Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Feb-2021

الصورة الفنية في ديوان «أنا لست ظلي» للشاعر خالد السبتي

 الدستور-د. عاطف العيايدة

 
توطئة:
 
تعتمدُ التّجربة الشّعريّة المعاصرة في تشكيل الصور الفنيّة على إعادة تدوير المقتنيات البلاغيّة القديمة، وتقويضِ أركانِها التقليديّة من خلالِ خطابٍ شعريٍّ منفصلٍ عن المباشرةِ والمواجهة والتأطير، فقد شهدت الفنون الأدبية تطوّرا لافتًا اتّساقًا مع متغيّرات العصر، ومنها الشّعر الحديث بكافّةِ أشكالِه التعبيريّةِ، بحثًا عن التّجديد والتّفرّد وعدم محاكاةِ الهيكليّات البنائية النّمطيّة للصّورة الفنيّة.
 
وفي هذا السّياقِ الدّرسيّ سأقفُ على ديوانِ (أنا لستُ ظلّي) الصّادر عام 2020م، للشاعر الأردنيّ خالد السّبتي، موجّها أنظار الدراسة إلى الصّورةِ الفنّيّة في سياقِ بعضِ قصائده المنتقاة؛ والدافعُ لهذا الاتّجاه هو الاعتلائيّة الفنّيّة الرّفيعة التي وظّفها الشّاعر في ابتكارِ صورهِ؛ لتكونَ السّوار الّذي يستديرُ على معصمِ قصائدهِ الجميلة.
 
وأولى القصائد الّتي تطالعنا في مدار البحثِ هي قصيدة (أنا المسافر)، وهي من توابعِ شعر التفعيلة الّتي التزمت تفعيلة (مُتَفَاعِلُنْ) أو ما ينسل عنها من تفعيلات أخرى مثل: (متْفَاْعِلُنْ).
 
فعلى سبيل الاستشهاد نجد الشاعر يعبّر بصورةٍ فنيّة صارخةٍ عن مدىْ رغبته باستمراريّة السّفر الّذي يناديه، وهي تكمنُ في جملتِه الشّعريّة حيث يقول:
 
وأنا أسيرُ على رموشِ الوقتِ
 
مستنِدًا على صحفِيْ
 
فالمسيرُ من متطلّباتِ السّفرِ، ودونَ دفعِ الخطواتِ لا يتحقّقُ قطعُ المسافاتِ الّتي تحتاجُ إلى أوقاتٍ، فالشّاعر يبني مقولتَه على صورةٍ فنيّة طرفاها المسيرُ في استخدامه للفعل المضارع (أسيرُ) الدّال على الاستمراريّة، والوقت في ذكره للفظةِ الوقتِ صراحةً، وبين ذانك الطرفينِ يستخدم السّبتيّ لفظةً إيحائيّة مكتنزة الدّلالة استخدمها أغلبُ الشّعراء كعلامةٍ من علاماتِ الجمالِ، وهي لفظة (رموش).
 
وفي هذه المغايرة في تحويل الدلالةِ يرسمُ السّبتي صورةً فنيّة من طرازٍ جديدٍ، ويضعنا في قالبٍ تصويريّ مشوّق، فالرّموشُ طريقٌ يسلكها المسافرُ الّذي لا يلبثُ أنْ يستندَ من مسيره على الصّحفِ.
 
وفي قصيدة (موسيقى سوداء)التي اتّكأ فيها الشاعر على تفعيلة (فَعِلُن) و(فَعْلُن)يستصرِخُ فيها السّبتي ضياع وطنٍ عربيٍّ بأكمله، بعد سلسلة الانهزامات التي طالتْ كل بقعةٍ من بقاعهِ، وفي القصيدةِ استعراضٌ شعبيٌّ لمظاهر الحياةِ الاجتماعيّة المتمثلة في طقوسِ سكّانِ الأحياءِ والحارات والشّقق المفروشة، وصولًا لبائعاتِ الهوى والرّاقصاتِ وفوّالِ الحارةِ والبقّال والشّحّاذَ.
 
لقد استطاعَ السّبتيّ في قصيدتِه رصدَ مظاهرِ الحياةِ المغمّسة بطعمِ الفقرِ والموتِ والغربةِ والبحثِ عن وطنٍ يتحكّم فيه الغرباء، وأكثرُ صورةٍ شدّتنيْ كانت في قولهُ:
 
إنْ مرّتْ امرأةٌ أو ظبيٌ ضلَّ طريقَ العودةِ
 
حيثُ هناكَ بذاتِ الحيِّ
 
انقطعَ العزفُ على أوتارِ النّخوةِ كلَّ مساء..
 
إنَّ الملمحَ الصّوريّ في المقطوعة السّالفة متمثّل في عبارةِ (انقطعَ العزفُ على أوتارِ النّخوةِ كلَّ مساء)، وقد جاءِ في سياقِ الاتهامات الّتي وجّهها السّبتي للمجتمعات العربيّة الّتي تخلّتْ عن وقارِها وحضارتِها وقيمها وتراثِها وعاداتِها، حتّى وصلتْ إلى مرحلةٍ هابطةٍ من الانهزاميّة الأخلاقيّة أنْ لا تمرّ ببابِ حارتها امرأةٌ أو ظبيٌ جميل تائه فيكون في مأمنٍ على نفسِه من الاعتداءِ والتّصيّدِ.
 
وبعد المعنى الوتديّ الّذي بنى عليه السّبتي صورته الفنّية جاءت الصّورة مفتوحةً على أكثرِ من قراءةٍ وتوجيه، فقد تركتْ إحساسًا سحريًّا مقرونًا بتكثيفٍ لغويٍّ؛ لبناء القيمةِ الصّوريّة التي تطرقُ أبوابَالرؤية لدى المتقي، وتضعه في دهاليز الخيال.
 
فرغم الحالة التي وصل إليها المجتمعُ من الانفلات والتشرذم ظلّ الشاعر قابضًا على جمارِ مواقفه في عدم الانصياع لقرار الوقوفِ عن العزفِ على أوتارِ النخوةِ، وتكمنُ جماليّة الصّورة هنا في الانزياحِ الاستدلاليّ الذي يُعدُّ خروجا عن المألوف في خرقِ النظام اللغويّ المعتاد، من خلالِ توليداتٍ لغويّة لمعانٍ شعريّة جديدةٍ تتّفقُ مع الحالةِ النفسيّة المبطّنةِ للشّاعرِ.
 
أمّا في قصيدة (أتعبني الطّريقُ) الّتي عبّر فيها الشّاعرُ عن أوجاعِه لرحيلِ أستاذِه الدّكتور سامح الرّواشدة_رحمه الله_ فقد اعتلقتْ في نفسِ السّبتيّ ذكرياتُ الغيابِ الممزوجة بألمِ الحدثِ الجللِ لفراقِ عزيزٍ هدّهُ عناءُ المرضِ إلى أن أفضتْ روحهُ إلى بارئِها.
 
والقصيدة برمّتها شجوٌ حزينٌ على نافذةِ الوفاءِ لإنسانٍ يصعبُ في لحظةٍ من اللحظاتِ تخيّلُ غيابه المفاجئ عن الدنيا، وانطلاقًا من اجتماع نقيضين في سياق العبارة الشّعرية (الحضور_الغياب) أسّس السّبتيّ ركيزة الصّورة الفنيّة لإنتاج قيمةٍ جماليّة أقربَ ما تكونُ إلى عزفٍ على وترٍ مهترئٍ لطولِ ما مرّتْ عليهِ أناملُ الذّكريات.
 
يقولُ السّبتي:
 
يا اللّه
 
أتعبني الطّريقُ
 
وهدّني طولُ التّكهّنِ
 
فاصطفيني طائرًا
 
واطلِقْ خطاي..
 
تعبتُ من جسدي المريضِ
 
وليسَ يحملُني
 
لأكتبَ رؤيةً أخرىْ
 
وقدْ ثَقُلَتْ يدايْ..
 
تتمحور الصّورة الفنيّة في المقطعِ الشّعريّ السّابقِ في عبارةِ (وهدّني طولُ التّكهّنِ/ فاصطفيني طائرًا/ واطلِقْ خطاي..)، فرغمَ ذلك الانصعاق الشّديد والمرير على رحيلِ الفقيد إلّا أنَّ السّبتيّ يستدعي الحالة التي كانَ عليها أستاذه، ويبوح بصوته عن الأوجاع والآلام التي كانتْ ترزحُ على صدرهِ، وتمتدّ في سائر أنحاء جسده بسبب المرض.
 
وقد صوّر أستاذه وهو يتوسّل لخالقِه أن يصطفيهَ طائرًا بجناحٍ يحلّقُ وراء البرء ممّا ألمّ به من مرضٍ، داعيًا ربّه أنْ يمنحه فرصةَ الشّفاء ليطلقَ خطاه بعدما اشتدّ عليه المرض، وتعبَ من جسده المنهكِ، ولم يعدْ باستطاعته احتمال التّعبِ، ثمّ نجد الشاعر على لسانِ أستاذهِ يستذكر المقولات الرؤيويّة التي كان أستاذه يكتبها، ويفتحُ لها آفاقًا، لكنّه في حالةٍ لم تؤهله للسّيرِ قدمًا في بناءِ أحلامِ رؤياه، فقد ثقلتْ يداه.
 
فالقيمةُ الفنّيّة للصّورة السّابقة تعطي انطباعًا ضمنيّا عن حجمِ العواطفِ والتداعيّاتِ النّفسيّة الّتي تركتْ أثرَها في نفسِ الشّاعرِ بعدَ رحيلِ أستاذهِ الفذّ، حتّى أنّه يحاورُ الرؤى التي كانَ أستاذه يبتدعها، ويعيد المتلقي لذلك الميدان الفسيح من التدفّق الفكريّ الّذي كان ينهمرُ من لسانِ أستاذه عندما كان يلقي بظلاله على قاعات الدّرسِ، وينطلقُ صوته في مسامع تلاميذه الّذين تأثروا بمقولاته.
 
وفي قصيدة أخرى بعنوان (كنْ أنتَ أنت...) اتكأ الشاعر على تفعيلتي (مُتَفاعلن/ مُتْفاعلن) في مجاراة النّفس الشّعريّ الطويل وراء إثباتِ الذاتِ،والزّهو بالكبرياء، والتّمرّد على القوى الفرعونيّة الكرتونيّة، وقد تكرّرت لازمة العنوان (كنْ أنتَ أنتَ...وما أردتَ) بانسيابها الموسيقي الخفيف خمسَ مرّاتٍ، لتؤكّد على دلالةِ الإثباتِ وتحقيق الذَات، ومصارعة الحياة، فالنهايات لا بدّ منها والعبرة كامنةٌ في معرفةِ سرِّ البقاء.
 
وقد وقع نظري على صورةٍ فنيّة جاءت كخلفيّة للمناداة بالصّحوةِ من سباتٍ طويلٍ، حثًّا على الانعتاقِ من قوى الاستبداد، وذلك في قول السبتي:
 
كُن أنتَ أنتْ..وما أردتَ
 
فأنتَ وحدكَ من ترابٍ
 
أنتَ موصولُ التشّكلِ
 
مفردٌ بالطّينِ لا نارًا تخافُ
 
وإنْ تعالىْ رسْمُها..
 
لقد جاءت الصّورة الفنيّة بنمطٍ تقريريّ يُنشِدُ مسلّماتِ خلقِ الإنسانِ الّتي لا يُختُلَفُ عليها، بذكر مادّة الخلق الأولى (التراب)، وهو ما ميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وهذا بحدّ ذاته مصدرُ قوّة واعتزاز لسائر أبناء آدم الذي اختصهم الله على سائر من خلق، وهنا تتضافر العناصر التركيبية للصّورة الفنيّة لترسم مشهدًا فنيّا رائعًا، محاطًا بسياجٍ استعراضيٍّ لتأكيد المكانة الآدميّة، لتتحقّق بالتالي مقولة السّبتي في الدّفاع عن النّفسِ: كنْ أنتَ أنتَ..وما أردتَ.
 
وفي الختام فقد أجاد السّبتي في إنتاج صورٍ فنيّةٍ تؤكّد نضجِ التّجربة الشّعريّة لديه، وعمقِ القراءة وسعة الاطلاع على الأدبِ العام شعره ونثره قديمه وحديثه، ليتوّجَ ذلك بديوانٍ شعريٍّ حافلٍ بالقصائد المثمرة موضوعا ومعانيَ وصورًا فنيّة وسحرًا كلاميّا يبعثُ على الجري وراءه ابتغاء الانتشاء برائحة الإبداع الشّعريّ الغنيّ بمحتواه، ولا يفوتني تحفيز الدارسين على دراسة الديوان بصورةٍ مستفيضةٍ.