Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Jul-2020

محمود جبريل: رجل الدولة التي لم تكتمل بعد*مالك العثامنة

 الحرة

في أبريل من عام 2014، كنا في فرساي الفرنسية على تخوم العاصمة الفرنسية باريس، مجموعة من أربعة صحفيين عرب نحاور على مدار ساعتين مسجلتين تلفزيونيا الدكتور محمود جبريل، رئيس التحالف الوطني الليبي وأول رئيس حكومة ليبية تنفيذية بعد نجاح الثورة المسلحة والدامية على الدكتاتور معمر القذافي.
 
اللقاء تم ترتيبه لحساب قناة العاصمة الليبية، وبتنسيق مع سيدة ليبية تعمل في الإعلام كانت تتقن بمهارة الحفاظ على مسافات آمنة مع الجميع، و"الجميع" هنا كان يقاتل بعضه البعض.
 
وصلنا فرساي قبل تسجيل المقابلة بيوم، وكان الصحفيون الثلاث من الزملاء يمثلون ثلاث صحف عربية لندنية، وكنت أنا من وقع عليه الاختيار ليدير الحوار (رغم عدم خبرتي كمقدم برامج حوارية)، إلا أننا استطعنا الخروج بمقابلة خاصة مع الرجل الذي كان حتى لحظة وفاته مثل الصندوق الأسود لكل أحداث ووقائع الثورة الليبية من ألفها إلى يائها. 
 
وفي الليلة قبل التسجيل، دعانا الراحل الدكتور جبريل رحمه الله إلى عشاء ودي تحدث فيه بصراحة أكثر بكثير مما تحدث في التسجيل، وهذا طبيعي لرجل سياسي محترف ومتمرس، استطاع بمهارة أن يسجل تمريرات ذكية في المعلومات دون أن يتخلى عن دبلوماسيته، ثم أهدافا معلنة ونظيفة في التسجيل الرسمي للمقابلة. لم يخل الحوار فيها من صراحة ومباشرة وإجابات على أسئلة ذكية وجهها الزملاء.
 
كثف محمود جبريل وقتها ما يحدث بعبارة بليغة جدا حين قال: ثورات الربيع العربي صنعها المستقبل وسرقها الماضي
 
قبل الحوار المسجل بيوم، كنت أتجول في المدينة وضواحيها وبوابات قصرها الملكي الشهير بحدائقه الفخمة، أحاول التقاط ما تيسر لي من تلك المدينة الفرنسية الباذخة والتي سجلت أهميتها التاريخية بكونها مقر إقامة العائلات الملكية الفرنسية.
 
وحين كانت باريس تغلي بالثورة وبرلمانها مغلق والسياسيون الغاضبون يجتمعون في ملعب التنس الملكي، كان لويس السادس عشر وزوجته الأكثر شهرة ماري أنطوانيت في فرساي، ينامون ملء جفونهم عن شوارد الغليان الشعبي في العاصمة، حتى انتهوا إلى المقصلة بعد أن قامت الثورة الفرنسية التي كلفت الفرنسيين آنذاك دماء كثيرة استمرت طويلا.
 
انتهت جولتي بحديقة الفندق المترف والذي ورث كل هذا البذخ من تلك الفترة الملكية، فتداعت الأفكار التي قاطعها دخول ودي للزميل الراحل علي إبراهيم، نائب رئيس تحرير الشرق الوسط اللندنية والذي رحل عنا أيضا قبل سنوات، وأخبرته وقتها عما يدور بداخلي من تداعيات عن الثورة الفرنسية وكل تلك الدماء التي سفحت من أجل الحرية وكيف انتهت، وسألته عن الربط الممكن بين الثورة الفرنسية والليبية غير موضوع الحرية والثورة على الطغيان.
 
أجابني علي إبراهيم رحمه الله بكل حكمته المعتقة والمكثفة: ربما كان هناك في الثورة الفرنسية رجل ما مثل محمود جبريل، لم يسمعه أحد، فاستمر الدم أكثر مما يجب.
 
♦♦♦
 
في المقابلة التي وجدت بعد بحث طويل على موقع يوتيوب توثيقا لها وقد قسمت على ثلاث حلقات، تحدث الدكتور محمود جبريل رحمه الله بانسيابية المثقف الواعي والسياسي الدبلوماسي الغاضب من كل ما يحدث. كانت الأجواء وقتها، في العام 2014 محمومة جدا في ليبيا، وقد بدأ النزاع المسلح في مرحلة ما بعد الثورة كبدايات لحرب أهلية قادمة في بلد مثخن بالدم والنار.
 
Medical staff carry a patient infected with the novel coronavirus (Covid-19) in an emergency vehicle at the Saint-Jean train…
ألعاب المؤامرة
من الطبيعي أن ينقسم العالم في أوقات الأزمات إلى فئات متباينة، بل متناقضة، إن لم نقل متناحرة. بعض الناس يسلم قدريا بالكارثة على مبدأ "لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". بعضهم الآخر يحلل علميا أسباب الكارثة، سواء كانت فعلا إرهابيا أم وباءً انتشر كجائحة وخلف آلاف الضحايا. 
 
كانت مصر قد انقلبت على حكم تيار الإخوان المسلمين، بكمين ضبطه العسكر بدقة ودهاء، واختطفت الثورة للمرة الثانية في عام 2013، بعد اختطافها الأول من قبل الإخوان المسلمين.
 
وفي ليبيا، كان تيار الإخوان والإسلام السياسي والسلفيين يتصارعون مع كل الباقي من الناس لاختطاف السلطة.
 
الدكتور محمود جبريل وقتها كثف ما يحدث بعبارة بليغة جدا حين قال: "ثورات الربيع العربي صنعها المستقبل وسرقها الماضي".
 
لم يهادن جبريل في كل حديثه ولم يخف غضبه على ما يحدث في ليبيا، وأكاد أقول إنه تنبأ بكثير مما حدث بعد ذلك في ليبيا، لقد رصد الرجل بخبرته بدايات كرة الثلج التي بدأت بالتدحرج ولم يوقفها أحد.
 
بل وتنبأ بنبوءة استغربتها وقت قالها حين قال إن الشرق الأوسط "يتحول إلى محمية بشرية طبيعية"، اعتبرت حينها أن المصطلح فيه قسوة شديدة، لكن بعد مرور كل هذا الوقت، أجدني أرى النبوءة متحققة في مجمل الشرق الأوسط، وقد تحول إلى محمية فعلا، بأكثر من قوة مسلحة تحاول السيطرة عليه بدعوى حمايته.
 
لم يهادن جبريل في كل حديثه ولم يخف غضبه على ما يحدث في ليبيا
 
استطرد المرحوم جبريل في الحوار كثيرا (وكنت محرجا أحيانا كمدير للحوار بإعادة الحوار إلى سكته الليبية)، فتحدث بوعي فلسفي ومعرفي عن التحولات العالمية في عصر تكنولوجيا المعلومات، والنظام العالمي الجديد الذي يتغير جذريا، وما قاله إن تلك الثورة المعرفية وهذا الدفق المعلوماتي صنع حالة تمكين غير مسبوقة للفرد ـ أي فرد ـ بأن يكون قادرا على مواجهة الدولة ـ أي دولة ـ وحده بتقنيات المعرفة التكنولوجية الهائلة.
 
تنبأ جبريل في استطراد لم يمكن السيطرة عليه في الحوار لمتعة ما يطرح، عن عالم جديد تحكمه ثقافة السلوك الجماعي  (Collective Behavior)، وبتحليل ذكي ربط ذلك بأخطاء الثورات الفادحة التي كان ثمنها الدم دوما.
 
كان حوارا طويلا ليس من السهل تلخيصه في مقال، استمتعت مرة ثانية بعد كل تلك السنوات بالاستماع إليه من جديد وباهتمام مختلف، وكل ما أجدني أستطيع قوله إن محمود جبريل بوفاته المؤسفة بسبب فيروس كورونا (بعد كل نجاته من الموت قتلا في تاريخ متخم بالأحداث) كان بحد ذاته خسارة فادحة لليبيا والعالم العربي.