Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Dec-2019

الحب وليالي البوم لرشاد أبو شاور.. السيرة والتاريخ بقناع روائي

 الدستور-د. إبراهيم خليل

على الرغم من أن المتخصصين في الرواية، وعلم السرد، يرفضون أن تحسب السيرة الذاتية التي يكتبها روائيٌ ما في الأدب الروائي، ويستبعدونها من هذا التجنيس، فإن الروائيين العرب ما فتئوا يخلطون بين الرواية، من حيث هي فن نثري يعتمد على التخييل لا على التوثيق، والرواية ذات الطبيعية المتخيلة fiction. ويعتمدون على مرويات تتصل بذات المؤلف إنسانا وكاتبا. فيكون تارة هو الراوي، وطورا البطل، إلى جانب كونه ساردًا، وفي بعض الأحيان يكتفي الكاتب بكونه أحد الشخوص، واللاعبين الرئيسيين في الحكاية. ومما يستحق الذكر أن الباحث عبد الله إبراهيم نشر مقالا استقصائيا في إبريل من العام 1998 في المجلة الفصلية العُمانية [نزوى] ذكر فيه عددًا غير قليل من الروايات التي نُشرت لمؤلفين نابهين بعضُها يستحق أن يحسب في السيرة الذاتية، لا في الرواية، وبعضها مختلفٌ فيه. فمن هذه الروايات رواية حديقة الحواس لعبده وازن (1993) وخطوط الطول .. خطوط العرض.. لعبد الرحمن مجيد الربيعي 1993 و بيضة النعامة لرؤوف مسعد 1994 ورواية الشطار لمحمد شكري 1994 ورواية بهاء طاهر الحب في المنفى 1995 وأصداء من السيرة الذاتية لنجيب محفوظ 1996 وخلسات الكرى لجمال الغيطاني 1996 وقبل هذه وتلك رواية بقايا صور لحنا مينة 1990وفاتته الإشارة لروايات أخرى بالطبع، ومنها رواية اعترافات كاتم صوت لمؤنس الرزاز، وسرايا بنت الغول لإميل حبيبي، وغيرها.. مما لم يطلع عليه لأسباب معروفة، في مقدمتها راهنية الظاهرة المدروسة.
 طريد الفردوس
ففي روايته « الحب وليالي البوم « (الشروق، عمان، 2018) يواصل الكاتب المُخضرم رشاد أبو شاور كتابة سيرته الذاتية، وسيرة أبيه محمود سلمان أبو شاور، التي بدأها في « وداعا يا زكرين « التي تناولناها في مقالة أخرى نشرت في العدد 94 من المجلة الثقافية (ص 193- 198) بادئا بلجوء أهالي ذكرين – إحدى قرى الخليل- إلى موضع قريبٍ من بيت لحم اتخذوه مخيمًا استقروا فيه استقرارا مؤقتا على أمل أن يعودوا بعد أسابيع أو أشهرًا على الأكثر . وفي هذا المخيم تواجه أسرة (أبو شاور) الكثير الجم من المتاعب. هي وغيرها من العائلات والأسر، التي كتب عليها، مثلما يقول المعلم علي، أن تبقى في مخيمات اللجوء، وهو البلاء الذي أصاب أهالي القرية، وغيرها من القرى، على رأي محمود أبو شاور(ص 402) الذي أسند إليه المؤلف دورا يشبه دور البطل في الدراما. يقول في هواجس ساورته فجأة « هُيّءَ له أنه يسمع صوت عمه مرشد وهو يرتفع عاليًا في أثناء حراثته للأرض، وغرسه الأشجار المثمرة. وأنه يرى بيوت ذكرين، ومدرستها، ويرى المسجد الذي بُني بحجارة نظيفة، ولم يصلِّ فيه الأهالي سوى جمعة واحدة. من كان يخطر بباله أننا سنُطرد من قريتنا ونتشتت في المخيمات حيث البرد والوحل والغبار؟ لماذا نحن دون غيرنا من الناس يحدث لنا هذا، من أين جاءنا هذا البلاء؟ « ص402 
 شخصيات
وفي هذا الرواية عدَدٌ من الشخوص يكاد لا يحصى، ويكفي أن نذكر للدلالة على ما يشبه البطولة الجماعية لهذه السيرة – إذا جاز التعبير- إلى جانب محمود سلمان، والد رشاد، أبا فارس مختار المخيم، وابنه فارس، والشيخ يونس، وسالم الدوايمي، والمعلم علي – وهو من شخصيات وداعا يا زكرين- وأحمد العجوري، وأبا صقر اللحام، والمعلم مصلح، الذي يعاني مرضا يؤدي إلى وفاته، والمعلم نمر، ورزق الفوالجي، وأحمد المنشاوي، وأبا إسماعيل تيلخ، وهو من شخوص وداعا يا زكرين أيضا. وعبد الرحمن ابن عم محمود، ووصفي أبو طبر، مختار مخيم النويعمة، الذي انتقلت إليه الأسرة. وحياة بدر، زوجة د. عبد الرحيم بدر – مديرة المدرسة - والرفاق محيي الدين، ومنير عسل، ويوسف سرياني، وأحمد أبو لحاف، ومحمد سعادة، وفايز شهوان، وأبا روحي، وهو قومي عربي. وأبا فرج. ومحامين يذكرهم باسمائهم الحقيقية، وهم: يحيى حمودة، وإبراهيم بكر، وعبد المحسن أبو ميزر.
وثمة شخصيات نسائية عدة؛ كفاطمة الجدة، وزريفة خالة رشاد، وفضة، ونظمية، ووفيقة، وصفية. وشخصيات تؤدي دورًا في ضبط الأمن في المخيم، أو في قمع الاحتجاجات، وتعذيب الموقوفين، ومن هؤلاء العقيد بكر بيك، وأبو عناد – جلاد السجن- وأبو مروان شاويش المخفر، وأبو هاني، وفايز الصْخَريّ قائد وحدة الفرسان. وإلى جانب هذا العدد الجم من الشخصيات تحسن الإشارة لأناس آخرين لم تكن لهم آثار ملموسة في الحكاية، كالخياط خالد، والمعلم عدلي عرفات، وسعيد عازف الأرغول، وحسن أبو سند راعي المرسيدس.. ورجاء أبو عماشة التي سقطت شهيدة في مظاهرة وأصبحت رمزًا، ورُفعت صورها في شتى الأماكن (ص376) وخميس صاحب المقهى إلخ...  ومثل هذا العدد الضخم من الشخصيات يتطلب من القارئ وعيا يقظا مستمرا لمتابعة الأدوار، والوظائف، التي يقوم بها هؤلاء عبر مساحة من الزمن ليست كبيرة، إذ تمتد الوقائع من عام 1948 إلى نهاية العام 1957 وهو العام الذي ألفت فيه وزارة سليمان باشا النابلسي، وأقيلت بعد أقل من ستة أشهر، اعتقل على إثرها الكثير من الحزبيّين، أو اضطروا للمغادرة سرا، واللجوء لدمشق، أو القاهرة.
 فضاء النص
ومما ينقذ رواية (أبو شاور ) هذه من التشتُّت بسبب هذا العدد (نيف و60 شخصية) فضاءُ السيرة. فوقائعها تجري في مخيم الدهيشة (ص35) ومقهى المخيم (ص81) وأرطاس، على كثب منه، وبلدة (الخَضِر) ومخيم(الفوّار) و(النويعمة) قرب أريحا (ص186- 191)وأريحا البلد، ومخيم (عين السلطان) وهي بقعة جغرافية ضيقة تصلح إطارا يلم شتات الجكاية. ويضفي عليها تماسكا واضحا. والشيء الوحيد الذي يشذ عن هذه الشبكة من الأماكن هو التوجه إلى دمشق، حيث (المرجة) و(فندق الزهرة) و غيره، ثم عودة رشاد ذي الأربعة عشر ربيعًا إلى أريحا قادمًا من درعا عبر عمّان.
 الذاتي والجمعي
واللافت للنظر اختلاطُ وقائع هذه السيرة، بما فيها من جوانب ذاتية تتصل بعائلة محمود سلمان، والمجريات العامة، التي لا تخلو من مفاصل تاريخية، يتذكرها الراوي تذكرًا سريعًا تارةً، وفي شيء من الرويَّة، والتأنّي، تارةً أخرى.
ففي البدء، ولما كانت واقعة النكبة ما تزال الجراح التي سببتها تنزفُ دمًا حارًا، تبرُز حكاية سالم الدوايمي، الذي لا يأنس للحياة في المخيم، ويصر إصرارًا كبيرًا على مناوشة الإسرائيليين بالسلاح، والتسلل للقيام بعمليات فدائية، ففي رأية « ما لنا غير السلاح. لازم نستمر في القتال « (ص70) وعندما سُئل: من أين نأتي بالسلاح، أجاب « بقليل من السلاح نقلق راحتهم، وننشّف ريقهم. نجعلهم يخافون، ولا يعرفون من أين تأتيهم الضَرَبات « (ص11) وردًا على سؤال محمود عن عدد أنصاره، يقول « العدد لا يهم. المهم أنْ نستمر « (ص112). وحين يئس من محمود أبو شاور وانضمامه، طلب منه التبرع بالبندقية التي قاتل بها قبل النكبة « سيحضر شخصٌ نثقُ به ليأخذها « (ص114) وقد جاء أحدهم فعلا، وتبرع أبو رشاد بالبندقية على الرغم مما لها من ذكريات عزيزة في نفسه (ص130). ومن الوقائع المتَّصلة بهذا الدوايمي استشهاد عثمان، الذي تسلل هو الآخر، واعتلى سقف منزله في ذكرين، وواجه المستوطنين برشاش (ستن) ولم يتوقف عن إطلاق النار إلا عندما نفدت الذخيرة، وخرّ شهيدًا(ص221).
وبرزت على المستوى العام في هذه السيرة وقائع تاريخية، كالانتخابات البرلمانية التي أجريت في العام 1956 بمشاركة الأحزاب. وترشيح كل من د. عبد الرحيم بدر، ود. يعقوب زيادين. وهما شيوعيان. وبهجت أبو غربية، وعبدالله نعواس، وهما بعثيان. وتناول الراوي الشعارات التي تداولها مؤيدو المرشحين. بيد أن السقوط الذي مُنيَ به مرشحو الحزبين دفع بهم لاتهام حكومة توفيق أبو الهدى (1894- 1956) بالتزوير. مما أسفر عن اندلاع الاحتجاجات(ص250- 250). رافق هذه الاحتجاجات العدوان الثلاثي على مصر.(ص255) ومما زاد الطين بلة اعتقال عدد من الشيوعيين بمن فيهم محمود أبو شاور – والد رشاد- (ص272) وتوالت بُعيْدَ ذلك التظاهراتُ ضد مشروع حلف بغداد. وهذا الحلف- في نظر الرفاق- يعادي الاتحاد السوفياتي، ويمالئ الغرب بزعامة إنجلترا. (ص392) وبسبب تلك الأحداث أقيلت حكومة أبي الهدى، وظهر حزبٌ جديدٌ بزعامة سليمان باشا النابلسي، باسم « الحزب الوطني الاشتراكي « (ص383) ولا يُخْفي الراوي دهْشتهُ من كثرة أنصاره، ومن تدافع الناس للانضمام له، ولهذا فاز عدد كبير من مرشحيه في الانتخابات التي أجريت عام 1957. وهي التي فاز فيها الكركي يعقوب زيادين عن محافظة القدس، واستبعد عبد الرحيم بدر من الترشيح لسبَبٍ غامض. ولا يفوت الراوي أن يذكر- في ما يذكره - المسيرات التي انطلقت في أريحا وغيرها تأييدا لثورة الجزائر (ص389).
 جريُ الرياح
على أنَّ الرياح لا تجري بما تشتهيه السفن، فقد أقيلت حكومة النابلسي (1908- 1976) بعد أقل من ستة أشهر (ص419) إذ ألفت في 29 تشرين الأول 56 وأقيلت في 10 نيسان 57. وقيل إنَّ الأسباب تعزى لمحاولة انقلابية كشفت في الساعات الأخيرة. وانتشر التهديد باعتقال الحزبيين، وحُذّر الكثير منهم، مما دفع بمحمود أبو شاور، الذي لم يمض على زواجه الثاني إلا أسبوعٌ واحدٌ، للتفكير بالنجاة، فاختار دمشق ملاذا تجنُّبا للحبس، والتعذيب، على يدي أبي عناد وبكر بيك. (ص427) فيما فرضت الإقامة الجبرية على النابلسي (ص424). وفي دمشق يلتقي رشاد ذو الأربعة عشر ربيعًا بأبيه، ثم يعود إلى أريحا قادمًا من درعا عبر عمّان. ويلاحظ القارئ أنَّ رشادًا في نهايات السيرة يصرح مباشرة بموقعه في الأحداث. فقد تنقَّل بسرعة من دور الطفل الذي يعتمد على الآخرين في كل شيء إلى دور المراهق الذي يبلغ سنَّ الاحتلام، ثم إلى دور العاشق الذي يلاحق (زينب) وهي الأخرى لا تتردد في إغوائه.. وربما غازلها، وغازلته، على استحياء، في طور مبكر على العشق، وزاده تعلقا بها اسْمُها، وهو اسم أمه التي توفيت - عليها الرحمة - في حادثة بابور الطحين، وهي الحادثة التي وصفها لنا في وداعا يا زكرين..
 فاعلية اللسان
وعلى مستوى الأساليب السردية التي تتجلى في هذه الرواية، والتقنيات الروائية، يُلاحظ الدارس عزوف المؤلف عن التوغل في السرديات الحداثية، وهو محقٌ في هذا، لكون الحب وليالي البوم أقرب إلى السيرة منها إلى الرواية. وقد غلب عليها الحوار الذي يتسامح فيه كثيرًا على صعيد اللغة، مُكثرًا من المفردات التي يستخدمها الناسُ في حياتهم اليومية، بما في ذلك تلك التي تخدشُ الحياء. فهو لا يتوخى انتقاء كلماته من المعاجم، ولا يراعي التقعُّر، ولا يجد حرجًا في أن يقول في عبارة واحدة « قبَّلهُما أبو رشاد بعد أنْ باسا يدَه « (ص184) فهو في أول العبارة فصيح، وفي الجزء الثاني منها عامي. وهذا يضفي على حواره الحيويَّة ويساعده على تحقيق الإيهام بالواقع. ولم يفُتْ المؤلف التنويع في الحوار، واستخدام الحوار الفردي بين الشخص وذاته، فيما يعرف بالمونولوج. فحين يلاحظ المعلّمُ مصلح على وفيقة شيئًا يقول في نفسه « هذه البنت تظن أنني غير منتبه لها . إنني أحضر وأجلس هنا لأراها.. ولكنني مريضٌ. ولا أريد لها أن تتعلق بي. ثم أتركها للحسرة والألم. أشعر بأن أيامي ليست كثيرة في هذه الدنيا. « (ص119) فهو، بهذا الحوار غير المباشر، يريق الضوء على ما يدور في ذهْن الرجل، ويتنبأ بوفاته لاحقًا، وهذا ما كان. وفي موقع آخر يقول على لسان صفية، وقد وقعت عيناها على محمود مرارًا « أنت أرمل ووحيد ليس لك إلا هذا الابن (رشاد) وأنا شبه أرملة. وليس لي سوى الولدين، والحزن والانتظار بألم « (ص 231) وما بين صفية، ومحمود، تجاوبٌ مونولوجي « هل وقعتُ في هوى هذه المرأة الجريئة، الجميلة، وهي التي تنتظر زوجًا طال غيابُه « (ص 231)
 كلمة أخيرة 
وأيًا ما يكن الأمر، فإن الدارس لا يفوته أنْ يلاحظ على هذه الرواية- السيرة السَلِسَة، ما فيها من مشاهد ما كان لها أنْ تظهر، فقد آلى المؤلف على نفسه إلا أن يذكر بالتفصيل المملّ جلَّ ما جرى في مخيمي الدهيشة، والنويعمة، سواء اتصلت تلك المُجْرياتُ بالرواية – السيرة، أم لا. فالعُرْس الذي توقف لديه الرواي ص351 واستمرت مروياته عنه، ومحكياتهُ، حتى ص 355 لا ضرورة له قطعًا، ولو حُذف من المتْن، لما تاثرت السيرة، كذلك المحاكمة التي بدأ استعراضُ مجرياتها ص 339 واستمر إلى ص 348 فيها الكثيرُ مما هو غير ضروري. علاوة على أنَّ قصة المعلم مصلح، والمعلم عبد الفتاح، ووفاتُهما حكايتان لا تخدمان الرواية. ومثل ذلك وفاة نظميّة (ص240) ابنة إسماعيل، فقد جعل من وفاتها حدثا مهمَّا مع أنها لم تُذكر في الرواية. وقد يتساءَلُ القارئ عن السبب الذي دفع بالكاتب لاختيار العنوان « الحب وليالي البوم» وهو تساؤل له ما يسوغه. فالحكاية لا تبعث على التشاؤم، إذ انتهت بتفتُّح وردة الحب لدى كل من رشاد وزينب، وذلك شيء يوحي بالفرح، ولا يترك مكانا للبوم في هذا السياق.