Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Feb-2023

بين نماذج الجرجاني و«طير المعنى» لمحمد البريكي

 الدستور-د. سلطان الزغول

الميتاشعر في القصيدة، هو تناول تجربة الشعر داخل الشعر نفسه، بحيث يصبح موضوع القصيدة هو الشعر؛ فيتناول الشاعر مفهومه للشعر، وكيف يبني من خلال شعره علاقته بالعالم، كما يتناول رؤيته للغة الشعرية، وأسلوب تركيبه للنصّ الشعري، ويمكن أن يتناول مصادر إلهامه الشعري، وعلاقته نصّيا بتراثه الخاص وبالتراث الإنساني، أو موقفه الشعري من الحداثة، أو يعبّر عن أي علاقات مشابهة تنتمي إلى كون موضوع نصّه الشعري هو الشعر نفسه. فالميتاشعر هو وجه القصيدة الآخر، فإضافة إلى وجهها الإبداعي المألوف، يصير وجهها الوصفي والتأمُّلي حين تتحدث عن الشِّعر كتصوُّر ورؤية، أو في ارتباطٍ ذي صلة بتجربة الشاعر ومنظوره وأسلوبه ككلّ.
يرى ت. س. إليوت أنّ النقد الذي يمارسه الشاعر على عمله قبل أن يخرجه إلى العلن هو أسمى أنواع النقد، وهذا يذكرنا بمدرسة زهير بن أبي سلمى في تحكيك القصيدة وتنقيحها والتمعن فيها قبل إشهارها، والذي سميت قصائده بالحوليات، في إشارة إلى صبره وإغراقه في مراجعة شعره قبل إعلانه. وهي مدرسة عبيد الشعر التي كان لها أتباعها في تراثنا الشعري العربي، ومن أبرز ممثليها الحطيئة.
مارس كثير من الشعراء العرب القدماء النقد الذاتي لعملهم الشعري ونقّحوه وتمعّنوا فيه، كما عبّر عدد منهم عن ذلك بوضوح. لكنّ اللافت أن إرهاصات الميتاشعر ظهرت في الشعر العربي القديم عبر نماذج كثيرة، وصلت في العصر العباسّي حدّا جعل عبد القاهر الجرجاني يخصص في كتابه «دلائل الإعجاز» مساحة يسميها (فصل في وصف الشعر).
يورد الجرجاني بعض النماذج التي يصوّر فيها الشعراء العرب القدماء معاناتهم في تحكيك القصيدة ومراجعتها ونقدها ذاتيا. من ذلك قول كعب بن زهير يفخر بموقفه الشعري وموقف الحطيئة، إذ يعمدان إلى تهذيب شعرهما وتنقيحه حتى يقصر عنه كل شعر آخر:
فَمَنْ لِلْقَوَافِي مَنْ لَهَا مَنْ يَحُوكُهَا
فَمَنْ لِلْقَوَافِي مَنْ لَهَا مَنْ يَحُوكُهَا
فمَن لِلقَوافـــي شانَها مَن يَحوكُهـا
إِذا ما ثَوى كَعبٌ وَفَوَّزَ جَروَلُ
يُقَوِّمُهـــا حَتّى تَقـــــومَ مُتونُهــــــــــــا
فَيَقصُرُ عَنهــــــــا كُلُّ مـــــا يُتَمَثَّلُ
ومنه قول عدي بن الرقاع واصفا تهذيب شعره وتجويده، فهو ينقّح قصيدته حتى تبرأ من أي عيب:
وقصيدة قد بتُّ أجمع بينهـــــا
حتى أُقوِّم ميلَها وسِنادَها
نظر المُثقِّف في كعوب قناته
حتى يقيمَ ثِقَافُه منآدهــــا
ومن أبرز الأمثلة التي يوردها الجرجاني قول البحتري عن قصيدته:
بمنقوشة نقش الدنانير يُنتقى
لها اللفظ مختارا كما ينتقى التِّبرُ
كما يورد الجرجاني في بابه هذا عشرات الأبيات للبحتري وأبي تمام، من ذلك قول أبي تمام:
كشفت قناع الشعر عن حُرّ وجهه
وطيّرْتــــــــــه عن وَكره وهــو واقــــــــــع
بغُرٍّ يراهــــا من يراهـــــا بسـمـعـــــــــــه
ويدنو إليها ذو الحِجا وهو شاسع
يودُّ وِداداً أنَّ أعضـــــــــاء جـسـمـــه
إذا أُنشدَت، شوقاً إليهـــــا، مسـامــــع
ويمكن ملاحظة بعض الجدّة في أبيات أبي تمام التي يشير خلالها إلى مشروعه الإبداعي المحدث في العصر العباسي. إلا أن ما ينبغي تأكيده هو أن حضورا من هذا النوع للمكوّن الميتاشعري لم يكن ترجمة لاختيار جمالي واع، كما هو الشأن في التجربة الشعرية الحداثية التي أصبحت فيها علاقة هذا المكوّن بالنص جزءا من متخيل القصيدة، وعنصرا في البناء الدلالي والرؤيوي لهذه القصيدة.
إذا انتقلنا إلى الشعر العربي الحديث وجدنا أن الشاعر محمد البريكي يبدي وعيا ميتاشعريا في مجموعته الشعرية «الليل سيترك باب المقهى»، يظهر في بعض قصائدها، وسوف أقف عند نصّ ميتاشعري متكامل هو «طير المعنى» يشكل اللبنة الأولى في خطاب البريكي الميتاشعري، يقول فيه:
يمكن للشاعر أن يرسم خارطة لبلاد
فيها النهر يصافح جدرانَ القرية
أو يرسمَ فيها واحات خضراء
وبحرا تسكن حول شواطئه غزلان وعنادلْ
يمكن أن يرسم قصرا فيه جداولْ
...
الشاعر يرسم فكرته ويهندسُها
وعلى من يعجبه الرسم تخيُّلها
وعلى الشاعر أن يلمحها وهي ترتّب في المعنى وترَهْ
علّمني شعري
كيف أدرّب طير المعنى
كي يقفز فوق الشجرةْ
لكنّ الشعر تناسى أن يذكر
كيف أطيّر تلك الشجرةْ!
هذا نصّ ميتاشعري متكامل، موضوعه الشعر، ويمكن أن نلمح فيه الفوارق الرؤيوية التي يقدّمها الشاعر الحديث؛ فإذا كان الشاعر العربي القديم يعبّر عن الاطمئنان من خلال تفاخره بنصّه المسبوك الذي انتقى ألفاظه كما يُنتقى التبر، كما يعلن البحتري، أو كشفه قناع القصيدة لتظهر بكامل بهائها، فتطير من وكرها الذي حُبست فيه إلى آفاق عالية عبر ألفاظ تدهش السامع وتدفع الناقد المتأمل إلى أن يخفف الوطء متفكّرا جمالها وما في صياغتها من لذة تسري في جسده كله، لا عقله حسب، كما يتفاخر أبو تمام. إذا كان شاعرنا القديم كذلك فإن محمد البريكي يصف بوضوح عمل الشاعر الذي يرسم بكلماته صورا عميقة تعبّر عن حنين إلى وطن بعيد، يعيد من خلالها تشكيل مفردات الواقع جماليا، دافعا قارئه إلى أن يُعمل خياله فيها. ولا يغفل الإشارة إلى أهمية الموسيقى التي تتماهى مع الأفكار لتنساب المعاني عبرها. ثم يعلن أنّ تجربته الشعرية ساعدته على الارتقاء بالمعاني لتغدو طيورا تحلق فوق الأشجار، ما يذكرنا بمعاني أبي تمام التي طارت من أوكارها، لكنّه لم يتمكّن بعد من دفع الأشجار نفسها إلى التحليق. وهو طموح الشاعر المتجدد الذي لا يقف عند حدّ.
وصف البحتري قصيدته بأنها منقوشة بحرفية عالية ذات ألفاظ منتقاة بعناية فائقة لمكافأة الممدوح على سخائه، أما أبو تمام فأعلن أنه يكافئ ممدوحه بشعر مختلف يدهش المتلقي ويدفعه إلى ارتياد مناطق جديدة. وقبل ذلك اتفق الشاعران على بناء نص تقليدي؛ مقدمة طللية عند أبي تمام ومقدمة غزلية عند البحتري، يلي ذلك مديح ففخر. هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح كامل لدى قراءة القصيدتين كاملتين في ديواني الشاعرين. لكننا نجد في نصّ البريكي الميتاشعري انفصالا على مستوى الرؤية؛ حيث يعنى البريكي بوصف عمل الشاعر الذي يمكنه ارتياد آفاق متعددة لبناء نصّه في سبيل التعبير عن عدم اليقين وعدم الاطمئنان إلى الوصول.
ربما شكلت قصيدة «طير المعنى» النصّ الميتاشعري الأول للبريكي في مجموعة «الليل سترك باب المقهى»، وهي قصيدة قصيرة موضوعها الشعر نفسه، وتعبّر عن التطوّر الدلالي والرؤيوي الذي أصاب القصيدة العربية في العصر الحديث على مستوى الخطاب الميتاشعري.