Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-Jan-2019

بعت القدس مرتين!* ماهر أبو طير

 الغد

الرجل في الثمانين من عمره، وقد انحنى ظهره، من هذه الحياة، يمضي نهاره عابدا، مستغفرا، وفي أوقات أخرى، يجلس امام بيته، بحثا عن شمس الصباح.
اعرفه منذ زمن بعيد، فهو ذاكرة حية، يحكي لك اسرارا ومعلومات ويرسم لك صورا اجتماعية، عايشها، فهو شاهد عيان على سنين صعبة في العالم العربي، وفي ذاكرته فلسطين والأردن، وكل بلاد الشام والعراق.
زرته، قبل يومين، ليس أكثر، وإذ بدموعه تنهمر على وجهه، وكلما اسأله عما به، لا يجيب، لكن تحت وطأة الالحاح، حدثني عما يؤلمه، وقال ودموعه لا تتوقف ان نجله احضر له مقالا كتبه كاتب صحفي عربي، واعطاه إياه حتى يقرأه، وانه منذ ان طالعه، والدموع لا تغيب عن وجهه، ولا الحزن يفارقه.
كانت فكرة المقال إياه الذي كتبه أحدهم، ان الفلسطينيين، باعوا فلسطين مرتين، تارة بخروجهم ضمن اللاجئين او النازحين، بعد حروب عامي 1948، و1967، دون ان يدافعوا عنها، وان موجة البيع الثانية، كانت عبر التخلي عن ارضهم، ببيع قطع الأراضي في فلسطين لأقاربهم، عبر العقود الفائتة، وبحيث لم يبق لهم شيء، في فلسطين. خرجوا سريعا، عند الحرب، ولاحقا، تخلوا عن الأرض.
صاحبنا هذا، وهو موجود فعلا، وليس من صنع الخيال، اشتد قهره وهو يقرأ النص، وحدثني عن مدينته التي ولد فيها، وينتمي اليها، أي القدس، وانه وفقا لكاتب المقال، باع القدس مرتين، فقد غادرها ذات حرب ولم يعد، وباع قطعة الأرض الوحيدة التي يمتلكها الى ابن عمه، معتبرا ان هذا الكلام يفيض بالسموم، والتجني، وعدم فهم الواقع، ولا مجريات الظروف والاحداث.
هونت عليه كثيرا، فالانفعال لا يليق به، أساسا، وان كان طبيعيا ومشروعا، وكان رأيي ان الشعب الفلسطيني لم يبع فلسطين، مرة، ولا مرتين، فالناس خرجوا من مدنهم وقراهم، وبحثوا عن ملاذات آمنة، خوفا على اعراضهم أولا، وبسبب عدم وجود سلاح عندهم، وكان الكل يظن ان الخروج مؤقت، والعودة قريبة.
هذا فوق ان الإسرائيليين وبوسائل كثيرة، شوهوا سمعة الفلسطينيين، عبر تقديمهم بصورة الخائفين او الهاربين او العملاء، او أي صورة أخرى، في سياقات السعي لفض التعاطف العربي والإسلامي والدولي معهم، وللتغطية على صور أكثر أهمية، أي مقاومة الاحتلال، وكل هؤلاء الشهداء والجرحى والأسرى، وسرقة الأرض، ومصادرتها، وكل ما تفعله إسرائيل.
ثم ان بيع الأرض لابن العم، او غيره، لا يعني تخليا عن الأرض، ما لم تتسرب الى إسرائيل عبر وسطاء او عملاء، فالذي يبيع لأحد من عائلته، لا يبيع فلسطين، التي تمثل قيمة تتجاوز ملكية الأرض الشخصية، او أي عقار، ما دام بقي بيد فلسطيني آخر، يصونها ويحافظ عليها.
ما اسهل التنظير على الاخرين، واتهامهم من بعيد، اذ نجد لدى بعض من يعتبرون انفسهم نخبة عربية، قدرة عز نظيرها على مس الآخرين، والتنظير عليهم، وعلينا ان نتأمل فقط، حال العراقيين والسوريين واليمنيين، وغيرهم من شعوب، اضطر ابناؤها لمغادرة بلادهم، تحت وطأة الحروب، وكلنا يعرف ان هؤلاء يمتلكون السلاح للدفاع عن انفسهم، وعائلاتهم، وربما يمتلك بعضهم المال، لكن الذعر الإنساني، والخوف على الأطفال والاهل والعائلات، عامل مشترك، بين كل من يغادرون أماكنهم بحثا، عن مكان آمن، فلماذا يكون هذا الحق متاحا لكل شعوب العالم، ودليل خيانة او جبن عند الفلسطينيين؟!
بيننا من يمنح الإسرائيليين كل رخص الدنيا، ويريد التطبيع معهم، ولا يرى فيهم كبائر ولا صغائر، لكن التطاول على الفلسطينيين امر اكثر سهولة، ولم لا، فالتجريح سهل، والاهانة ممكنة، وتقديم النصائح والارشادات المجانية، هواية بعض العرب في هذا الزمن الغريب الذي سيأتينا أيضا، بما هو اغرب.