Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Sep-2019

هل يمكن أن تغمس قدمك في النهر نفسه مرتين؟ فيتغنشتاين مقابل هيراقليطس

 الغد-ديفيد إيغان* – (أيون) 9/8/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
ذات مرة، قال الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein لأحد الأصدقاء: “أنا لست رجلاً متديناً، لكنني لا أملك سوى أن أرى كل مشكلة من منظور ديني”. وتميل هذه المشكلات التي يزعم أنه يراها من منظور ديني إلى أن تكون مسائل فنية متعلقة بالمنطق واللغة. وكان فيتغنشتاين قد درس الهندسة قبل أن يتحول إلى فلسفة، وهو يعتمد على استعارات دنيوية من التروس والرافعات والآلات. وعندما تجد كلمة “متعالٍ” في كتابات فيتغنشتاين، فإن من المحتمل كثيراً أن تجد عبارات وكلمات مثل “سوء فهم” أو “هراء” في مكان قريب.
عندما يرد على الفلاسفة الذين يضعون أنظارهم على غوامض ومعضلات أعلى، يمكن أن يكون فيتغنشتاين لا-أُبالياً ورافضاً بعناد. خذ هذه العبارة، على سبيل المثال: “الرجل الذي قال أنك لا يمكن أن تغمس قدمك في النهر نفسه مرتين كان مخطئاً؛ يمكن للمرء أن يغمس قدمه في النهر نفسه مرتين”. بمثل هذه التصريحات الصارخة، يبدو فيتغنشتاين أبعد عن أن يكون مفكراً دينياً وأقرب إلى أن يكون حَرفيّاً بطريقة فظة. لكن نظرة أكثر قُرباً إلى هذه الملاحظة يمكن أن تُظهر لنا -ليس فقط ما يعنيه فيتغنشتاين بـ”المنظور الديني”، وإنما ستكشف أيضاً عن فيتغنشتاين كمفكر ديني ذي أصالة مذهلة.
كان “الرجل” الذي أدلى بتلك الملاحظة عن الأنهار هو هيراقليطس Heraclitus، وهو فيلسوف ما-قبل-سقراطي وما-بعد-حداثي في الوقت نفسه، والذي تم اقتباسه على المواقع الإلكترونية لـ”العصر الجديد” واستشهد به الجميع -خارج السياق غالباً- بالنظر إلى أن كل ما نملكه من كتاباته لا يعدو كونه شذرات منعزلة. ما ذلك الشيء الذي يعتقد هيراقليطس أننا لا نستطيع فعله؟ بكل وضوح، أستطيع حقاً أن أقوم ببعض النقل لقدمي إلى الماء ومنه على ضفة نهر. ولكن، هل هو نفس النهر من لحظة إلى أخرى -بينما المياه التي تتدفق على قدمي تنسرب نحو المحيط وتنضم مياه جديدة إلى النهر من عند مصدره- وهل أنا نفس الشخص؟
إحدى القراءات لمقولة هيراقليطس تتصوره وهو ينقل رسالة باطنية. إننا نستخدم هذه الكلمة الواحدة، “نهر”، للحديث عن شيء في حالة تغير مستمر، وهو ما قد يخلصنا من الاعتقاد بأن الأمور ثابتة أكثر مما هي عليه بالفعل -بل من الاعتقاد بأن هناك أية أشياء مستقرة على الإطلاق. لا يمكن للغتنا المرتبطة بالأسماء (بالمعنى الصرفي) أن تلتقط التدفق المستمر للوجود. وما يقوله هيراقليطس هو أن اللغة أداة غير مناسبة ولا كافية لغرض وصف الواقع أو تصويره.
ما يجده فيتغنشتاين مثيراً للفضول في الكثير من تصريحاتنا الفلسفية هو أنه على الرغم من أنها تبدو مهمة للغاية، فإن الفرق الذي تحدثه في أي شيء يبقى غير واضح. تخيَّل هيراقليطس وهو يقضي فترة ما بعد الظهر بجوار النهر (أو ذلك التدفق المستمر للحظات شبيهة بالنهر، إذا كنت تفضل ذلك) مع صديقه بارمينيدس، الذي يقول إن التغيير مستحيل. ربما يخوضان عندئذٍ في جدال ساخن حول ما إذا كان النهر المزعوم متعدداً أم واحداً، لكنهما يستطيعان بعد ذلك الذهاب لممارسة بعض السباحة، أو الحصول على مشروب بارد لإنعاش نفسيهما، أو التسلل إلى بعض المخاضات لممارسة القليل من صيد الأسماك. إن أي شيء، وأقل جزء، من هذه الأنشطة لم يتغير على الإطلاق بسبب الالتزامات الميتافيزيقية للشخصَين المتنازعَين.
يعتقد فيتغنشتاين بأنه يمكننا أن نكون أكثر وضوحاً إزاء مثل هذه النزاعات من خلال تشبيه الأشياء التي يقولها الناس بحركات اللعب في لعبة ما. تماماً مثلما تعمل كل حركة في لعبة الشطرنج على تغيير حالة اللعب، فكذلك تغيِّر كل حركة تحادثية حالة اللعب فيما يسميه فيتغنشتاين لعبة اللغة. والهدف من الحديث، مثلما هو الهدف من تحريك قطعة شطرنج، هو “فعل” شيء ما. لكن الحركة تكون مهمة فقط لأن “تلك” الخطوة في “تلك” اللعبة قدمت قدراً معيناً من تكوين المسرح. حتى تفهم لعبة الشطرنج، يجب أن تكون قادراً على التمييز بين الأحصنة والفيَلة، وأن تعرف كيف تتحرك القطع المختلفة وما إلى ذلك. ولا يشكل وضع القطع على اللوحة في بداية اللعبة سلسلة من التحركات. إنه شيء نفعله لجعل اللعبة ممكنة في المقام الأول.
إحدى الطرق التي تربكنا بها اللغة، كما يعتقد فيتغنشتاين، هي أن أنشطة وضع القواعد وتكوين المشهد يحدثان بنفس الواسطة التي يتم بها التعبير عن التحركات الفعلية للعبة اللغة -أي الكلمات. إن عبارتي “النهر يفيض على ضفتيه” و”كلمة ’نهر‘ هي اسم” هما عبارتان سليمتان نحوياً، لكن الأولى فقط تشكل “حركة” في لعبة اللغة. بينما تلخص الأخيرة قاعدة من قواعد استخدام اللغة: إنها تشبه قول “الفيل يتحرك قُطرياً”، وهي لا تعود حركة في لعبة اللغة بقدر ما هي توضيح لكيف أن تحركات الفيل هي حركة في لعبة الشطرنج.
يريدنا فيتغنشتاين أن نعرف أن ما لا يتفق عليه هيرقليطس وبارمينيدس ليس حقيقة عن النهر، وإنما هو قواعد التحدث عن النهر. ويزكِّي هيرقليطس لعبة لغوية جديدة: واحدة تمنعنا فيها قاعدة استخدام كلمة “نهر” من القول بأننا خطونا في نفس النهر مرتين، تماماً كما تمنعنا قواعد لعبتنا اللغوية الخاصة من قول أن “اللحظة” نفسها حدثت في مرتين مختلفتين. ولا حرج في اقتراح قواعد بديلة، شريطة أن يكون المرء واضحاً إزاء أن هذا هو ما يفعله. إنك إذا قلت: “الملِك يتحرك تماماً مثل الوزير”، فأنت إما تقول شيئاً خاطئاً عن لعبة الشطرنج كما نمارسها؛ أو أنك تقترح نسخة بديلة من اللعبة -والتي قد تكون أو لا تكون ذات أي نفع. وتكمن مشكلة هيرقليطس في أنه يتخيل أنه يتحدث عن الأنهار وليس عن القواعد -وهو، في هذه الحالة، مخطئ ببساطة. إن الخطأ الذي نرتكبه غالباً في الفلسفة، وفقاً لما يقوله فيتغنشتاين، هو أننا نعتقد أننا نفعل شيئاً معيناً بينما نقوم في الواقع بفعل شيء آخر.
ولكن، إذا استبعدنا تلك الملاحظة عن الأنهار باعتبارها خطأ ساذجاً، فإننا لن نتعلم أي شيء منها. ويحذر فيتغنشتاين: “بمعنى ما لا يمكن للمرء أن يهتم أكثر مما يجب بمعالجة الأخطاء الفلسفية، إنها تحتوي على الكثير من الحقيقة”. قد لا يفعل هيراقليطس وباريميندس أي شيء مختلف نتيجة لاختلافاتهما الميتافيزيقية، ولكن هذه الاختلافات تتحدث عن مواقف مختلفة بشكل هائل تجاه كل شيء يفعلانه. وقد يكون هذا الموقف عميقاً أو ضحلاً، جريئًا أو هياباً، ممتناً أو نكِداً، لكنه ليس صحيحاً أو خاطئاً. وبالمثل، فإن قواعد لعبة ما ليست صحيحة أو خاطئة -إنها المقياس الذي نحدد به ما إذا كانت التحركات “داخل” اللعبة صحيحة أو خاطئة- لكن ماهية الألعاب التي يعتقد المرء أنها جديرة بلعبها، والكيفية التي يقيمُ بها الصلة مع القواعد بينما يلعبها، يقول الكثير عنه.
ما هو الذي يدفعنا إذن -نحن وهيراقليطس- إلى اعتبار هذا التعبير عن الموقف حقيقة ميتافيزيقية؟ فلنتذكر أن هيراقليطس يريد إصلاح ألعابنا اللغوية لأنه يعتقد أنها تسيء تمثيل الطريقة التي هي عليها الأشياء حقاً. ولكن، فكر في ما قد يتعين عليك القيام به لتقييم ما إذا كانت ألعابنا اللغوية مناسبة أكثر أو أقل لحقيقة نهائية ما. يجب أن تقارن بين شيئين: لعبتنا اللغوية الخاصة، والحقيقة التي يُقصد منها تمثيلها. بمعنى آخر، يتعين عليك أن تقارن الواقع كما نقدمه نحن لأنفسنا بالواقع المتحرر من كل تمثيل. لكن هذا غير منطقي ولا معنى له: كيف يمكنك أن تقدم لنفسك كيف تبدو الأمور المتحررة الخالية من كل أشكال التمثيل؟
إن حقيقة أننا ربما نشعر بإغراء افتراض أننا نستطيع أن نفعل ذلك تتحدث عن توق إنساني عميق إلى الخروج من جلودنا. ربما نشعر بأننا محاصرون وعالقون في وجودنا الجسدي، والمحدود زمنياً. وهناك نوع من الدافع الديني الذي يسعى إلى تحريرنا من هذه الحدود: إلى التسامي بذواتنا المحدودة المتناهية وإجراء اتصال مع اللامتناهي. ويدفعنا حافز فيتغنشتاين الديني في الاتجاه المعاكس: إنه لا يحاول إرضاء تطلعاتنا إلى السمو، وإنما يحاول إبعادنا عن هذا الطموح جملة وتفصيلاً. والتحرير الذي يقدمه ليس انعتاقاً من ذواتنا المقيدة، وإنما من أجل ذواتنا المقيدة.
تأتي ملاحظة فيتغنشتاين عن هيراقليطس من نسخة مكتوبة على الآلة الكاتبة من أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان فيتغنشتاين يشرع للتو في صياغة فلسفته الناضجة التي ستُنشر بعد وفاته تحت عنوان “تحقيقات فلسفية” (1953). ولعل جزءاً مما يجعل هذا العمل المتأخر مميزاً هو الطريقة التي يمتزج بها فيتغنشتاين -الذي يرى كل مشكلة من منظور ديني- بالمهندس ذي التفكير العملي. إن التكهنات الميتافيزيقية، بالنسبة لفيتغنشتاين، هي مثل التروس التي أفلتت وتحررت من آلية اللغة والتي أصبحت تدور بجموح فالتة من السيطرة. ويريد فيتغنشتاين المهندس أن يجعل الآلية تعمل بسلاسة. وهذا بالضبط هو المكان حيث تقطن البصيرة الروحية: إن هدفنا، إذا ما فُهم بالشكل الصحيح، ليس التسامي وإنما لا يتعدى كونه تحقيق حضور مُستثمَر بالكامل. وفي هذا الصدد، يعرض فيتغنشتاين مقاربة تقنية بشكل خاص لطموح يجد لنفسه تعبيراً في الصوفيين، من ميستر إيكهارت Meister Eckhart إلى رُهبان “زِن” Zen ((1: ليس الصعود إلى حالة من الكمال، وإنما إدراك أن المكان الذي أنت فيه الآن، مسبقاً، في هذه اللحظة، هو كل الكمال الذي تحتاجه.
 
*أستاذ مساعد زائر في قسم الفلسفة بكلية كاني هنتر في في نيويورك. وهو مؤلف كتاب “السعي إلى فلسفة موثوقة: فيتغنشتاين، هيدغر، واليومي” (2019).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Can you step in the same river twice? Wittgenstein v Heraclitus
هامش:
(1) Zen مدرسة للبوذية المهايانانية التي نشأت في الصين خلال عهد أسرة تانغ، والتي كانت تعرف في ذلك الحين باسم “مدرسة تشان”، وتطورت لاحقاً إلى مدارس مختلفة. وقد تأثرت بشدة بالفلسفة الطاوية، خاصةً الفكر الداويوي الجديد، ثم تطورت كمدرسة مميزة للبوذية الصينية.