Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Nov-2020

زهور الغاب (قصة عن ديوان عرار الذي لم ير النور)

 الدستور-هاشم غرايبة

 
إنّ الذي نبحث عنه طويلاً، عادةً ما يكون أقرب إلينا من أي شيء.
 
كُتب كَثيرٌ من الأبحاث والأشعار عن عرار، أما أن تُكتبَ قصةٌ عن عرار فهذه مغامرة غير محسوبة.. واستثناء لا أعرف عواقبه. ولكن، هل كان عرار إلاّ استثناء.
 
 المشهد الأول:
 
تل إربد.
 
حين داهمتُ الرّجل لأكتب عنه، كان مُنكبّاً على أوراقه يكتب الحلقة الخامسة من ترجمته لرباعيات الخيام التي يعارض بها الشاعر اللبناني أمين نخلة، وينشرها في مجلة (منيرفا) البيروتية.
 
كان عرار واثقاً من نفسه، يكتب بيده اليسرى من اليمين إلى الشمال -لا أدري لماذا أتصوّر عرار أعسرَ مع أنّ أحداً لم يقل عنه ذلك- جلال الموقف لم يمنعني من الشعور بلطافة الجو في هذا الفجر ذي النسمات الباردات والغيمات الرقيقات السارحات مبكراً قبل أن تلاحقهن شمس النهار بسياطها الذهبية.
 
أسمع خرير ماء في مكان ما.. ماء يدار في الزير.
 
هل هناك ماء؟ هل هناك زير؟
 
إنه الزير الكبير تحت شجرة التوت الكبيرة التي تحرس بوابة عرار الكبيرة.
 
العصافير تزقزق موقظة رائحة الخبز في القرية.. في المدينة.. في السجن.. في الذاكرة؟ هل كان هناك خبز أو فرن أو سجن أو قرية أو مدينة؟
 
شيء ما في داخلي كان يشكر رائحة الخبز الذي ينتمي لحوران وانسياب الماء القادم من نبع راحوب.
 
إربد تستيقظ متلألئة تحت أشعة الصباح. الأشعة التي ستمتد –مثل شعر عرار- لتشمل الأراضي الأردنية حيث تظهر بساطة الأشياء وعمقها وفقرها في آن معا..
 
أنا على قمة تل إربد سجين، وعرار على السفح رفاة.
 
قلت اسمي هاشم وأنا من قرية حوارة.
 
ابتسم وقال: أنا عرار.. الشاعر.
 
ثم غمز لي بعينه اليسرى وأنشد مرقصا حرف الراء:
 
يا هبر لا (بشرى) ولا (حوّاره)
 
يطربها عزفك بالقيثارة
 
عاد القلم يجري على الورق، قلم الكوبياء الذي تعوّد عرار أن يسوّد به ما يكتب على أمل أن يعود لنسخه بقلم الحبر السائل الذي أهداه له أمير البلاد.
 
- هذه اللحظة تذكرت أن عرار لا يعود لتصحيح أو تنقيح أو تحبير ما كتب. بل إن بعض شعره اختفى لأنه لم يهتم بتدوينه.
 
قال عرار: قلم الكوبياء يترك أثراً هادئاً على الورق لكنه لا يمحى، ولا يحتاج إلى قلم أميري ليثبته.
 
اعتذرت، وهممت بسؤاله عن ترجمته لرباعيات الخيام. لكن جلبة الحياة ارتفعت في صحن السجن، واختلط صفير صافرات الشرطة توقظ المساجين مع ضجيج المدينة الذي أيقظته الشمس.
 
كفٌّ طويلة الأنامل تُجري القلم فوق الورق ببطء محاولة نقل لغة الخيام إلى لغة عرار.
 
يحاول عرار أن يتخيل أجواء (سمرقند) النائية، فتتراقص بين أوراقه نُور الفارسية ولكن بإهاب سلمى الغجرية.
 
طفرة قلق عكّرت صفو شاعرنا، وأعادت أثر شراب الليلة الماضية صداعاً إلى مفرقه.
 
وضع القلم، أسند جبهته إلى كفه التي تكاد تتجرد إلا من العظام.
 
وراح يفكّر في لفظ يزاوج بين مفردتين: واحدة حضارية قديمة وأخرى بدائية معاصرة!
 
خلخل أنامله الطويلة في شعر جبهته وتمنى لو أنه يتقن الإنجليزية إتقانه للغة التركية والفارسية علّه يجد ضالته في ترجمة (فيتزجيرالد) لرباعيات الخيام.
 
توقف عرار عن الكتابة، وراح يتصفّح ترجمة البستاني للرباعيات، ثم تناول ترجمة التركيين حسين دانش ورضا توفيق. فلم تسعفه تلك الترجمات بما يشفي حيرته. حرك أصابعه في الهواء. تمطى. ثم تمدد على طرّاحته.
 
بعد أذان العصر، أفاق عرار مهموماً: هاتين الكلمتين المبهمتين «الوجود والفن» تبرعمتا بين شعره وشعر عمر الخيّام، ولا يجوز ترجمة ظلالهما بلا تمحيص كثير..
 
ارتفع صوت شجار في صحن السجن. أحسستُ أنّ ترجمة عرار لرباعيات الخيام التي بين يديّ تسخر مني.
 
إنّهم يتشاجرون مردّدين كلمات تبتعد عن الذوق، يحق لنا أن نصفها بأنّها الكلمات الدارجة والجارحة ويعرفها حتى الأطفال، لكننا لا نعترف بها عندما نكتب، هذا إذا استثنينا عرار.
 
أغلق عرار نافذته ليتقي ضجيج المدينة عند الغروب، أشعل السراج الذي أصدر سناه رائحة كريهة قبل أن يشكم شعلته بزجاجته التي تشبه حبة أجاص. فشع النور في الغرفة عالية السقف.
 
اتجه إلى خزانة كتبه. تناول كتاب «حمورابي قانوني» لمؤلِّفه (آورام غالانتي) ثم لملم من بين صفحاته أوراقا كان قد ترجمها عن التركية، هي شذرات وخواطر في أصول المحاكمات وعلم النفس القانوني والأنثروبولوجيا. قلّب الورقات ببطء. حدّق بواحدة منها ملياً، ثم استل قلم الحبر الذي أهداه له الأمير وكتب بخط متمهل على زاوية الورقة المكتظة بالخربشات: «ديوان زهور الغاب»- هذا الديوان الذي لم ير النور - دون أن ينتبه، وبكلمتين موازيتين بسيطتين جميلتين أورق البرعم الكامن بينه وبين عمر الخيام «زهور الغاب».
 
أعاد الأوراق إلى الخزانة. تلمّس جيب صدّارته. نظر إلى الساعة، ثم استدار ببطء ونظر في مرآة غائرة بإطار خشبي كبير.. فرأيته أسود العينين، حادَّ النظرات. ثلاثيني نحيل. غزير الشعر. ذو وجه طويل أسمر، وفم مزموم يوشك أن يقول شيئا.
 
أصخت السمع واقتربت، فاختفى السراج وعرار وزهور الغاب، وقلم الحبر الذي أهداه له الأمير.
 
 المشهد الثاني:
 
الجنوب.
 
أعبر إلى الطريق الصحراوي المتجه جنوبا في (بُكس) كحلي ماركة دوج تتقدمه سيارة مرسيدس زرقاء تصدر زامورا متوعدا، وتقدح أضواؤها بالأحمر والأزرق، وخلفنا روفر مسلحة برشاش كبير. أنظر إلى القشور الصدئة في سقف البكس الكحلي وأتساءل: كيف قطع عرار كل هذه المسافة على ظهر راحلة؟! ثم عدت لكتاب «أوراق عرار السياسية» الذي بين يدي المكلبشتين.
 
يقول عرار:
 
«كانت الصفادة والقيد ما تفتآن تنهشان مرفقي وعراقيبي، فإذا ما تململت على ظهر مطيّتي سمعت لهما صريراً كعواء الذئب الخافت، أما خيالي فكان حرّاً طليقاً.. بنشوة كنت أستعيد صوت عبد الوهاب يغني من شعر شوقي:
 
ليلي منادٍ دعا ليلى فخفّ له
 
نشوانُ في جنبات الصدر عربيد.
 
وفجأة رددت البادية صدى صوت راعيةٍ من بين شجيرات الغضا فسكت عبد الوهاب، وامتلكني صوتها:
 
يا قلب هوّن هداك اللّه
 
مالك ونطّ النبا العالي
 
صوتها مؤنس بدد الوحشة، وهزني من الأعماق، واختلط الوجود بالفن.
 
كأنما صوتها شنف آذان الجند - خُفَراء شقائي- فقرروا أن نُنيخ ونستريح.
 
هدأت سرعة الموكب الأزرق، وخفت زعيق المرسيدس. فتوقفنا أمام استراحة تفوح منها رائحة الديزل والشواء.
 
تخلّصنا من القيود، لكن رقّةُ الجند في التعامل معنا لم تبدّد الوحشة.
 
ربت على كتفي مشجعا: مازلت في مقتبل العمر مثل زهرة من زهور الغاب.
 
جاملته بشيء من شعره:
 
ازعق عساه إذا زعقت يجيب
 
فالأمر جّد، والخطوب تنوب
 
ازعق، وصح بالمغمضين على القذى
 
إنّ الأذى يا عالمين قريب
 
نظر إلي عرار بطرف عينه، وتمتم :
 
يا قلب هون هداك الله مالك ونط النبا العالي
 
قلت: يبدو أن شاعرنا ما زال عالقا بشجيرات الغضا.
 
نظف عرار حنجرته، وقال: بعض المعاني تفسد فور تفسيرها بالكلام، إن لم تُفهم بدون شرح فلن تُفهم مع الشرح.
 
ثم تنهد منشدا للرماح بن أبرد الملقب ابن مَيّادَة قارطا حرف الراء:
 
بِلادٌ بِها نِيطَتْ عليَّ تَمائِمِي
 
وقُطِّعْنَ عنِّي حينَ اَدْرَكَنِي عَقْلِي
 
أنشدت له من شعره:
 
هـبّ الهـوا وشجاك نسيمـهُ
 
في ضفـة الأردن ريح سمـوم!
 
فزمجرت سيارات الحكومة. أبرقت المرسيدس ثم أرعدت، وتحرك الموكب الأزرق باتجاه الطفيلة. غاب عرار وراحلته وخفراء شقائه. غابت شجيرات الغضا ورائحة الديزل والشواء. ولم يبقَ في البكس إلا أنا والكتاب وصدى صوت تلك البدوية السارحة.
 
يا قلب هوّن هداك اللّه
 
مالك ونطّ النبا العالي
 
 المشهد الثالث
 
المنفى.
 
وصلت سجن الطفيلة بتاريخ 31/10/ 1984.. ولما استقر بي المقام تناولت كتاب «أوراق عرار السياسة- وثائق مصطفى وهبي التل» تأليف محمد كعوش، الصادر عام 1980 عن جريدة الراي.
 
«العقبة 22/4/1921م. في هذا التاريخ سجن المحامي المجاز والمعلم المعتمد في ثانوية إربد، مصطفى وهبي ابن يوسف التل، الملقلب بـ(عرار)، ثم نفي إلى العقبة، بسبب كتاباته المناوئة للسلطة.»
 
(آب ، يستمم ناب ايستمم
 
عشقك مبي بدربكا
 
مجلخ سكاكين
 
مجلّيييييييييييييييييخ)
 
من هذا الجوال الذي يترنم بلغة عمر الخيام في هذه البلدة النائية؟
 
طلب عرار من حراسه الطيبين التوقف للتعرف على هذا المجلخ الجوال الذي يترنم بلغة عمر الخيام في هذه البلدة النائية.
 
سر المجلخ بالحديث مع رجل يعرف لغته، لكنه تفاجأ به يقف عند دولاب حجر الجلخ، ويترنم صائحا:
 
مجلخ سكاكين
 
مجلييييخ
 
وضج رفاق شقائه بالضحك.
 
يقول الكتاب الذي بين يدي:
 
أول ما استقر المقام بعرار في المبنى الطيني المشرف على البحر المسمى «القلعة» كتب:
 
«نُطلق كلمة الوجود على اللحظة الهاربة بين الماضي والمستقبل.
 
أما الفن: فهو كلّ صورة أو نغمة قد تمثل واقع الحال لكنها لا تتطابق معه، وتطير فوق الزمن والمكان رامية ظلّها على الواقع».
 
ثم كتب بخط كبير:
 
«زهور الغاب.
 
للشاعر عرار».
 
أحسّ ببعض البرودة القادمة مع نسيم مياه الخليج. شدّ أزرار سترته. أخرج سيجارة فايف دبل فايف، أشعلها بمهارة مداريا عود الثقاب بكفه النحيلة. مدّ نظره فوق بحر العقبة الهادئ، وأنشد بصوته الأخن الحنون:
 
متى يا حلوة النظرات والإيماء والخطر
 
متى أملي على الآلام والحدثان والدّهر
 
أحاديث الهوى العذري
 
من لي بأنّ أدري!
 
متى يا حلوة النظرة
 
يكف زماننا عنا ولو في عمره مرة..
 
جاءه الصدى من بين قوارب الصيادين العتيقة:
 
(آب، يستمم ناب ايستمم.
 
عشقك مبي بدربكا
 
مجلخ سكاكين
 
مجلّيييييييييييييييييخ)
 
أمسك عقب سيجارته بين الإبهام والوسطى. نقفها إلى البحر، وقال لي:
 
أول عمل سأقوم به بعد فك أسري هو شراء دولاب سَنّ السكاكين، وسأمتهن صنعة (التجليخ) في مكان لا يعرفني فيه أحد، ولا يفهم لغتي فيه أحد، وأترنّم بكل جوارحي:
 
يا قلب هوّن هداك اللّه
 
مالك ونطّ النبا العالي
 
مجليييييخ
 
مجلخ سكاكين
 
مجلّيييييييييييييخ.