Tuesday 10th of December 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-Sep-2024

من يتقن أربعًا وأربعين لغة... فريدريش روكرت

 الدستور-زياد صالح الزعبي/ جامعة اليرموك

 
فريدريش روكرت Friedrich Rueckert (1788- 1866) شاعر ومترجم ومستشرق ألماني شهير عرف بعبقرتيه في دراسة اللغات وإتقانها، فسيرته المجمع عليها تظهر إتقانه أربعا وأربعين لغة، منها العربية والفارسية واللاتينية والفرنسية والهندية والتركية والعبرية والأفغانية والتاميلية...الخ، وقد ترجم من هذه اللغات عددا كبير من النصوص ترجمة إبداعية مدهشة، كانت موضع ثناء وتقريض الباحثين في عصره وبعد عصره. ومما يجب ذكره هنا أن روكرت حصل على الدكتوراه في الفلسفة في جامعة ينا عام 1811 وله من العمر ثلاثة وعشرون عاما، وكانت أطروحته عن فلسفة اللغة، وقد كتبها باللغة اللاتينية.
 
لقد عاش روكرت في الفترة التي كان فيها غوته في أوج نشاطه وإنتاجه، وكان همر فون بورغشتال يقدم ترجماته الضخمة عن الأدب العربي وتاريخه، وترجماته الواسعة من اللغة الفارسية، وبخاصة ديوان حافظ الشيرازي الذي ترك آثارا كبيرة على غوته الذي كتب « الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» بتأثير غير محدود من حافظ الشيرازي. وكان روكرت على صلة بغوته وبهمر، وأفاد منهما، بل إن كتب قصائده المعروفة بـ « ورود شرقية» باعتماد كبير على الأدب الشرقي بعامة، وعلى الأدب الفارسي بخاصة.
 
لقد كان روكرت على اتصال بالمستشرق همر- فون بورغشتال Hammer vonPurgstall بدءا من عام 1818 ، وهو ما ممثل عنصرا حاسما في تحفيزه للاهتمام باللغة العربية وآدابها، وأيضا باللغة الفارسية، ذلك أن همر فون بورغشتال أنتج « في مجال الدراسات العربية ما يزيد عما أنتجه أي عالم آخر في القرن التاسع عشر»، وهنا نذكر كتابه الضخم تاريخ الأدب العربي (Arabische Literaurgeschichte ) الذي جاء في سبعة مجلدات، عدا عن ترجماته العديدة لنصوص شعرية لابن الفارض والمتنبي ومجموعات من الأمثال العربية. كما كان لاطلاع روكرت على عمل غوته الكبير الديوان الشرقي دور كبير في كتابة مجموعته الشعرية ورود شرقية ( oestlische Rosen) التي كانت نظيرا لعمل غوته في اقتفاء الغزليات الفارسية، والتي مثلت الدور المحوري لروكرت في نشأة الغزليات الألمانية التي شهدت انتشارا واسعا في القرن التاسع عشر ، برز في عشرات النصوص والمجموعات الشعرية التي تحمل عنوان الغزل أو الغزليات. وهو ما تظهره دراسات آنماري شيمل، وغريغور شولر، وعلى نحو أكبر دراسات هارتموت بوبزن. ويمكن في هذا السياق، ولمزيد من المعلومات العودة إلى الكتاب الضخم المؤلف من مجلدين والمعنون « الغزل أدبا عالميا» والمنشور عام 1995 باللغتين الألمانية والإنجليزية. Ghazal as World Literature
 
كانت الفترة التي عاش فيها روكرت مثقلة بالحروب والصراعات في أوروبا، فقد شهد جيش بابليون وهو يهزم الجيش البروسي في معركة ينا عام 1806، المدينة التي حصل في جامعتها على درجة الدكتوراه. ونشر عام 1815 مسرحية كوميدية بعنوان « نابليون كوميديا سياسية». وشهد في ذلك الوقت انتهاء حكم نابليون ونفيه. هذه المرحلة التي حكمتها أدبيا الحركة الرومانسية، وواقعا حروب طاحنة، مما دفع غوته صديق روكرت إلى البحث عن ملجأ خيالي في الشرق، تمثل في قصيدته الأولى في الديوان الشرقي المعنونة «هجرة» بسبب الحروب المستعرة في أوروبا.
 
سأخصص حديثي هنا لترجمات روكرت من اللغة العربية إلى الألمانية، وهي ترجمات عديدة متنوعة، بعضها يرتبط بالجانب الديني، وهو ما يظهر في ترجمة أجزاء من القرآن الكريم، وبعضها شعري، فقد عمد روكرت إلى ترجمة نصوص من الشعر الجاهلي، المعلقات بخاصة، أشهرها نصوص امرئ القيس الذي احتفى به روكرت احتفاء كبيرا، ونشر أول نصوصه عنه عام 1815. ونشر عام 1848 «مختارات من سيرة عنترة «. كما ترجم روكرت حماسة أبي تمام بكاملها التي ظهرت في شتوتغارت عام 1846في مجلدين، وهناك أيضا ترجمة لنماذج من الشعر الجاهلي والعباسي. وهذا الإنجاز الاستثنائي جعل من روكرت نموذجا متفردا بما امتلك من قدرات، وبما حقق من إنجازات ما زالت حاضرة في أطر الثقافة الألمانية المختلفة التي ما فتئت تقرأ نصوصه الشعرية وترجماته الكثيرة المتعددة المنابع. وهذا يظهر مدى انشغال روكرت بالأدب العربي وترجماته عنه؛ ويبين عن عمق معرفته بالعربية وأدبها، وهي معرفة عميقة تدل عليها النصوص العربية التي ترجمها والتي تغطي الحقول الدينية والشعرية والنثرية على نحو مثير للاهتمام، كما تظهر مقدرته اللغوية الفذة التي مكنته من ألمنة كثير من هذه النصوص، فقد جعل الكثير منها نصوصا ذات طابع ألماني من خلال عمليات مضاهاة النصوص الأصلية ومنحها رداء ألمانيا لغة وفكرا.
 
ومن أبرز ترجماته مقامات الحريري التي ظهرت في الأدب الألماني بعنوان « تحولات أبي زيد السروجي» ) Die Verwandlungen des Ebu Seid von Serug)، وغدت نموذجا فذا في الأدب الألماني، إذ احتفظت الترجمة بكل الألعاب اللغوية التي يتضمنها الأصل من جناس وطباق ومقابلة وغيرها، ولم تكن هذه الترجمة موجهة إلى المستشرقين ، بل إلى المثقفين المهتمين، كما تقول آنماري شيمل التي تذهب بعيدا فتصف عمل روكرت في المقامات بالقول « إذا كانت المقامات في أصلها العربي أعظم عمل لغوي في اللغة العربية، فإن ترجمتها الفنية هي بلا شك أعجب ما يمكن أن يجري به قلم في اللغة الألمانية..» ( آنماري شيمل الإحاطة بالأدب العربي في الأدب الكلاسيكي والرومانتيكي الألماني ص172، ترجمة مصطفى ماهر، ضمن كتاب ألمانيا والعالم العربي 1974).
 
ومن النصوص الشهيرة قصيدة Chidher» «خضر التي تحيل» تلقائيا» على النص الديني الشهير في القرآن الكريم، وعلى سلسلة النصوص القصصية المقترنة به في سياقات مختلفة، وكذلك على النصوص في الديانات الأخرى، عدا عن عشرات النصوص الشعرية والنثرية التي تستحضر قصة الخضر على أنحاء متعددة وفي سياقات مختلفة. وشخصية الخضر وما يتعلق بها من قصص وحكايات قارة في الوجدان الشعبي الإسلامي على نحو عميق.
 
وقصيدة روكرت تستعيد إحدى الحكايات المتعلقة بسياحة الخضر في البلاد مقترنة بصفة» الخلود» التي تمنحها لها الحكايات المتكررة في الثقافة الإسلامية بخاصة. فالثعالبي يرى أن السبب « في امتداد عمره وتأخر يومه، والعلة في خلوده واتصال حياته، أنه كان على مقدمة ذي القرنين، ثم اقتحم الظلمات طالبا فيها عين الحياة، التي من جرع من مائها جرعة عاش مخلدا، ولم يذق الموت ابدا. قالوا : فبينما هم بين أطباق الظلمات ، وجو لا تتخلله الأنوار، إذ هجم الخضر على تلك العين، فشرب منها حتى اكتفى...»
 
نشر روكرت قصيدته «خضر» أول مرة عام 1824 تحت عنوان « Kazwini’s Parabel vom Kreislauf der irdischen Dinge» في مجلة « Morgenblatt fuer Gebildete Staende. Nr.35 vom 10 Februar 1824 .» ، ثم نشرت بعد هذا غير مرة في غير مكان، منها ما جاء في إطار أعمال روكرت نفسه، ومنها ما جاء في سياق المختارات من الأدب الألماني ( انظر مثلا Lieder Deutscher Dichter ). والأمر اللافت هنا أن النشرة تضمنت الإشارة إلى المصدر الذي اعتمد عليه في بناء نصه، وهو الحكاية النثرية التي أوردها القزويني في كتابه « عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات». وقد ظهرت هذه الحكاية مترجمة ابتداء في مجموعة «مختارات عربية» Cherstoathie arab التي نشرها سلفستر دي ساسي في عام 1806 مع ترجمتها إلى الفرنسية. وحكاية الخضر موجودة في الجزء الثالث .
 
إن العمل الذي قام به روكرت ومعاصروه في القرن التاسع عشر يمثل عملية ثقافية كبرى تتمثل في ترجمة عدد ضخم من النصوص العربية إلى اللغة الألمانية، وهي نصوص تركت أثرا واسعا في الثقافة المستقبلة في مستويات عديدة، وبخاصة في المستوى الإبداعي والفكري، وتجلى حضور النصوص العربية في عدد كبير من الأعمال الأدبية الألمانية الشعرية والنثرية والفكرية. إن عملية تتبعها على نحو استقصائي يحتاج إلى فرق بحث مختصة تعرف التراث العربي معرفة جذرية عميقة، وتتقن اللغة الألمانية اتقانا يمكنها من الكشف عن الحضور العربي في الأدب الألماني في القرن التاسع عشر كشفا يتمثل في صورة « هجرة خلف النصوص المهاجرة»، أو النصوص المتبناة في غير صورة، بعضها نعرف أصوله ومساربه، وبعضه دون أصول أو إشارات إلى أصوله ومنابعه. وهذا عمل لو يعلمون عظيم.
 
أرفق النص الشعري الغزلي الآتي لروكرت، وقد احتفظت في ترجمتي للنص بالقافية الألمانية
 
التي تمثلت في تكرار كلمتي « الروح وتمجدك». وهو نموذج للشعر الذي تظهر فيه الطوابع الشرقية:
 
تسيرين على الأرض وأنت للأرض الروح
 
الأرض لا تعرفك ولكنها بزهرها تمجدك
 
تستيقظين مع الشمس وأنت للشمس الروح
 
الشمس لا تعرفك ولكنها بشعاعها تمجدك
 
تهبين مع النسيم وأنت للنسيم الروح
 
النسيم لا يعرفك ولكنه بأنفاسه يمجدك
 
تسيرين على الماء وأنت للماء الروح
 
الماء لا يعرفك ولكنه بخريره يمجدك
 
تسكنين في القلب وأنت للقلب الروح
 
والقلب يعرفك وبالحب يمجدك.