.. عندما ينتصر المقهورون ويكتبون التاريخ
الرأي - رصد إيزابيل الليندي، القلم اللاتيني الذي ينساب بين الحقائق التاريخية والمشاعر الإنسانية، تفتح لنا في رواية "الجزيرة تحت البحر" نافذة على تاريخ سان دومينغو (هايتي) حالياً، الجزيرة التي تنقلت من جحيم الاستعمار الإسباني إلى جحيم الاستعمار الفرنسي في عام 1626، حيث تحولت إلى أغنى مستعمرات الكاريبي بفضل مزارع البن والتوابل، وعرق العبيد الأفارقة الذين ذاقوا أنواع عذاب الاستعمار.
بحلول عام 1788، كان عدد الأفارقة يفوق الفرنسيين بثمانية أضعاف، وخلال عام 1791، وأثناء اشتعال الثورة الفرنسية، ثار الأفارقة على الفرنسيين، ودمّروا المزارع والمدن، واستولى توسان لوفتير -أحد زعماء الأفارقة- على السلطة. وجاء نابليون، في محاولة يائسة لاستعادة السيطرة، أرسل جيوشه إلى هايتي، لكن معركتهم كانت خاسرة منذ البداية، فقد قضت الحمى الصفراء على كثير منهم، ومكنت الثوار من تحقيق النصر وإعلان استقلال هايتي في 1804، لتصبح شاهداً على أول دولة تتحرر بيد العبيد.
في هذا السياق المشحون بالدراما والتحولات الجذرية، تستعرض الرواية حياة زاريتي، الفتاة الجارية التي شهدت البؤس والنضال من أجل حرية لم تكن سهلة المنال. لم تكتف الليندي بالتأريخ للأحداث بل أغنت السرد بالعمق العاطفي والنفسي لشخصياتها، مانحةً إياهم الحياة والتعقيد. زاريتي، التي تنقلت بين أيدي أسيادها، بدءاً من مدام دلفين إلى فيوليت وزوجها الفرنسي تولوس فالموراين، والتي تمتلك جمالاً أخاذاً وحسناً منقطع النظير، التي كانت قد باعتها مدام دلفين، عندما كان عمرها تسع سنوات، إلى فيوليت، فأصبحت خلاسية وخادمة لعشيقها مالك الأراضي الفرنسي تولوس فالموراين المقيم في سانتو دومينغو مع زوجته وابنه ومالك أهم مزارع قصب السكر في المنطقة، تتحول زاريتي في الرواية إلى رمز للمقاومة والتحدي، حيث تجابه ثلاثية الظلم: كونها امرأة، وخليلة، وعبدة.
رواية الجزيرة تحت البحر.. زاريتي وسردية الكفاح
يمتد زمن الرواية على مدار 40 عاماً من حياة "زاريتي" تشهد خلالها بشاعة استغلال العبيد في الجزيرة الكاريبية في القرن الثامن عشر بينما تعكس ظروف حياتها وكفاحها من أجل نيل حريتها.
الرواية تغص بمواضيع مرتبطة بالرق والعبودية مثل العنف وزنا المحارم وبتكيف الأوروبيين مع ظروف الحياة في نيوأورلينز والثورات التي تبرز جميعها في هذا العمل الأدبي، مثلما تظهر فيه سلسلة من الشخصيات المتنوعة من بائعات الهوى حتى الأطباء الدجالين والسحرة، الذين ساندوا البطلة للمضي قدماً حتى نيل حرية منشودة للغاية بالنسبة للأجيال المقبلة.
الليندي ترسم شخصية مناضلة تجتاز فخاخاً ينصبها القدر لها كونها امرأة وخلاسية وعبده، 3 سمات كانت تحكم، في الكاريبي، القرن الثامن عشر، على أي شخص أن يكون سجين مصير محتوم يقوم على الوقوع بين يدي سيد رجل وأبيض وحر. بيد أن زاريتي تتحول، مع ذلك، إلى بطلة منتصرة تتمكن من فتح طريق سعادتها.
رواية الجزيرة تحت البحر لا تخجل من رسم البشاعات الصارخة للاستعمار -الاستغلال، والقهر الوحشي، والفوارق الصارخة بين العبيد وأسيادهم الفرنسيين. ترسم الليندي صورة حية للبنية المجتمعية آنذاك، حيث تمتزج التقاليد والمعتقدات الأفريقية وتتصادم مع الهيمنة الأوروبية، ما يشكل نسيجاً معقداً من المقاومة الثقافية والاستيعاب.
تستكشف الرواية "الجزيرة تحت البحر" لإيزابيل الليندي ببراعة موضوعات الحرية والهوية من خلال "زاريتي"، العبدة التي تعاني من قسوة العبودية والنضال من أجل تحرير الذات.
تعكس رحلة زاريتي التحولات الاجتماعية الأوسع في عصرها، وإحساسها المتطور بذاتها، إلى جانب سعيها إلى الحرية الشخصية، والذي يعكس الشوق الجماعي للسكان المستعبدين للتحرر. تقدم ديناميكيات السلطة الموضحة في الرواية، بين مالكي العبيد والعبيد، والرجال والنساء، والمستعمرين والمستعمرين، مادة غنية لاستكشاف كيفية ممارسة السلطة ومقاومتها في مجتمع استعماري معقد.
تشتهر الليندي بأسلوبها السردي الغني والمثير الذي يمزج التفاصيل التاريخية مع الصدى العاطفي العميق. يشيد العلماء بقدرتها على تطوير شخصيات متعددة الأبعاد تعيد الحياة إلى الفترة التاريخية. إذ استطاعت أن ترسم شخصية زاريتي، على وجه الخصوص، بمرونة وتعقيد في نفس الوقت، فلا تراها في الرواية فقط كرمز للقمع ولكن أيضاً كمنارة للأمل والمقاومة. بينما يوفر التفاعل بين الشخصيات من خلفيات متنوعة نظرة ثاقبة حول التقاطعات بين العرق والطبقة والجنس خلال الفترة الاستعمارية.
في رأيي تعد الرواية مساهمة كبيرة في الخيال التاريخي، لأنها تقدم صورة عميقة لآثار الاستعمار على كل الشعوب المقهورة. إن الاهتمام الدقيق بالتفاصيل التاريخية يسمح للقراء بفهم الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للاستعمار، ما يجعل الرواية مورداً قيماً لفهم الفروق الدقيقة في التاريخ الاستعماري.
إن "الجزيرة تحت البحر" رواية لا تروي التاريخ فحسب، بل تقاومه أيضاً. إذ تقدم حياة زاريتي وحياة العبيد الآخرين رواية مضادة للتاريخ السائد الذي كتبه المستعمرون. إذ تصور الليندي قوة العبيد ومرونتهم، وهو ما يتحدى الروايات التقليدية التي غالبًا ما تصور المستعبدين كضحايا سلبيين. وهذا أمر ليس بغريب عن الليندي، التي اختارت المنفى الطوعي أيام دكتاتورية بينوشيه، نفسها بأنها حاملة راية الحرية. والتي قالت قبل ذلك: "أي شكل من أشكال القمع والظلم يجعلني آخذ الأمر على المحمل الشخصي، ومن نافلة القول إن العبودية هي كذلك، لا بل إنها الشكل الأكثر تطرفاً. كان عليّ أن أكتب هذا الكتاب. أعتقد أن زاريتي، البطلة، ولدت من ضلعي".
في رواية "الجزيرة تحت البحر"، تتركنا إيزابيل الليندي مع زاريتي، تلك الشخصية التي تخطت حدود المعاناة الإنسانية، لتصير رمزاً للكفاح والتحرر. الرواية لا تقتصر على سرد مآسي العبودية، بل تدعونا للتفكير العميق في بشاعة الاستعمار الذي نخر عظام المجتمعات وحول الأرض الخصبة إلى ساحات قتال وجشع.
مع كل صفحة، تطل الليندي عبر نوافذ الماضي لتعكس صورة الحاضر، لتجعلنا نفكر كيف أن هذا الوحش الاستعماري بكل قسوته، وأنظمته الاستعمارية لم يكتفِ بسلب الأراضي والثروات، بل إنه سلب أيضاً الأرواح والحريات وحول الإنسان إلى سلعة تباع وتشترى.
الرواية تعد بمثابة تحية لكل نفس تأبى الخضوع، ولكل قلب قرر أن ينبض بالأمل حتى في أعتم الأزمنة. هي تذكرة بأن بشاعة الاستعمار وإن طالت، لا يمكن أن تقتل الروح الإنسانية التي تتوق دائماً للحرية والعدالة. وعبر سردية زاريتي، تمكنت الليندي من تحويل التاريخ المأساوي إلى قصيدة عن البقاء والتحدي، مُعلنةً أنه حتى في قلب الظلم الشديد، تبقى الإنسانية قادرة على معانقة النور.