Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-Sep-2020

المقامــــة الليفيـــة

 الدستور-نايف النوايسة

يقول ممرور بن مسرور: قلقتُ ذات ليلة وفارق النوم عيوني، ذلك لأنني تذكرت صديقي النصّات إذ لم أره منذ ستة أيام، وقد بحثتُ عنه في السكك والزنقات والأزقة والدّخلات والأودية ووراء الآكام.
وصرت أتساءل في كل حين، وأُنا أرسل الزفرات والأنين، أهو حيّ يُرزق أرجو عودته، أم ميتٌ ابتلعه التراب وطوته السنين؟! وحالي كحال الشاعر الذي يقول:
أنـــا فــي بعـــدك مفقـــود الهـــــدى
ضائع أهفو إلى نور كريــم
أشتري الأحلام في سوق المُنى
وأبيع العمر في سوق الهموم
ذات صباح انطلقت من داري مبكراً، وجلست في مربعة السوق مترقباً متلدداً متوترا، ولا يقرع ذهني إلاّ ذكرى صديقي ابن اللقلاق، سيد المشي وسلطان الأسواق، تسبقه عربته وعربدته وتميزه ضحكته وكركرته وقهقته، ليس كمثله إنسان لا في عالم الإنس ولا عالم الجان، ويستخفي حتى تظنه لم يكن وما كان، وفي لحظة كومضة البرق يخرج من قمقمه كجن سليمان. ولا أقول فيه إلاّ ما قال الشاعر:
صَديقٌ لي سأذكُرُهُ بخيرٍ
وَأعرِفُ كُنهَ باطِنِهِ الخَبيثَا
ويقول ابن مسرور: مللت وتململت حتى ملّت مني المربعة وعزمت على الذهاب، فالشمس تصب حرّها في عيني بلا حساب، وحين نهضت واقفا،ومسحت الأسواق بعيني كاشفاً، رأيت النصّات ينقذف كالشهابمن زاوية قصية، وكأنه حلم عابر يُداهمك من عوالم غامضة خفية؛ فتريّثت فرحاً، وقلت: لعله الهدهد يحملمن سبأٍ نبأ، ثم دنا ودنا ولم يُخفِ وجهه سرّه وما درأ.
ويصف ابن مسرور هذه اللحظة منشرح الصدر، باسماً طلق المحيا بعد كدر: دنا النصّات واقترب، وبات منه أقرب من رعشة القلب، وكان يضحك تارة ويصْفق كفاً بكف تارات، ويردد بلا إحجام ووقفات: جيب الليف حط الليف، ما أعظمك يا الله الخبير اللطيف.
يقول ممرور بن مسرور: جيب الليف حط الليف، جسر يحملنا إلى عالم من السواليف، انتصارات وهزائم وفساد وخيانات وبيع أوطان وتخاريف.
ركّزت عينيَ بعيني النصات، وكان يراني، ويتكلم من رمشيه وليس من شفتيه، فقلت في نفسي: يا نصات، أعرفك مولعاً بغريب المفاجآت، فهل عاد للأمة عزُّها المفقود، واستُرجعت فلسطين من اليهود؟
قال مبتسماً وكأنه يحدّث شخصاً آخر: جيب الليف حط الليف، هذا الولد الذي اسمه مصطفى بن طريف، عاد إلى بلدته بعد غياب وسمعت أنه صار موظفاً مرموقا في مكان مُهاب، هذا الولد يلبس بذلة أنيقة، ويمشي مشية واثقة رشيقة، ولسان حاله يقول: (يا أرض انهدّي ما عليك قدي)،فلاقاه التاجر(أبو جلدة) وعزمه، أي دعاه إلى داره ليكرمه.
يقول ممرور بن مسرور: ويقهقه النصات بلا توقف، حتى سالت دموعه على خديه بلا تكلف.
فوجئ ابن مسرور من حركات صديقه العجيب وكأنه ثَمِلٌ ووقع عليه قولالشاعر:
راح إذا ما الليل مد رواقه
لاحت تطرز حلة الظلمـــــاء
حتى إذا مزجت أراك حبابها
زهرات أرض أو نجوم سماء
وشدّني المشدوه إلى حكاية التاجر(أبو جلدة) مع مصطفى، واحتفيت بكلامه كأنه الإبريز المصفّى، ودنوت منه أكثر حتى لفحتني أنفاسه، وتبينتُ حلقه ولسانه وأضراسه.
يقول ابن لقلاق في ما يروي عنه ابن مسرور: جيب الليف حط الليف، لقد حيّا مصطفى والدته وقبلها، وحدثها بأمر العزومة، وهي مستغربة من أبي جلدة وغير مهضومة، فزغردت الأم زغرودة استغراب، وقال لها بالحرف الواحد: أنا مدعوٌّ للغداء عند أبي جلدة، لقد خرج لي من أحد الأزقةكفراشة مرتعدة، وحين رآني ببزتي هذه أمسك بتلابيبي وتلمس رأسي وظهري وطبطب على جيوبي، وقال مادحاً: عفارم! أنت ضيفي يا ابن أخي الغانم، فرفضت لكوني أعرف من بخله ما يملأ الدفاتر، ولم يكن له في الحارة من صيق ولا ناصر، فرمى الطلاق على حرمته المسكينة إن لم أوافق، وظل يلازمني كظلي ولم يُفارق، فوافقت مضطراً، واستأذنته لأراك وأرى أبي قبل الغداء، فاستغربت أمه الأمر من أساسه، فعزمت على أن تعرف الحدث من (رأسه لساسه) فهرولت أمه إلى حوش أبي جلدة لتستطلع الأنباء، ولعلها تسمع خُواراً أو ثغاء، وتذكّر مصطفى القول المفيدالذي ينطبق على حالة والدته (الفضول الذي قتل القطة)، فسألها مستغرباً: ماذا تفعلين؟ قالت: أريد أن أرى دم الذبيحة، لن أهدأ حتى أقف على عين الحقيقة الصريحة؛ وتتساءل باستغراب واستنكار: أبو جلدة يعزم وبيته ما عرف (الهليمة) ولا النطيحة؟! وسكتت حين جاء أبو مصطفى مهرولا، فعانق ابنه وسأله فورا: هل المعلومة صحيحة؟
يقول بن مسرور من رصده الفوري للحالة: إن ابن لقلاق اهتم للأمر وسمع مصطفى يردد على مسامع والديه:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال لهما وهو يبتعد قليلاً: أظن الرجل بات منتظرا، ثم تفارقوا وعلى لسان الوالدين: لنرى.
قال ابن لقلاق: جيب الليف حط الليف، اخترق مصطفى الحوش الكبير كالسهم المُريش اللطيف، ودنا من البئر العتيدة، وكان يتشمم الهواء كالقطط الجائعة الطريدة، فقال في نفسه: لعل طعام القوم بلا رائحة، أو أن أبا جلدة تكتّم على الأمر حتى لا يُستدل إلى داره من طبخته الفائحة!!
همس ابن لقلاق في أذن مصطفى ساخراَ: وكأنك تُعزّي نفسك يا شاطر، هيّا اقترب من باب الدار وغامر، واقترب مصطفى وقرع الباب عدة قرعات، وانفتح، وداهمته عيون العائلة، الأولاد والبنات والزوجة التي بدت متسائلة، ثم قالت: تفضل يا ابني.
يقول ابن لقلاق: فبادرهم مصطفى ليقطع الشك باليقين، لاقاني عمي أبو جلدة قبل حين، ودعاني إلى الغداء فتلوّن وجه أم العيال وعقدت ما بين عينيها ورشح من لسانها: فضيحة نكراء. وواصل مصطفى: وألح في الدعوة وأكدها بالطلاق، فغشاها همٌّ من فوقه غمّ وأحست بالاختناق.
يقول ممرور بن مسرور: وإني لأحس الغم أصابني وأصاب ابن لقلاق من هذه الداهية الدهياء والمصيبة العمياء، حاصل الأمر أنها دعته للجلوس وهمست في أذن ابنهان فخرج مسرعاً.
يقول ابن مسرور في هذه اللحظة بالذات دنوت من ابن لقلاق الكامن في الحوش ويرى ويسمع من وراء جدار، ويرقب ما يجري مثل بومة أو ضفدع يتشمم الأخبار،أما من في الحوش فجميعهم ينتظرون، وعين مصطفى من الفضول صارت عيون.
وعلى حين غرّة التفت ابن لقلاق لما شملته أنفاسي، في هذه اللحظة ينقذف أبو جلدة من الباب مسرعاً ومعه علبة (بلابيف)، فرفع النصات صوته: يا حبيبي جيب الليف حط الليف، أبو جلده يذبح لضيفه علبة بلابيف..
يقول ابن مسرور: دنا النصات واقترب واستطالت أذناه وعنقه ودارت عيناه في كل اتجاه مثل لعبة من اللعب وقال: أعطى أبو جلدة العلبة لأم العيال واعتذر لمصطفى من انشغاله عنه بسبب السوق، وماذا سيقول مصطفى بعد قول الشاعر:
فإن تجمع الآفاتِ فالبخل شرها
وشر من البخل المواعيد والمطل
وقال ابن مسرور: وتتسارع اللحظات والأحداث حين قفز ابن النصات وصار قاب نظرتين من المطبخ ليرى كيف تنتهي فصول الحكاية ويصرخ ابن لقلاق بتلذذ: فاحت رائحة الطعام وطافت على وجوه الصغار فراشات الابتسام، ويقول: لكن أم العيال كانت تكتم جرحاً لا برء منه ولا إبلال، فرددت: يا سويد الوجه (تِعزم الزلمة) على علبة بلابيف، وأنت صاحب المال والأطيان، يا حيف عليك يا حيف، وغنت من قصيدة بدوية موجعة:
ربي بلاني بعريض كتوف والزين ما دبره حظي
بعد حين وَفْق ما يقيد ابن لقلاق، حُمل الطبق البائس ووضُع أمام مصطفى، فمدّ يده فوجد ما فيه قد اختفى، يا إلهي عشرة أيدٍ جعلت الطبق كالصفا، ولحس مصطفى أصابعه وكأنه أكل، وعينا أم العيال تترامشان من الخجل، وكان الموقف صعباً وحاسما وما أصدق هذا القول فيه: (المواقف هي خريف العلاقات يتساقط منها المزيفون كأوراق الشجر).
دنا ابن مسرور من ابن لقلاق حتى صارا كلاً واحداً ورددا: جيب الليف حط الليف، بالنتيجة قام مصطفى وودّع الجميع، ولحقه الأطفال إلى مشارف الشارع للتوديع، وفي عينيه أسف شديد من سطوة هذا البخيل المقتر الرعديد، وابتسم للأطفال الأبرياء، وهو يردد: أعانكم الله على هذا الشقاء.
ومثل ومضة البرق كان النصات بجوار أم مصطفى ليرى وقع الخبر عليها، فبادرت ابنها باسمة: أرى الشبع يطل من عينيك ورائحة الزفر عالقة بهدومك ويديك، فقال ضاحكاً، وساخراً ومماحكاً: ذبيحة ما بعده ذبيحة، وصلني ثغاؤها من داخل الصفيحة، لا تجدينها عند لحّام، ولا في حضيرة أغنام، وصكّت أمه وجهها وقالت: أهي حزيرة؟ قال: لا والله يا أماه، اطمئني ليس هناك عنز ولا شاه، فقالت: ما الأمر إذاً؟ فقال بوجيز العبارة: علبة بلابيف.
قال ممرور بن مسرور: رأيت النصات، يعاين الأم من كل الجهات، فقال: جيب الليف حط الليف، وأطلقت أم مصطفى ضحكة مجلجلة ورددت بتهكم: علبة بلابيف!! هيّا يا بني طبخت لك أحلى مجللة..
يقول ممرور بن مسرور: اختفى الجميع وراء الباب، وجهّز النصات رجليه للانسحاب، وراح يبحث عن عربته، فوجد أبا جلدة يحاول تفكيكها بعد أن عجز عن تحريكها، ليبيعها لـ(صياد الحلوين)، فانتهره قائلاً: يا قليل الناموس والدين ابعد يدك عنها وأنت من عزم ضيفه على علبة بلابيف وعينك على عربتي؟
يقول ابن مسرور: جيب الليف حط الليف، وكان آخر عهدي بالنصات بن لقلاق، أنه أخذ عربته وبلعته الآفاق، ولم تره عيني بعدها لا في بحر ولا سماء ولا زقاق.
اختفى النصّات وكأنه ما كان يا أسفي عليه.