Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Jun-2018

منهج الشك ومنهج اليقين - د. هاشم غرايبة
 
الغد- في قوله تعالى: "وَمَا خَلَق�'ت ال�'جِنّ وَال�'إِن�'س إِلَّا لِيَع�'بُدُونِ"، إجابة شافية وافية لمن يتساءلون عن علة الخلق، وأشغلوا نفسهم منذ القدم بالوجود وأسبابه، وكنهه ومآلاته، فهاموا في كل واد، وسلكوا في كل شعب، من غير أن يجدوا الجواب، وذلك لأنهم لم يسألوه الخالق، موجد الأسباب، فحادوا عن السبيل القويم المؤدي الى أصل المعرفة.
العبادة لا تكون إلا بعد المعرفة، وهي نتيجة لليقين الذي هو منتهى المعرفة، واليقين يعني الإيمان العميق، لذا فالعبادة هي تعبير تطبيقي لقناعات المرء بألوهية المعبود، وبالتالي يجب أن تبدأ بالبحث للتعرف على الخالق من آثار أفعاله التي تنبئ بصفاته.
هذا هو الاختلاف المنهجي بين التعرف على الوجود بين منهجين: المنهج الإيماني الذي يتبع الضياء المنبعث، بالتوجه الى مصدره فيعرفه، وبين المنهج الشكّي (كنت- ديكارت- هيجل) الذي يتوجه بالبحث نحو انعكاسات الضياء، فيتشتت ويمعن في الابتعاد عن مصدر الضوء.
ومتى ما وجد المرء مصدر النور (المعرفة المطلقة)، كانت العبادة تعبيره عن الانبهار به.
العبودية لله تختلف عن العبودية للبشر، فهي قرار اختياري وتعبير عن حب المعبود، يرتقي بها العابد ويسمو، ويرتفع بها قدره بين الناس ويطيب بها نفساً، بينما العبودية للبشر لا تكون باختيار العبد بل قسراً وإكراها، وهي مَذَلة له بين الناس ووضاعة أمام ذاته، لذلك فمن يعبدون الله يُسمّو�'ن تكريما لهم: عباد الرحمن.
أما من يعبدون غيره فيُسمّو�'ن بالعبيد، تشقى نفوسهم بعبوديتهم، ويُنظر إليهم باستصغار واحتقار.
عبادة الله فضاء واسع من الأعمال والسلوكات والأفكار، يضبطها جميعا المعتقد الإيماني، وهي ليست أداء الفرائض واتباع أوامر الله ونواهيه فقط، بل هي ممارسة كل مناحي الحياة ضمن الضابط، وبتوجيه منه.
العبادات جميعها تعبير عن هذا الالتزام، وليست هي المبتغى بذاته، بمعنى أن قيمتها وقبولها من الله محكومان بمدى تأديتها الغرض المتوخى منها.
فالصلاة قيمتها في مقدار نهيها المصلي عن الفحشاء والمنكر؛ أي ضبط السلوك الفردي، وليس في عدد الركعات، فمن خان الأمانة فيما ائتمن عليه فلا قيمة لصلاته ولو قام الليل كله، والأمانة هي في أداء حق كل ما أقامك الله فيه: في البيت وفي العمل وفي الحياة العامة.
والصيام قيمته فيما يحققه من تقوى، وعندما يوقن المرء أنه تحت رقابة الله فيترك كل ما نهاه عنه، يكون لصيامه قيمة، يضاعفها كرم الرحمن، كاملة خالصة، لا ينقصها إلا قول أساء به لآخرين، أو فعل أضر بغيره، ويبدأ بقطف ثمار مجاهدته لنفسه عندما يقدم رضا الله على إرضاء نفسه، حتى لا ينقضي رمضان إلا وقد حاز الجائزة العظمى وهي العتق من النار والفوز بالجنة.
والزكاة قيمتها عند الله ليست مرتبطة بالمبلغ المؤتى، بل بمقدار ما زكت نفس المؤمن وتحررت من الشح وحب المال، وليس المطلوب الزهد والتوقف عن طلب المال، بل أداؤه على حبه مغالبا بذلك خوف النقصان، عندها يكافئه مالك الملك مرتين: بتعويضه في الدنيا بركة ونماء، وفي الآخرة إثقال موازينه لينال عيشة راضية.
والحج ليس في عدد المرات، بل بمدى التغيير الإيجابي في سلوك الحاج وصلاح عمله بعد أن نال الزاد الروحي من زيارته لمهد الدعوة، فلا يعود لمنكر اعتاده سابقا.
هذا هو الدين، ولهذا كانت العبادة، هي لمصلحة البشر وسعادتهم، فالله غني عن العالمين، لن يزيد في ملكه كثرة العابدين، ولن ينقصه قلة الشاكرين.