Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-May-2020

علي الدميني في «خرز الوقت»: وقتٌ للماء

 القدس العربي-منصف الوهايبي

علي الدميني من شعراء العربية المعاصرين القلائل، الذين لا تُمل قراءتهم، وكل قراءة تكشف لنا ناحية في النص لم نكن قد انتبهنا إليها. ولا مسوغ لذلك سوى هذه العربية الحية، التي يجري فيها ماء الشعر. فلا تمويه أو تلبيس استعاري لا سند له من النص، على نحو ما نجد في كثير من شعرنا اليوم؛ وهو طلاء بلاغي وما تحته شبه بالشعر. وفي عمله الشعري المتميز(«خرز» الوقت الانتشار العربي، بيروت طبعة أولى 2016) نستعيد السؤال «الساذج»: كيف يكون الشاعر شاعرا؟ أو كيف يكون الشعر شعرا؟ وفي القصيدة مجازفة أو مخاطرة مردها إلى الشاعر وهو»يخرز» أي «يَخِيط» أو يكتب، في مواجهة شيء ما لا يفهمه وهو يتشكل، ولا يعرفه وهو مجهول القصيدة الخاص. ثم يكتشف وقد «اكتملت» القصيدة أنها ذاته وهي تنبني، وأن النص أو هذا «النسيج» مجازفة محسوبة منه. ولذلك احتفظت لكلمة «خرز» بعلامة التنصيص، كما هي في الغلاف وفي عنوان القصيدة الثانية، أي كما أراد لها الشاعر، حصرا لها وتمييزا، أو لاجتذاب الانتباه إليها، على ما أرجح فـ»الخرْز» بتسكين الراء خياطة الأدم، حيث كل كُتْبة فيه خرزة؛ وهذا العمل كتابة شعرية خالصة، أو ربما كان تحفظا من الشاعر في استخدامها كما يحق لغيري أن يرى استئناسا بقولهم، إن الخرز فصوص من جيد الجوهر ورديئه من الحجارة ونحوه، أو هي رمز خاص به أو ذكرى ما.
أما السؤال الذي طرحته، فأحب أن لا أتعجل الجواب عنه، وإنما أوطئ السبيل إليه، وهذا كتاب شعري بالمعنى العميق لكلمة كتاب، حيث كل نص هو «خرْزة» أو «إرداف» بالمعنى الحديث الذي نعرف به التعبير الكنائي في حدنا لعبارة عبد القاهر الجرجاني الشهيرة «معنى المعنى» أو كما في هذا الكتاب «شفتانِ للمعنى/ وللمعنى معانٍ عدةٌ/ وليَ احتمالي»؛ وليس مجموعة أو ديوانا يحوي قصائد متفرقة أو لا رابط بينها. وتخيره كلمة «الوقت» بدل الزمن أو الزمان وهو اسم لقليل الوقت وكثيره، ويقع على الفصل من فصول السنة، وعلى المدة بعينها، يناسب هذا العمل عند شاعر متضلع من مادة نصه، بصير بلغته. والوقت مقدارٌ من الزمانِ، أو هو حين مؤقت. ومن لطائف العربية أنه أَكثر ما يُستعمل في الماضي، وإن كان يستعمل في المستقبل أيضا؛ وألطف من هذا كله أن لفظ الوقت يستعمل في المكان تشبيها بالوقت في الزمان؛ لأنه مقدار منه على نحو ما سوغوا به هذه المراوحة التي تذكرني بمقالة ابن عربي في أن «الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد». ولها سند في قولهم «أزمَنَ بالمكان» أي أقام بها زمانا، وفي استعمالاتهم لكلمة «ميقات» فهي تطلق على الوقت المضروب للفعل مثلما تطلق على المكان أو الموضع. وقد ميزوا الزمان من الدهر الذي لا ينقطع، وجعلوه أزمنة فقالوا زمانُ الرطَب والفاكهة وزمانُ الحر والبرد وما إليها، بل جعلوه رديف الحياة، كما في قول النبي لعجوز:» كانت تأْتينا أَزْمانَ خديجة» أي حياتها.
خرز الوقت في هذا الكتاب هو خرز المكان أيضا، من فاتحته «تمثال الماء» إلى خاتمته «استعارات رعوية» أو هو زمان «الخرز» وموضعه. وهي قصائد تنضوي كلها إلى نسق شعري جامع يحفظ صورها وأشكالها، ويرسم وظائفها «شِرْعة ومنهاجا». وأنا أستعمل كلمة «شرعة» و«منهاج» في هذا السياق لا بالمعنى القرآني في سورة المائدة (الآية 48) أي السبيل والسنة، وإنما في معناها «الأصلي» أو»دلالة المطابقة» أي الماء الكثير من نهر أو وادٍ، والطريق إلى الماء. على إقراري بأن مقولات الأصل والفرع متهافتة، ولا سند لها في الشعر واللغة، خاصة أن النص الشعري ينشأ «قرائيا» أو «مؤولا»؛ واللغة استعارات ومجازات «بها نحيا»، وضرب من ضروب التخييل أو»الإخبار غير المألوف». وهذه القصائد وهي ثمرة اجتهاد شعري شخصي، تتحدر كلها من غمام واحد؛ لكن لا شيء فيها يتكرر. وبما أن هذا المقترب ليس عرضا للكتاب، وإنما هو «مدخل» إلى قراءته، فلست أجد أفضل من «صورة الماء» فيه، وهي تتقلب في أطوار عدة، يتصرف فيها الشاعر بمهارة؛ ويحتشد لها بثقافته الرحبة من الشعر والقرآن والمأثور، ومن تجربته الخاصة حيث ظهورها هو حجابها في الآن ذاته:
«سلاما.. سلاما: لغةٍ تترقرقُ كالماءِ/ تُشربُ والماءَ/ تنحتُ أعرافها في مسيلِ الزمانْ.
«قد كنتُ مكتفيًا بحُمائي/ وما سلنا إلى الوديانِ/ كالمطرِ الذي طربتْ له الساحاتُ/ والطرقاتُ/ منحدرًا إلى ظمأ الحقولِ/ وشاحباتِ اللوزِ والشيحِ اليماني».
ولا أجد أفضل من قول بول ريكور في التعقيب على هذه الشذرات:»لا يغير الإنسان ما بوجوده، حتى يغير ما بخياله» (ترجمتي). وللشعر كما للشعراء ماء غير هذا الماء الذي نستهلكه اليوم ونستعمله، ولا نعيشه. وكان الماء عندهم ولا يزال، في كل نهر أو نبع، تسكنه حورياته «إلهة الماء». وشبيه بهذا قصيدته الفاتحة «تمثال الماء» فهي صورة أخرى من مغتسلة أبي نواس، حيث يكتسب الماء صفات فيكون له لون وطعم ورائحة:
« الماءُ/ هل كان الكلامُ يُجيدُ وصفَ الماء، حين يفر من معناهُ، عريانًا نحيلا، دونما صفةٍ/ ولا لغةٍ ولا أسماءْ»
«قد كنتُ أعرفها/ وأهجسُ أنها ماءٌ بلا أكوابْ»
«قد كنتُ أعرفها/ فكيف غدوتُ فنجانا لقهوتها/ وصرتُ ــ لمائها ــ الأكوابْ»
«وأنا الكثيرُ على ثيابِ الوقتِ/ أوجاعي سحاب هاطلٌ في الريح»
«وأنا الذي ما زال صدري عاريًا كالماءِ/ تسبحُ فيه عاشقةٌ/ وتخرجُ منه عاشقةٌ/ ويطربهُ النزالُ»
«لو كان لي «مطرٌ»، وكانت لي «محيطاتٌ»، و«ربانٌ»/ لسقتُ البحر للصحراءِ/
«سأصب في قدحي قليلا من ندى الكلماتِ/ كي أنسى/ وأسألها لتطرد غيمةً سوداءَ قرب الكف/ من حرفي، ومن وجع العناقِ»
«شهدًا أنينُ الكأس حين ملأتهُ بالصوتِ/ وانحدرتْ وعولُ أصابعي للماءِ/ كان النهرُ مبتسما/ وكنتُ أسيلُ نحو البابِ/
«لها شجرٌ يستظل به العابرون/ و«أم» يسيل عل فجرها مطرُ الصيفِ…»
أو في مرثيته لشقيقه «مسفر» أو في:
«أحب من الموتِ «أسفارهُ» مثلما الشمسُ/ ترحلُ دون موافقةِ الجنرال لها بالسفرْ/ وأعشقُ أنهارها، إذ تسيلُ على فاتناتِ القرى/ في المغيبِ كأغنيةٍ من رذاذِ المطرْ».
يتسلل الماء ملتبسا مترددا في هذه القصائد أو الصور المائية، وكأنه ماء ما قبل الخليقة، كما في الكتب الدينية المقدسة كلها، حيث هو والروح الإلهي يتواصلان أو يتناديان، وهما في طريقهما إلى نظام جواهر الأشياء، أو «خرزها» ووضوحها. فلا غرابة أن يكون لقصيدة الدميني شكل الماء «المضيء/ المعتم»، أو «الحلم» وهو يحتاج إلى الماء كما يقول باشلار حاجة الشاعر إليه. والمتخيل الشعري، يجمع الماء إلى دورة الحياة الإنسانية: الولادة والموت حيث الماء هو الأم وتهويدتها، وتهليلتها لتنويم طفلها؛ وهو المسافر أو شبيه الطيور القواطع؛ مثلما هو «المغرق»، أي ساكن الشواطئ الذي يحتال لإغراق السفن. وهو المخادع الأعظم أو المسخُ نفسه أو الاستحالة أو التغير مظهرا وصفة وظروفا. وما يزعمه البعض من أن الماء يقدح في الشعراء صورا متشابهة، كما قرأت في كتاب فرنسي عن الشعراء والماء، قول غير دقيق، حتى لو سوغنا القول إن الطريق إلى الشعر واحد؛ فوجوهه إنما تختلف باختلاف أحوال سالكيه من الشعراء.
إن لفظ «الماء في هذا الكتاب الشعري، لفظ مموه إذ يمكن أن يحمل على كل ما يحسن منظره وموقعه ويعظم قدره ومحله، فتقول ماء الوجه وماء الثياب وماء السيف وماء الحياة وماء النعيم… مثلما يمكن أن تحمل دلالته على «الرنق» أي الماء إذا اختلط فيه الطين أو التراب أو القذى وغيره وعلاه الطحلب ونحوه، فتكدر ومال إلى السواد والغبرة. هذه الدلالة هي الأقرب إلى صورة الموت أو الطوفان أو الخراب مثل خراب سد مأرب.
فليس للماء إذن حقيقة محددة، وغير دقيق ما يقوله البعض من أن دلالته لا تخرج عن الرونق. فهذه الدلالة إنما مأتاها الشعر وما استتب في مخيال العرب من رموز الماء «الرائق الخالص الذي لم ينقلب في نفسه ولا عرض له ما يقلبه» بعبارة الجاحظ. وهذا ونحوه يرسم صورا للماء رجراجة مضطربة، فهو في بعضها يسيل ويتفرق، أو يدور في باطن العين دون أن يجري، وهو في بعضها الآخر ينضم ويتألف حتى ليخيل إلينا أنه متحرك وهو ساكن أو ساكن وهو متحرك. وربما لا تفسير لذلك سوى الماء نفسه، فهو لا يحمل في ذاته لونا ولا شكلا؛ ولذا تنعكس فيه صور شتى ولو كان له لون وشكل، لما أمكن أن يعكس أي صورة.