Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    30-Oct-2020

«حافيا تحت مطر الياسمين».. آفاق الرصف ومعارج الوصف

 الدستور-محمود البنا

تنطوي الكتابةُ على مغامرةٍ حاميةِ الوطيسِ؛ وحربٍ بين الصمتِ والصوتِ؛ ومفارقةٍ بين البوحِ والبُحّةِ. إنها القُدرةُ الكامنةُ التي تتجلى لحظةَ التقاء الحبر مع السّطر؛ إنه لقاءٌ يتسمُ بالخلودِ؛ عندَ أولِ حرفٍ يُكتَبُ. كنتُ أقولُ ماضيَ الزمنِ: «الكتابةُ محاولةٌ ناجعةٌ للتخلص من الكآبةِ». الكتابةُ كذلك خروجٌ من مأزق الحَيرة؛ هكذا: نصنعُ من الفكر سؤالا، يصبحُ السؤال فكرةً، ثم تصبحُ نصًّا، نصًّا لا يحتملُ إجابة واحدة، لا يحتاجُ إلى إجابة، بمعنى أدقَّ. «حافيًا تحت مطر الياسمين»: نحن أمام عتبة ملتبسة ومتشابكة: هيئة «حافيًا»، مكان «تحت»، مُكَوَّن «مطر»، كينونة «الياسمين». الكلمة المعرفة بين هذه الكلمات هي «الياسمين» والتعريف هنا لا يُزيلُ شغفَ التأويل، ولا يوصلنا إلى حَتْمٍ نهائيٍّ؛ إنما هو تعريف يقود إلى أفق لا ينتهي، ونوافذ للمعنى تنفتحُ بشكلٍ مستمرٍّ. الابتداءُ بالحال هنا، تقديمٌ يقوم على دلالة عميقةٍ جدًّا: منح الأهمية للهيئة التي نبتدئ بها؛ وهي دلالة لغوية، وهناك إشارةٌ دينية يحملها اللفظ، فالأماكنُ المقدسة لا يمكننا الدخول إليها سوى بأقدام حافية: «فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى». وما دمنا في سياق العتبات؛ فالعناوين التي في الكتاب لا تقلُّ أهميَّةً عن المتون التي تندرجُ تحتها؛ إنها مترابطةٌ بشكل ذي دهشةٍ لافتة؛ فـ «على مدخل الفكرةِ» نجدُ طيفًا شاخصًا في أفق الصفحةِ إلى «كلّ الأشياء تبدأ ساخنة» نلمح «اللا مرئيّة» وبين «الطيف» و»اللا مرئي» تجانسٌ عظيمٌ جدا ينبئنا أن هذه العتباتِ هي بيوتٌ في الحقيقةِ؛ فلو ربطنا العناوين الرئيسةَ بعضها ببعض لتكونت لدينا جملة ذات بعد عميقٍ جدًّا؛ إذ بإمكاننا القولُ: على مَدخل الفكرةِ، ههنا الآنَ، قبلَ النسيانِ، كلُّ الأشياءِ تبدأ ساخنةً. إنها جملة متكاملة ذات معنى ينبني تحتها الكتاب بكليِّته؛ إنه مدخل يأنفُ النسيانَ وينتفي فيه الزمن لا في الماضي ولا الآتي، بل الآن: الوقت في الدرجة صفر. تبدأ الأشياءُ كلُّها ساخنةً مشتعلةً متأججة متفجرةً؛ فكأنها ثورةٌ عميقةُ الأثرِ، راسخةُ الخُطى. حتى لو تعمّقنا أكثرَ، وما دمنا داخلَ نطاق العتباتِ، فإننا نجدها ذات مساحة نصية متباينة، كأنها تقومُ على النفَسِ في نطقها؛ ضمن عنوان طويلٍ نسبيًّا: «أنتِ أنا في عمر مضى، وأنا أنت في عمر آتٍ» إلى عنوان يتكون من حرف واحد أو كلمة واحدة: «لو» نلهثُ خلفَ العتبةِ كي نصلَ إلى البابِ. وهي هرولةٌ محبذةٌ تطولُ؛ فتطولُ اللذاذةُ في الإشراقاتِ التي تحملها النصوص. في النصوصِ التي تتصفُ بالحكمة والحنكة في الرصف والوصف، كانت اللغة تنبني على نوع من الخبرة والتجربة؛ هذان أمران مهمّان للبدء بالكتابة الإبداعية؛ إنها نصوص تأملية صوفيّة السبكِ، ملحمية الفكرة، ذاتُ نسيجٍ متماسكٍ يمررُ ماءَ المعنى دون أن يصيبه فتقٌ، إنها نصوص ترتقُ الفكرة داخل مساحةٍ نصية واحدة ومتحدة في الآن عينه. وقد اتسمت هذه النصوص باتكائها على عناصر الطبيعة بشكل لافت: الفضاء، والليل، والنهار، والماء، والبحر، والنجوم، ... إلى آخر تلك العناصر التي تشكّلُ الوجودَ؛ كأنها نصوص تقوم بعملية الإيجاد في الحقيقة، وإعادة صياغة الوجود بشكلٍ يمنحُ المتلقي القدرة على الغوص في موجِ النص حتى تصيبَه حالةُ الغرق: الغرق المؤدي إلى نجاةٍ ما. النصوص التي تجعل من المتلقي إثرها يغمض عينيه: يستعيدها، يعيد ترتيبها، يتخيلها، يسير في رحابها، يختلق لها نهايةً ما، يخلقُ فيها بدايةً ما، يصطنعُ تأويلاتٍ عديدةً لها، يبحثُ فيها عن أسئلة لا إجابةَ لها. هي تلك النصوص الناجحة الناجية من فوضى الكتابة التي بلا غاية. لهذا فقد اتسمت نصوص «حافيًا تحت مطر الياسمين» بقدرتها على الصياغة الدرامية داخل سياق نصي منفتح الآفاق، قادر على جذب المتلقي، وهذه عبقرية تنخلقُ داخل اللا وعي عند المبدعةِ، بطبيعة الحال. جيهان الشهابي كاتبةٌ من الطراز الرفيع: الرفيع المكين الرقيق، حيثُ استطاعت في هذا الكتاب أن تضعَ حصادَ الفكرِ فتصنعَ منه حقلاً سنابله الأفكار، وقمحه الكلمات، وهي حالة ثقافية ومحطة إبداعية لا بد من التوقف عندها مليًّا وتأملها كثيرًا كثيفًا؛ إذ قلّما، في هذا الزمن، ما نجدُ كتابًا يستحقُّ القراءةَ، ليس تشاؤما، وإنما انطواءٌ على فكرةِ رسختها الثقافةُ الكمية غير النوعية. فكما يُقال: «الشعراء كثيرون، والقصائدُ قليلة» فإن الكتب كثيرةً لكنّ المكتوبَ الذي يستحق القراءة قليل؛ ولقد كان «حافيا تحت مطر الياسمين» من القليل الثمين الذي حظيتُ بقراءته على نفَسٍ واحدٍ، أوله الشغف وآخره ... لا، لم يكن للشغف آخر، فقد استمر الشغف حتى بعد آخر سطر في الكتاب؛ من «يسكننا الرحيل» حتى «بعيدة .. بعيدة»!!