Tuesday 30th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Apr-2024

هل يمكن للمثقّف أن يقسّم نفسه في نفوس كثيرة؟!

 الدستور-غسان إسماعيل عبد الخالق

لأنني أحب أن أتجاوز حرفية الشروط التاريخية والمواصفات الشخصية والدلالات الاجتماعية؛ فإنني لا أملّ من استحضار عروة بن الورد، بوصفه شخصية ثقافية عامة، وهو يجأر ببيته الشعري الخالد: (أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد)! وهو البيت الذي دفع معاوية بن أبي سفيان ليتمنى أن يصاهر هذا الشاعر الفذ، كما دفع عبد الملك بن مروان ليتمنى أن يكون ابنًا لهذا الشاعر!
وبغض النظر عن تفسيرات موروثنا النقدي القديم، لهذا البيت الشعري الأسطوري – وبعضها لا يخلو من تمحّك شديد – فإن عروة بن الورد قد لخّص فيه ، مأساة المثقف العام المعطاء الملتزم؛ المثقف الذي يجد نفسه موزّعًا على الدوام، وربما على مدار الساعة، بين واجباته تجاه نفسه وبين واجباته تجاه الآخرين، بين رغبته الملحة في القراءة والكتابة وبين عتب عائلته وأحبته وزملائه وأصدقائه وقرّائه، بين همومه الشخصية التي يصعب – وقد يستحيل أحيانًا - أن يبوح بها لأحد وبين الاستماع لهموم المحيطين به، بين طموحاته الشخصية المشروعة وبين التفاني في تحقيق طموحات الواقع.
وفي حدود دائرة من عرفتهم ممن يستحقون لقب المثقف العام؛ فإن قلة قليلة منهم، اجتازت اختبار الموازنة بين العام والخاص بأقل الخسائر الممكنة، لأن بعضهم خسر أحبة وبعضهم خسر أصدقاء وبعضهم خسر قرّاء. ولم ألتقِ مثقفًا عامًا واحدًا، امتلك الثقة الكاملة ليقطع بأنه فاز بالحسنيين معًا. لكنهم كلّهم أجمعوا على أن (ألدّ) منافسي مشروع الكاتب أو برنامجه، هم أحبّهم للكاتب وأقربهم إليه، دون قصد منه ودون قصد منهم.
وأذكر أن مثقفًا من أعمدة الثقافة العربية – وكانت تربطني به صداقة وطيدة جداً – قد أهداني أحدث كتبه ووشّحه بعبارة حميمة جدًا، ثم سمعتني زوجته الطيّبة وأنا أترنّم بالإهداء، فهرعت إلى زوجها وهي تحمل نسخة من الكتاب، متمنية عليه أن يسطر إهداء مماثلاً لابن أختها، فما كان منه إلا أن استشاط غضبًا، ورفض رفضاً قاطعًا أن يهدي كتابه لمن لا يستحقه! وقد وجدتني بيني وبين نفسي، أعتب على صديقي الذي فاته في لحظة غضب، حسن النيّة الذي دفع بزوجته لتطلب ما طلبت، كما أشفقتُ عليها لأنها أخطأت في اختيار التوقيت والطريقة، لتعبر له عن مدى اعتزازها به!
مرة أُخرى سأعود لمحاولة تجسيد المشهد الملحمي الذي سطّره عروة بن الورد، في بيته العابر لكل حدود الزمان والمكان؛ فأراه يهرع إلى ظل شجرة كي يراقب من بعيد، كل أولئك الذين أمدّهم بشيء من نفسه ووقته وما ملكت يداه – ليكونوا كل ما أرادوا أن يكونوا – راضيًا وقانعًا من كل هذا، برشفة ماء على حد تعبير القدامى، وبفنجان قهوة وفقًا لتعبير عصرنا هذا. وربما ساورته أيضًا بعض من أحوال أولئك الذين اختاروا أن يعيشوا لأنفسهم، دون أدنى شعور بالذنب تجاه الآخرين الذين طالما مثّلوا (جحيمهم) بتعبير سارتر.
لقد ظلّت مقولة عروة بن الورد تتدحرج من عصر إلى عصر، حتى التقطها الشاعر الكوني محمود درويش، فأعاد إنتاجها من وجهة نظره الإبداعية والشخصية في قصيدته المذهلة (أنا لست لي)، وراح ينثر عبرها بعض ما اختزنه جدّه العبسي، وفق رؤية فلسفية تؤكد معاني الحق في الكتابة والمحو والحضور والغياب والوجود والعدم: (هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ هذا الرصيف وما عليه من خُطاي.... لي/ ومحطة الباص القديمة لي/ ولي شبحي وصاحبه/ وآنية النحاس... والمفتاح لي/ والباب والحرّاس والأجراس لي/ لي حذوة الفرس التي طارت عن الأسوار.... لي ما كان لي/ والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي/ وهذا الاسم لي... ولأصدقائي، أينما كانوا...)!