Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-Nov-2017

الهوية والعنف الأعمى - حسن أبو هنية

الراي -  تكشف المجزرة البشعة التي استهدفت مصلين في مسجد الروضة غربي مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء أثناء أداء صلاة الجمعة في 24 تشرين الثاني 2017 المدى الخطير الذي يمكن أن تبلغه الحقبة الجديدة من العنف المرتكز على الهوية عبر تخريب النسيج الاجتماعي بتحويل السكان المدنيين المحليين إلى أدوات بين قوى مسلحة متنافسة حيث تختزل خياراتهم الحيوية الوجودية بدوائر هوياتية اختزالية مغلقة تنبني على أوهام ثنوية قطعية معنا أو ضدنا وتتعامل مع المواطنين باعتبارهم بيادق في حروب تفرض عليهم خيارات كارثية في سياق فرض الهيمنة والسيطرة.

 
الهجوم الأشد هولا على صعيد عدد ونوع الضحايا من المدنيين لم تتبناه أي جماعة حتى الآن، وقد أسفر حسب النائب العام المصري، عن سقوط 305 قتلى، بينهم 27 طفلا، في حين بلغ عدد الجرحى 128 جريحا، وبحسب المدعي العام فإن عدد المهاجمين راوح بين 25– 30 مهاجما، كانوا يرفعون علم (داعش)، علما أن التنظيم لم يعلن بعد مسؤوليته عن الهجوم، وأضاف أن منفذي الهجوم وصلوا المكان بواسطة خمس مركبات رباعية الدفع، كما أضرموا النيران بمركبات المصلين في المكان.
 
ترتبط الحقبة الكونية الجديدة من العنف في عصر العولمة بالهوية، ولا جدال بأن الهوية تتكون من مجموعة من العوامل التي تمنح الإنسان على الصعيدين الفردي والمجتمعي جملة من الروابط تمنحه الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وهو شعور يضمن استمرارية الجماعة، ويحمي كيانها، فحينما يختفي هذا الشعور تبدأ الجماعة في مواجهة مصير التفكك؛ فالمفهوم السوسيولوجي للهوية قائم على تعريف وتمثل الجماعات لنفسها وصيغ فهمها للروابط التي تقيمها مع غيرها، ولما تعتقده من طبيعة كينونتها؛ أي ما يمثل بالنسبة لها ضرورة لوجودها.
 
لا تستمد الهوية كينونتها من ذاتها فقط، بل من المفارق لها أيضا؛ أي مما ينفصل عنها وليس فقط مما يتصل بها، ومن ثم لا معنى لمطلب الهوية بمعزل عن التميز والاختلاف اللذين يمثلهما الآخر، إذ تلعب المسافة بين الأنا والآخر دورا في وعي الهوية، سواء في انغلاقها أو انفتاحها؛ إذ لا تتحقق للهوية توازناتها من خلال الذات فقط، بل أيضا من خلال الآخر.
 
انشغلت ماري كالدور في كتابها (الحروب الجديدة والحروب القديمة: تنظيم العنف في حقبة الكونية)، بمنطق الحروب الجديدة التي تستند إلى الهوية التي برزت في عصر العولمة بعد نهاية الحرب الباردة، كما انشغل أمارتيا كومار صن في كتابه (الهويَّة والعنف: وهم المصير الحتمي) بذات الموضوع، وتُستخدم الهوية في (الحروب الجديدة) وسيلة من قبل المقاولين السياسيين للوصول إلى السلطة، والمقصود بالهوية هنا وفق تعريف كالدور وكومار لها، مشترك تصح في تعريفه أكثر كلمة (الثقافة) حيث ينتمي من يحملون هوية مشتركة إلى ثقافة معينة، وليسوا بالضرورة من أصول عرقية واحدة، وقد يكون القاسم المشترك، إثنياً أو دينياً أو مذهبياً أو لغوياً، أو أي شيء آخر يستطيع السياسيون استثماره.
 
إن استخدام الهوية للتعبئة السياسية بغية الوصول إلى السلطة حسب كالدور وكومار يقوم على تجميع الناس تحت شعارات ولافتات تتيح فرزهم بعضهم عن بعض، إذ لا تعنى السياسة على قاعدة الهوية باكتساب (قلوب وعقول) الناس، بل تتعاطى مع من تصنّفه كمختلف بالتخلّص منه، من خلال القتل، أو الفرز السكاني والتهجير والتطهير، فهي سياسة إقصائية، حيث تتناقض السياسة المبنية على الهوية في هذا مع أشكال التعبئة السابقة، التي كانت تقوم على قاعدة تبنّي أفكار بعينها من مثل الإشتراكية أو الحرية الاقتصادية، أو النضال من أجل البيئة، وغيرها من المبادئ.
 
إشكال العلاقة بين الهوية والعنف من أكثر الاشكالات الراهنة خطورة وأشدها ضررا، وقد تناولها المفكر الهندي أمارتيا كومار صن بعمق، وبنى تصوراته على خلفية ما طبع طفولته منذ سنة 1947 عندما عاش وسط مشاهد القتل وهو في الحادية عشرة من عمره، وذلك في الاحتراب الطائفي الذي اندلع بين المسلمين والهندوس، كان هذا الحدث فاجعة بالنسبة إليه، ومنذ ذلك الحين وسؤال الهوية والعنف يؤرقه، وتساءل لماذا يُقتل شخص ما فجأة؟ ولماذا يُقتل من طرف أناس لا يعرفونه أصلاً وقد لا يكون قد سبب أيّ أذى للقتلة؟ وهل يحق لأي شخص أن يقتل الآخرين لأنهم أعضاء في جماعة مغايرة لجماعته؟.
 
أثارت الجريمة المروعة في مسجد الروضة في سيناء يتبع أحد الطرق الصوفية مرة أخرى جدلا واسعا حول هوية الجهة المنفذة وماهية الأسباب والدوافع الباعثة على الجريمة، وعلى الرغم من عدم تبني أي جماعة للمجزرة إلا أن التداول والنقاش أخذ منحى التعرف على طبيعة العلاقة بين الحركات الجهادية والطرق الصوفية ومعرفة الأسس الإيديولوجية والتاريخية والفقهية الحاكمة للصراع والنزاع وحدوده وآفاقه المستقبلية، فمن الناحية التاريخية قبل انهيار نظام الخلافة العثمانية في إطار (دار الإسلام) شهدت العلاقة بين السلفية والصوفية توترا وصراعا على تأويل الإسلام وتمثيله، حيث ادعى كلاهما خروج الآخر عن الإسلام القويم والتلبس بالكفر، لكن الاختلاف كان يدبر ويدار في دوائر الحوار والجدال والمناظرة دون الصدام والحرب والقتل، وكانت مؤسسة القضاء تتولى الفصل في النزاع وإصدار الأحكام.
 
في سياق العنف المرتبط بالهوية لا بد من إعادة النظر بتأسيس هوية منفتحة على أكثر من بعد للخروج من أفق الهويات المغلقة القاتلة، إذ تهيمن على الثقافة السائدة في العالم العربي رؤية سلفية طهورية تختزل الحق والحقيقة بتصوراتها للواقع والتاريخ والإلهي والناسوتي، ولا بد من تجديد النظر بالسؤال المتعلق بالهوية وعلاقة الأنا بالآخر للخروج من حالة الانسداد التي وذلك تعمل على شرعنة سياسة «الهوية» وتبديع سياسات «الاعتراف»، ولعل المتتبع لمسارات السلفية الإسلامية تاريخيا يلحظ طبيعتها السياسية الاجتماعية المسكونة بهاجس الهوية، كما يلمح مسارات التشدد في تصوراتها لذاتها وآخرها الداخلي والخارجي، فكلما انحدرنا في الزمان واشتدت المحن والابتلاءات الواقعية والمتخيلة زاد انغلاقها وغدت الهوية محركها الفاعل وضعفت تفاعلاتها مع الزمان والمكان نتيجة الفزع من فقدان الهوية والخوف من الاعتراف بالآخر، الأمر الذي طبع سلوكها بالعنف المادي والرمزي كآليات دفاعية في مواجهة جرح الهوية النرجسي.
 
يجب إعادة النظر وتجديده في مسألة الهوية والانتقال إلى سياسات الاعراف المؤسسة على الحوار والاختلاف في التراث الإسلامي، يجنب الأمة الإسلامية حالة العنف والتطرف والاستبداد والفساد التي تنتجها سياسات الهوية، ولا يمكن أن يهدر هذا الحق الإنساني بحجج الاتباع ومفارقة الابتداع، ذلك أن آفة العنف والتسلط والجمود والانغلاق لا يمكن مواجهتها إلا بمزيد من الحوار وقبول حق الاختلاف، فالسمة البارزة للحضارة الإسلامية تستند إلى الممارسة الحوارية، والاختلافيه النقدية، كل ذلك من أجل إعادة بناء المجتمع والأمة على أسس علمية وأخلاقية راسخة تمهد للدخول في صناعة الحضارة الأخلاقية الكونية، وفتح الأبواب التي أغلقت منذ زمن، والدخول في أفق الحرية والتعددية وحقوق الإنسان التي تعزز بناء الذات من خلال الاعتراف تجنبا لترسيخ مجتمع الاحفاد والاحتقار.