Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Sep-2020

جبران… كتب اسمه بأحرف كبيرة على وجه الحياة

 القدس العربي-نجم الدراجي

صاحب الأصابع القابضة على القلم والسيكارة وفنجان القهوة العربية.. ذاتها التي اقتنصت لحظة الصورة، ومداعبة ريشة الرسم.. وهي المتسائلة دائماً..
ربما حالته الحالمة هي التي جذبتني لتكون مدخلاً للتعارف مع عالم واسع وعميق، أو أسلوبه الشاعري في وصف ما تعرض له من آلام، وإفصاحه عن حقيقة صحته «مثل قيثارة مقطعة الأوتار»، هو ما قادني للتعارف. كيف له أن يواصل العمل لعشر ساعات يوميا ما بين الكتابة والتصوير؟ مستنداً إلى قناعاته بأن لا يضيع دقيقة واحدة من الزمن بدون عمل «ليس هناك شيء أصعب من وجود روح تريد، في جسد لا يستطيع»، وأمام تلك التحديات الكبيرة لم يستسلم جبران خليل جبران.
لجبران جناحان تشكلا من حقيقة الزمن وخيال الحالم، وبفضلهما حلّق إلى الأفق البعيد.. لقد جاء إلى هذا العالم ـ كما يشعر ـ من أجل أن يكتب اسمه أباحرف كبيرة على وجه الحياة. زخرت المكتبة الأدبية بمؤلفات كثيرة عن رسائل جبران كدراسات أدبية ونقدية، ومن تلك المؤلفات «مختارات من رسائل جبران» تقديم وتعريف جميل جبر و»الشعلة الزرقاء ـ رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة» تحقيق سلمى الحفار وسهيل بشروئي، وكتاب «قاموس جبران خليل جبران» لإسكندر النجار، وكتب توفيق صايغ «أضواء على جبران»، ورياض حنين «رسائل جبران التائهة».
في محاولتي الاستماع إلى الروح التي سكنت الرسائل، تيقنت من أن الفنان جبران كان يرسم من ألوان نفسه لوحة في كل رسالة تتشكل من كلمات معبرة عن لحظات تتنفس الحياة، كلما زارها قارئ يود التعرف إلى عالم جبران، انبعثت منها روحه من جديد، وللرسائل لذة سحرية سرّها في أنها تكتب إلى «أحب الناس إليه» – كما عبر عن ذلك الإحساس، وظل البعيد ممن أحب قريباً لنفسه روحاً وعاطفة. لرسائل جبران أبعاد تستحق التأمل فيها مثل بعد السيرة الذاتية، وتوثيق الحياة اليومية بعمقها الإنساني، وهي صفحات تتدفق بالإبداع وتشرق من أعماقه، ويلحظ أنها غالبا ما كانت تأخذ أسلوب المحاكاة الاجتماعية والأدبية الشفافة من المرسل إلى المرسل إليه.
سعى الأديب جبران من أجل إنجاح أعمال (الرابطة القلمية) من خلال متابعته الدائمة، ومناقشة الآراء الأدبية والأفكار الإبداعية، فكانت مراسلاته مع أدباء المهجر أمثال ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي وسواهم. ألحظ أن جبران الإنسان لم يهتم كثيراً بصحته، ولم يبال، وربما عدم الاكتراث هذا ناتج عن قوة لا يعلمها إلا جبران نفسه.
 
 
وقد وجدته في هذا البعد يستصعب الشكوى، وإذا اعتل اختفى عن عيون الناس، وقد يذهب إلى (الاختفاء التام). أما الأطباء فقد حظروا عليه العمل في أحيان كثيرة، ولكن نزعته المتمردة لم تفارقه. ينظر إلى الحياة على أنها «دين ووفاء تعطينا اليوم لتأخذ منا غداً».. واقتنص من لحظات حياته، ممارسته التدخين، فقد كان محاط بهالة دائمة من دخان السكائر، كأنها غيوم آلامه، حتى إنني تتبعت لحظات إشعاله للسكائر، وتسللها إلى أوراقه لتجد مكاناً لها بين كلماته، ففي إحدى رسائله إلى ابن عمه (نخلة) يقول جبران، «أنا أحب القهوة والسكائر، لو جئت الآن يا نخلة، ودخلت هذه الغرفة لرأيتني محجوباً عن النواظر بسحابة من الدخان الكثيف الممزوج بعطر القهوة الحجازية». وشرح لصديقته مي زيادة عن تعاطيه التدخين، «التدخين عندي لذة لا عادة ، وقد يجيءُ الأسبوع الكامل بدون أن أدخن سيكارة واحدة». قد تتباين الآراء حول مسألة التدخين، ولكنها فرصة للتعارف على حالته المزاجية.
حين أطالع بعد الغربة أجدها تتلألى من بين كلماته، ولم تكن نحيباً ولا كآبة، وإنما تتشكل من أحزان صوب الشرق.. حتى رأيته لا يرضى بفرح العالم كله مقابل أحزانه. في إحدى رسائله إلى صديقة أمين الغربب «أنت في لبنان الجميل الهادئ، وأنا في بوسطن المفعمة بالحركة والضجيج، أنت في الشرق، وأنا في الغرب، ولكن، ما أقربك بعيداً يا أمين». حتى أنه يصف روحه بأنها تذهب إلى أقاصي الأرض ثم تعود.. «أنا من الذين يحفظون ذكرى الأشياء مهما كانت بعيدة ودقيقة». نمت المرأة مبكراً في حياة جبران العشريني، ومصادفه حضور اسم (ماري) في الغرب.. ماري هاسكل، وفي الشرق ماري زيادة، التي أحبت أن توقع باسم (مي زيادة). «امراة تحوك من أحلامه اليقظة، وامرأة تحوك من يقظته الأحلام»، ثم يعترف بدور المراة في حياته.. «أنا مديون بكل ما هو (أنا) إلى المرأة، منذ كنت طفلاً حتى الساعة، والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي».
ماري هاسكل السيدة الأمريكية التي تعرفت إلى جبران أطول مدة زمنية منذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره، وحتى توديعه الحياة.. وتعتبر المرأة (الداعمة) ماديا لجبران في مشواره الفني والأدبي، وساندته من أجل دراسة الفن في (رحلة باريس) وكانت ذواقة للفن التشكيلي تستجوبه عن لوحاته فيشرح لها، وسجلت لحظات مهمة من حياته اليومية، حيث يذكر توفيق صايغ «تصوره كيف يرسم، وكيف يتحرك، وكيف يبتسم، وينكت، ويحمل عصاه، ويأكل، تصف تهذيبه وعاداته، وساعات عمله، وطريقة عمله، والصعودات والهبوطات في صحته، وملابسه، وكمية أكله ونوع أكله، وقلة نومه، وكلامه وصوته ونبرته، وطريقة جلوسه وهو يكتب».
مي زيادة الصديقة الشفافة الخجولة التي حملت دفء الشرق.. تبادلا معاً رسائل أدبية قل نظيرها، ولكنها لم تكشف الكثير من الأسرار التي احتفظ بها جبران في أعماقه، وسادت أجواء الحوار الفكري على تلك الرسائل، وكان جبران يسافر عبر خياله إلى القاهرة زائراً عالم مي زيادة، التي تعتبر (الملهمة) لجبران، ولولا ولوجها الساحر لما أفاض جبران بذلك الإبداع..
لعبارات جبران التي يختتم فيها رسائله، لون خاص ودفء ولطف، ففــــي رســـــالته إلى صديقة سليم سركيس (تكرم بقبول تحيتي المشفوعة باحترامي وإعجابي).
 
٭ كاتب عراقي