الدستور-مهدي نصير
«وسط البلد: خمسون عاماً في عمَّان» لمحمد أبو عريضة والصادر هذا العام 2024 عن دار اليازوري للنشر والتوزيع هو في جوهره سيرةٌ حميمةٌ للمكان، سيرةٌ لوسط عمَّان بأماكنه ومقاهيه ومحلاته ومكتباته ومدارسه وشخصياته التي ملأت هذه الأماكن بحضورها وغيابها، بحزنها وفرحها، بأخلاقها ورجولتها، وبشذوذها ورعونتها وسفالتها.
«وسط البلد» سيرةٌ لقاع عمَّان العميق من سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، حضر فيها ساحةُ فيصل بأماكنها العتيقة والعريقة: حضر مقهى الأوبرج ومقهى الجامعة العربية ومقهى كوكب الشرق ومقهى السنترال وساحة فيصل ومطعم هاشم وفلافل وزقاق فؤاد وزقاق الأوبرج ومطعم القدس وبار بيترو وبار الشرق وكليف هوتيل، وحضر كشك الثقافة العربية وكنافة محمود حبيبة وشارع السلط والشابسوغ وطلوع جبل الحسين، حضر سينمات عمَّان الأولى وشغف الراوي بها ووصفه لأجوائها وأماكنها وأفلامها وروادها وقصصهم وممارساتهم المخجلة أحياناً والطفولية أحياناً أخرى، ودائماً كانت هذه الأماكن وناسُها جزءاً من الوثيقة التي تؤرِّخ لمرحلةٍ مهمةٍ من تاريخ عمَّان.
تحرَّك في هذا الفضاء المكاني أصحاب وروَّاد المقاهي والمطاعم والمكتبات والسينمات والأزقة والزوايا التي ارتبطت بمهنٍ وأسماءٍ من مختلف طبقات المجتمع العمَّاني الذي كان يتشكَّل، حضر مثقفو عمَّان وموظفوها وتجُّارها وعمُّالها ومعلموها وطلاَّبها وشرطتها وصمُّها وبكمُها ومجانينها، حضر مروِّجو حبوب المخدرات والهلوسة والدعارة والجريمة والتهريب، ورافق ذلك سردٌ قريبٌ وحميمٌ لقصص ومآسي الكثير من هذه الشخصيات الحقيقية التي عاشت وما زال بعضُها يعيش ويرتاد «وسط البلد».
هذه الحكايات الحقيقية والواقعية مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالنزوح الفلسطيني عام 1967 إلى عمان وباقي المدن الأردنية وشكَّلت توثيقاً عميقاً وصادقاً كوثيقةٍ تاريخيةٍ لهذا النزوح الإجباري لعائلاتٍ فلسطينيةٍ بأكملها من غرب النهر ومن بطش الصهاينة ومذابحهم اليومية المبرمجة لتفريغ الأرض الفلسطينية من أهلها وإحلال مهاجرين صهاينةٍ جددٍ مكانهم – في بيوتهم ومزارعهم وزيتونهم وكرومهم -، ومن جانبٍ آخر وثقت هذه الحكايات لمرحلةٍ مهمةٍ من نشأةِ عمان وتطورها مكانياً وبشرياً وتجارياً وعمرانياً.
وأنتَ تقرأ هذه الحكايات تجد نفسك تتجول مع محمد أبو عريضة في وسط عمان ومقاهيها وروادها وأنماطهم وشخصياتهم وطقوسهم وحزنهم وفرحهم وجنونهم ومرضهم وبكائهم وشذوذهم وقصصهم الداخلية وتناقضاتهم ومآسيهم التي تتبع الراوي بعضاً منها في انتقائيةٍ أتاحتها له الظروف وأتاحتها له أيضاً طبيعته الصحفية التي تبحث عن التوثيق، كلُّ هذا كان حاضراً وبقوةٍ وطزاجةٍ كأنك وأنتَ تقراؤهم تكاد تعرفهم وتؤشر عليهم.
كان كثيرٌ من شخصيات هذا العمل شخصياتٍ روائيةً عالجها محمد أبو عريضة بعفويته السردية والتي كانت عميقةً في التقاطاتها لهموم ومشاكل ومآسي الطبقات السفلى والوسطى المسحوقتين بالتشكُّل المُشوَّه والهجين والمرتبط أصلاً بطبيعة عمَّان كمركز تشكَّل سريعاً في مرحلةٍ حرجةٍ من تاريخ هذه المنطقة بعد معركة ميسلون وانهيار الحكم الفيصلي في دمشق وانتقال عدد كبير من رجالات هذه الحكومة إلى شرق الأردن والحجاز والعراق، لذلك تداخل بتكوين عمَّان الشامي مع الحجازي مع الشركسي مع الفلسطيني مع العراقي مع الأردنيين من بني صخر والعدوان والطفايلة والكركية والربداوية والبلقاوية ومعاً شكَّلوا عمَّان وشكَّلوا وسطها الجامع لكلِّ فسيفسائها .
في الجزء الأول من هذه الحكايات نقرأ سرداً ذاتياً لطفولة الراوي وعائلته الصغيرة وتنقلها من مكانٍ إلى مكانٍ آخر في محيط عمان ومناطقها التي كانت في طور التشكُّل، ذكريات الطفولة والمدرسة وزملائها وصداقاتها ومراهقات هؤلاء الزملاء والأصدقاء وقصص عشقهم وحبهم الطفولي ومشاغباتهم وأول وعيهم السياسي الطفولي وأول تفتح غرائزهم وتمرداتهم العفوية والبريئة، كلُّ هذا كان حاضراً بعفويته وتوقُدِهِ وطفولته المشتبكة بطفولة المكان الذي كان يتشكَّل.
في الجزء الثاني من هذه الحكايات استمر الراوي (محمد أبو عريضة) برواية وتوثيق المكان في وسط البلد ورواية قصص من سكنوا وأقاموا وعاشوا وشكَّلوا جزءاً من هذه الذاكرة الثرية والعميقة والصادقة لوسط البلد، وهذه الشخصيات واللغة التي استعملها الراوي في تجسيدها كانت لغةً روائية فصيحةً وبسيطةً وعاليةً ومشرقةً في الوقت نفسه، حضر طيف واسعٌ من الشخصيات العمَّانية الحقيقية والتي رسمها بلغته الصحفية الدقيقة صحفيٌّ ماهرٌ في التقاط المهم من الأحداث والشخصيات التي تؤشِّر لنمطٍ ومرحلةٍ ما زال بعضُها موجوداً وقادراً على توليد مثلِ هذه الشخصيات : حضرت شخصية محمد أبو عريضة كراوٍ وحضر زملاء وأصدقاء طفولته ومدرسته، ماجد الأنيق وجوري المعشوقة الأولى وصبايا وبنات مدرسة سكينة بنت الحسين ومدرسة راهبات الناصرة في جبل الحسين وغيرهم الكثيرون، حضر أبو طويلة الخياط قصير القامة، وأبو زكي وأبو عيسى ومرشد وراشد وشفيق ماسح الأحذية ونقيب الخرسان، حضر أبو علي صاحب كشك الثقافة العربية وحضرت بعاطفة قوية والدة الراوي هذه الأم المكافحة والعظيمة، حضر النادل المصري الشاعر والمثقف حسين والذي كان يعمل نادلاً في مطعم هاشم والذي عرَّف الراوي على أمل دنقل ونجيب سرور، وحضر بقوةٍ قاع عمَّان، حضرت فاطمة الصعلوكة والفتوَّة وربما البطرونة، وحضر التسعاوي وأبو نديم ومجيد وتهاني وأبو غسان وأبو فاطمة وغيرهم والذين شكَّلوا القاع القذر والملوَّث لقاع عمَّان، وحضر الطيبون والمثقفون والبسطاء : بائع الفستق السوداني أبو أحمد النيجيري بطيبته وبساطته وحضر القاص والصحفي رسمي أبو علي وأبو سالم بطل طاولة الزهر في مقاهي عمَّان وحضر الشنب معلم الطوبار وحضر الأستاذ ممتاز وأبو طارق وأبو خلدون ومناور الطفيلي وأبو الفوارس الشامي ونابليون وجنونه وأبو فخري والسيفان المهندسان، وحضر أيضاً عدنان « أحمد معهم « المخبر الغامض وأتُّو بائع اليانصيب وماهر أبو السوس المثقف الهش وأبو سمير حامل الشنطة، حضر أحمد ونبيل بصورتهما الكاريكاتورية كمنتسبين للماركسية والعمل الحزبي وحضر مقابلهما ضابط الشرطة النبيل، حضر « الحاج « اليافاوي وانكساره وحضر النادلان المصريان في مقهى كوكب الشرق رضا ورمزي أبناء كفر الشيخ، حضر العراقيون القادمون لمقاهي عمَّان بعد احتلال بغداد وحصارها، وحضرت الكورونا...، كلُّ هؤلاءِ كانوا يتحركون في دراما وسط البلد بقصصهم وأحلامهم التي كانت تحتاج لراوٍ كمحمد أبو عريضة ليوثِّقَ هذه الحياة وهذا الثراء.
أعادتني هذه الحكايات لحكايتي الخاصة مع عمَّان ووسط البلد الذي ما عرفته وزرته إلا عام 1979 وبعد إنهائي التوجيهي في مدينة الزرقاء، وتوطَّدت معرفتي بها أثناء دراستي للهندسة في الجامعة الأردنية، وأثناءها عرفت عمان ووسط البلد وهاشم والأوبرج وفؤاد وسينما بسمان والخيام وبالة شارع سقف السيل ومقهى الجامعة العربية والسنترال ومكتبة الشروق ومكتبة ابوعلي وسوق السكَّر وحسبة وسط البلد ومجمع رغدان وفندق فيلادلفيا الذي أزيل وحلت مكانه الساحة الهاشمية، عرفتُ بتلك الأيام التي لا تُنسى مكتبة الإستقلال والتي كان يوجهنا للشراء منها أستاذنا المصري في مادة الرسم الهندسي لشراء متطلبات ولوحات وأدوات الرسم منها، ومنها انطلقنا وفيها وحولها عرفنا ساحة فيصل بكل تفاصيلها المدهشة والتي شكَّلت قلب وسط البلد، وشكَّلت أيضاً قلبَ وروحَ هذا الكتاب.
في طفولتي وقبل أن أعرف عمَّان كان أبي وأعمامي الكبار يحدثوني عندما كان بعضهم يرافق جدي لحضور جلسات المجلس التشريعي الأردني الأول أعوام 1929-1931 - وبعدها حتى وفاته عام 1948 - وجلساتهم معه وهم أطفال ولاحقاً في أول شبابهم بمقهى حمدان، هذا المقهى الأول والأعرق في عمَّان والذي لا يأتي على ذكره محمد أبو عريضة في توثيقه لمقاهي وسط البلد وعندما سألته عن ذلك قال لي : لم أعاصر مقهى حمدان ولكن جزءاً منه هو الآن مقهى كوكب الشرق.
لاحقاً في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات وعندما كبرنا قليلاً كنا عندما نتأخر مساءً في مراسم كلية الهندسة أو أثناء هطول الثلج في شتاءات الجبيهة، كنا نهبط على مراحل لوسط البلد وبعض هذه المراحل كان مشياً على الأقدام لمسافاتٍ طويلةٍ لعدم توفر مواصلات عامة في أوقاتٍ متأخرة ولعدم توفر قدرة مالية لأخذ تكسي من الجامعة لوسط البلد، كنا نتعشى أو نُفطر عند هاشم ونتوزع بعدها إما إلى جولات في وسط البلد أو إلى إحدى مقاهي هذا الوسط المدهش ثُمَّ يذهب كلٌّ منا إلى بيته في الزرقاء أو الأشرفية أو الوحدات والمريخ ووو، هذه الحكايات في هذا الكتاب أيقظت فينا حكاياتنا الخاصة مع وسط البلد، وستوقظ في كلِّ من يقرأه حكايته عن وسط البلد : هذا المكان الحميم الذي لكلٍّ منا حكايته الخاصة معه.
محمد أبو عريضة في هذا الكتاب عاشقٌ كبيرٌ لعمَّان التي شكَّلت طفولته ومراهقته وشبابه وشكَّلت شخصيته التي هو عليها الآن، من أكثر الصور صدقاً في هذا الكتاب كان تصوير وتوثيق وسط البلد الفارغ من كل مظاهر الحياة أثناء جائحة الكورونا والتي رسمها محمد أبو عريضة بحسٍّ عميقٍ وانتماءٍ لكلِّ تفاصيل هذه المحبوبة التي اسمها عمَّان، سأقرأ معكم هذا المقطع من الصفحات الأخيرة في هذا الكتاب الثر والثري في عشق الراوي الحكَّاء محمد أبو عريضة لمدينته الأثيرة عمَّان:
«تجوّلتُ في محبوبتي، ناجيتُها طويلاً، تفقدتُ تفاصيلها المدهشة. أوّل الأمر أبَتْ واستمنعَتْ، لكني من شدة اشتياقي ركعتُ عند أقدام ساحة فيصل، ما بين شرفتي «السنترال» و»الأوبرج»، ابتهلتُ إليها، ناجيتها، قبّلتُ تفاصيلها، رجوتُها أن تسامح زلّتي، ووعدتُها أن لا أغادرها أبداً، وأن أرفض كل مغريات السفر.
في طريق العودة إلى البيت، وأنا أحتضن كلماتها الأخيرة، سألتُ نفسي: هل حقاً عمّان مكان جميل؟
أليست دمشق أجمل؟
أليست بيروت أحلى؟
أليست موسكو التي أحبها كثيراً أبهى؟
أليست روما أكثر رشاقة؟
أليست باريس أشد تورُّداً؟
أليست الحياة في القاهرة أقل تكلفة على الأعصاب؟
ألا تجاور عدن الجنّة؟
ألا تمنحك بغداد فرصة للتجوُّل في صفحات المجد؟
أليست القدس الأقدس على وجه الأرض؟
ومكة والمدينة المنورة أكثر قرباً إلى الله؟
أليست الخليل مدينتك، التي وُلدت فيها وتنتمي إليها؟
أليست يافا سيدة البحر؟
وعكا قاهرة الغزاة؟
التساؤلات كثيرة، لكني لم أتردَّد في الإجابة: عمّان هي الأجمل بين كل مدن الأرض. «
ملاحظةٌ أخيرةٌ لا بُدَّ منها:
في هذا الكتاب تمَّ تسميةُ كلِّ فصلٍ من فصول الكتاب باسم المكان أو الشخص أو الأشخاص الذين يتحركون فيه، وسيلاحظ القارئ أن بعضَ الحكايات في بعض الفصول لم تُستكمل وكانت ناقصةً وأنويةً لحكاياتٍ لم يتمكن الراوي لنقصٍ في المعلومات الحقيقية من استكمالها، ونصحتُ الأستاذ محمد أبو عريضة أثناء قراءتي لمسودة الكتاب الأولى عن إمكانية دمج بعض الفصول وإعادة ترتيبها وحذف بعضها وملءِ الفراغات والنواقص في بعض الحكايات بتصوراتٍ روائية عن مآلات هذه الحكايات دون أن تكون موثقةً ولكنها تسير باتجاه حركة الحكاية، أي أن يحوِّل النص من سيرة مكانية زمانية وثائقية إلى نصٍّ روائيٍّ يستند إلى التوثيق في هيكله وليس في تفاصيله كما فعل الكثير من الروائيين العرب والأردنيين الذين استندوا على الوثائق كهيكل عام لرواياتهم.
أبارك لصديقي المبدع محمد أبو عريضة هذا العمل التوثيقي الإبداعي العالي الذي أرَّخ ووثَّق لمدينة عمان ووسطها النابض بالحياة والحكايات والمليء بالقصص والحكايا، والمليء بالبشر وحزنهم وخوفهم وجشعهم وجنونهم وسقوطهم وانتصاراتهم الصغيرة وأحلامهم وانكساراتهم وقصص حبهم وعشقهم وزهدهم وفجورهم وطيبتهم وخبثهم ومجونهم وخوفهم وعربدتهم وتصوفهم ووو، كلُّ هذا كان حاضراً في هذا العمل التوثيقي المميز الذي لو يعمل عليه محترفون في السينما والتلفزيون لحوَّلوه إلى عملٍ سينمائيٍّ بانوراميٍّ أو عملٍ تلفزيونيٍّ بانوراميٍّ رائع يوثِّق لعمَّان وتاريخها وعراقتها.