Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-Dec-2019

طالب الرفاعي وظل الشمس

 الدستور-د. إبراهيم خليل

 ينحو طالب الرفاعي في روايته ظل الشمس (الشروق 2012) منحىً جديدًا غيرمألوف، فهو كويتي يختار في حكايته، ويعالجُ أوضاع الوافدين المصريين إلى الكويت، فشخصيات روايته في الغالب من الشخصيات المصرية التي دفعت بها الحاجة المادية لمغادرة مصر، والسفر طمَعًا في  العثور على فرص يكسبون منها ما يعودون به إلى بلادهم، ويحققون به آمالهم في الحياة الكريمة، والاستقرار المريح. وحلمي هو أحد هؤلاء. شابٌ في الثامنة والعشرين من عمره. درس الآداب في جامعة القاهرة. وبعد تخرُّجه عمل مدرسًا للغة العربية بمرتَّب قدره 150 جنيها. وهو مرتب يكفيه اسبوعًا واحدًا ويقضي بقية الشهر بالديْن، والسُلف.
تغريه زوجته سنية بالسفر إلى الكويت، وزاده تشجيعًا أن الحاج متولي عم سنية مستعد لمساعدته على استصدار تأشيرة سفر إلى الكويت بعقد عمل، لكن هذه المساعدة ليست بلا مقابل، وإنما مقابل 1500 دولار وهو مبلغ يضطره لبيع الغالي والنفيس فضلا عن الاقتراض. وعندما علم أبوه بنيته السفر، اتسعت شقة الخلاف بينهما، قال له أبوه: لن تنفعك الكويت. وتوسلت له أمه ألا يسافر. وحتى سنية، وهي التي أوحت له بالفكرة، بكت ليلة سفره. ونعمة- زوجة الحاج متولي التي لا تخفي عشقها له، ووفرت له مبلغ ألف جنيه على سبيل الدين - أسفت بمرارة لسفره، وقالت له: لن تجد في الكويت واحدة مثلي.
وعلى وقع هدير الطائرة في الأجواء، وفي الساعات القليلة بين مغادرتها القاهرة، والهبوط بمطار الكويت، استعاد حلمي ماضيه بلياليه الحلوة والمرة. تذكر طفولته، والشجرة العجوز، وأيام المدرسة، والجامعة، وحكاية خطبته لسنية، وزواجهما، ومجيء الطفل الأول سعد الذي بلغ الثالثة من عمره. تذكر علاقاته بالآخرين؛ صالحة، وهدى، شقيقتاه. ونعمة. وعوض ابن الجيران الذي سافر للكويت قبله بسنوات. وسيّد، صبي المقهى، الذي طالما منَّ عليه بمبلغ من المال على سبيل الديْن عشية عيد الفطر، أو الأضحى. دسوقي زوج شقيقته درّيَّة الموجود في الكويت منذ سنين.. ومن ذكرياته هذه ينتشله شخص بقميص أبيض، وياقة منشاة، عرف منه أنه كاتب القصة الكويتي طالب الرفاعي, كان عائدًا على متن الطائرة من القاهرة إلى بلده الكويت، ومعه المجموعة القصصية « أبو عجاج طال عمرك «. وهو منكبٌ على تصفُّح الكتاب استخرج قصاصة ورق وبدأ يدوِّن فيها ملاحظات. عند الهبوط من الطائرة سلم عليه مودعًا، وأهداه الكتاب، وفيه قصاصة الورق، ليكتشف حلمي بعد ذلك أن في الورقة بعض الأسماء، ومنها اسمهُ، واسم منال.
 
 خيبة
ثمة لغزٌ غامض في هذه العلاقة السريعة العابرة بين مؤلف حقيقي هو طالب الرفاعي، ووافد إلى الكويت هو بطل الرواية ظلُّ الشمس، والسارد الوحيد فيها (حلمي). في الفصل الثاني من الرواية يتلقى حلمي سيلا من الصدمات التي توقظه من أحلامه على الرغم من لقائه بعدد من المصريين المقيمين أمثال دسوقي الذي سبق ذكره، والمعلم سباعي، والمهندس رجائي – الذي يتضح لاحقا أنه حرامي لهف رواتب العمال في شركة أبي عجاج للمقاولات، وولى هاربا إلى مصر- فتحي صديق المهندس رجائي، والشيخ حسن الذي يشغل وظيفة مهمة في الشركة، ولا تمر من بين يديه معاملة دون أن يتقاضى عليها خمسين، أو مائة، أو مئتي دينار كويتي .. ومن الذين عرفهم أيضًا، وكان لهم أثر فيما لقيه من إشكالات مدام نجاة الكويتية التي فتحت له قصرها المنيف ليعطي شقيقتها منال دروسًا خصوصية لقاء مبلغ يعادل خمسين جنيهًا عن كل درس، ومما يندهش له حلمي أنَّ منال هذه كان قد ورد اسمُها في جملة ما ورد في قصاصة الرفاعي.
على أن حلمي لم يطل به الزمن حتى يكتشف، وبعيد ثلاثة أشهر من قدومه، أن كل ما كان قد سمعه عن الكويت، وما فيها من العمل المتوافر بكثرة وفرة « الفش على القش « و» النقود التي على قفا من يشيل « ليس صحيحًا. وقدجاءت أولى الصدمات من عقد العمل الذي صُنفَ فيه كهربائيا لا مدرسًا، مع أنه لا يعرف في الكهرباء أي شيء. وقد حاول العثور على عمل – أيَّ عمل- ولو في التمديدات الصحية بلا فائدة. قضى ثلاثة أشهر قبل أن يجد ذلك العمل مع دسوقي، وسباعي، وغيرهما في سكن للعزاب بحي خيطان الشعبي .. يضيق ذرعًا بحرارة الجو الخانق، الدبق، بما فيه من غبار ناعم ينفذ في مسامات جلده، ويفرز عرقا يتصبَّبُ كثيرًا فيعوزه للاستحمام مرارًا (ص68) تزيد الطين بلة هاتيك الإجراءات المعقدة لاستصدار الإقامة، والتصريح المدني، والترخيص بالعمل، والكفالة، والشيخ حسن لا يوقّع ورقة إلا بعد القبض: خمسين أو أكثر، وعليه في هذه الحال أن يقترض، وعلى دسوقي أن يؤدي دور بنك التسليف، والإقراض. لقد هرب من الدين في مصر ليغرق فيه في الكويت. مع الفرق وهو أن الديون في الكويت أكبر، وأصعبُ سدادًا. يقول السارد حلمي: « ثلاثة أشهر قضيتها حبيس هذه الغرفة النحس. ثلاثة أشهر، وأنا بحسرتي.. الرائحة الخانقة، ودوي المكيف.. وصورة يسرى الملونة بملابس البحر.. أظلُّ مستلقيا أحدق في فراغ السقف المقشَّر.. لا أدري مخرجًا لورطتي. ولا أعرف أين أولي بوجهي.. « (ص80)
 
 ليلة قدر
حين اصطحبه دسوقي إلى فيلا مدام نجاة في حي النزهة – وهو حي مختلفٌ عن حي خيطان-  ظن أن أبواب السماء قد فتحت له في ليلة قدر، وأن مصائبه هانت، وأنه على كثب من الانتقال من العسر إلى اليسر. فهي مديرة مكتب المدير أولا، وثرية جدا ثانيًا « فرجَتْ يا عمّ. انبسط يا عم « قال له دسوقي (ص97). وعلى الرغم من أن منزل المدام يمثل لحلمي واحة ظليلة في صحراء قاحلة، ينم على ذلك فيضُ العبارات الرقيقة والشاعرية التي يصف بها هذا القصر، وما فيه من الرخام والزجاج الملون، المعشَّق، والأسوار الحديدية المشغولة، وبوابات الخشب العملاقة المحفورة بالزخارف، والشوارع النظيفة التي تصل أجزاء الحديقة بعضها ببعض، والأرصفة المزدانة بالبلاط الملون.. والسيارات الفارهة المصطفة أمام المنزل من أحدث الموديلات.. علاوة على الكرم الحاتمي الذي استقبل به حلمي ومرافقه دسوقي.. على الرغم من ذلك كله انقلب هذا النعيم جحيمًا عليه ووبالا، فإذا تجاوزنا الشرائح الوصفية للمكان، وتلك التي تتضمنها ذكريات حلمي عن منال، وتلميحاتها الغزلية، ورغباتها في أن تتخطى علاقة التلميذة بالمدرس الخصوصي إلى عشق ملتهب، والشهوة المحمومة في تبادل الغرام مع هذا الشاب العشريني وهي الفتاة القاصر التي لا تتصور تبعات ذلك، إذا تجاوزنا ذلك اكتشفنا أن الشاب على الرغم من حذره الشديد وقع في شرك هذه العلاقة، سواء أكان ذلك بفعل الضغوط التي تهيمن عليه بسبب الكبت، وحاجته للمرأة، أو تحت تأثيرالضغوط التي تسببها إغراءات الفتاة، فقد هوجم حلمي ومنال وهما متلبسان، وكانت هذه العلاقة سبَبًا في فضيحة كبرى قادته إلى السجن، والحكم عليه بالحبس لمدة خمسة عشر عامًا مع النفاذ.
في السابق، كان قد حاول الاتصال بطالب الرفاعي لعله يساعده. وقد فعل ذلك مرة واحدة. إلا أنه في المرة الثانية التي طلب منه تغيير الكفيل لعله يعمل مدرسًا في مدرسة خاصة بمرتب مئة دينار كويتي، رفض أن يقدم له المساعدة، ونصحه بدلا من ذلك بالعودة إلى بلاده. طالما أنه لا يجد عملا. تذكر عندئذ المثل الذي يقول من ترك داره قلَّ مقداره.
 
 مآسي المصريين
في هذه الرواية لا يكتفي المؤلف الرفاعي بتسليط الضوء على مأساة حلمي الذي طاف في الكويت بحثا عن الرزق فوجد عوضا عنه السجن. وإنما يسلط الأضواء أيضًا على مآسي المصريين الوافدين والمقيمين، وعلى مآسي غير المصريين. فمن بين الحكايات العابرة لأفق الحكاية قصة أكرم شاه الأفغاني الذي استدان من أحد الإقطاعيين في أفغانستان ليستخرج تأشيرة سفر للكويت، وفيها ارتكب جرم الانتحار تاركاً قصاصة كتب فيها أنه لا يحمل أحدًا مسؤولية انتحاره، وأنه يتحمل وزر هذه الجريمة وحده. وسويلم، وغيره من العمال الذين تأخرت رواتبهم وأجورهم خمسة أشهر ليسطو عليها المهندس رجائي بعد أن تسلمها، ويهرب بها إلى مصر. وعندما شكوا ذلك لمدير الشركة قيل لهم إنَّ أجوركم دفعت، وتسلمها المهندس رجائي، ولا يمكن أن يعاد صرفها مرة أخرى. ويلقي الضوءَ – علاوة على ما سبق- على الحياة التي يعيشها هؤلاء الوافدون. « فالعامل منهم يعمل مثل ثور الساقية.. يدور طوال الوقت. وإذا حدث أن توقف بسبب مرض أو أي سبب ثانٍ، فثمة مائة عامل آخر. فالعمل في الشركة عجلة جهنمية لا ترحم. لا يوم خميس.. ولا يوم جمعة. ولا عطلة رأس السنة.. ولا عطلة عيد. لا وقت لديهم للراحة. فالراحة ترفٌ لا يعرفه العمّال الغلابة « (ص135) وتسلط الضوء أيضًا على فنون الغش والفساد الذي يمارسه مدراء الشركات والمقاولون. ومن ذلك تركيب أنابيب الصرف الصحي من غير النوع الذي جرى تحديده في العطاءات. وهذا شيءٌ كشفت عنه مرويات المهندسيْن بكري، ورجائي، قبل أن يولي وجهه شطر مصر بأجور العاملين. (ص160- 162).     
 
 أسلوب القصة
ومن يقرأ هذه الرواية قراءة فنية مستقلة عن معاناة الشخوص التي تعبر عنها الحوادث، يلاحظ هيمنة أسلوب القصة القصيرة على المؤلف الرفاعي. ولو لم تشر الكلمة على الغلاف الأخير لإسهاماته في القصة القصيرة ومنها مجموعة « أغمض روحي عليك «، و « مرآة الغبش «، و» حكايا رملية «، و» سرقات صغيرة «، و «الكرسي» لاكتشف القارئ بنفسه أنَّ هذا المؤلف من المخلصين للقصة القصيرة إخلاصا شديدا شأنه في ذلك شأن الكاتب المُخضْرَم محمود الريماوي. فالرواية من البداية لا تتعدى موقفا واحدا هو خيبة المسعى التي لقيها حلمي – أستاذ اللغة العربية الجامعي- من قدومه للكويت مغادرًا قريته، وأسرته، بحثا عن الرزق، على الرغم من أن كثيرين حذروه، ونصحوه، وألحّوا عليه أن من ترك داره قل مقداره. ومع أن المؤلف يجعل روايته هذه في أربعة فصول، إلا أنها تبدو لنا فصلا واحدًا مترابطًا بؤرته التي تجتمع فيها خيوط السرد هي مأساةُ حلمي، الذي لا يفتأ يتنقَّلُ بنا من الكويت إلى مصر، ومن مصر إلى الكويت. فالمشْهدان المكانيان يتواليان على شاشة الذاكرة، ويتتابعان في الكوابيس تارةً، وفي الأحلام تارةً أخرى.
ومهما يكن من أمْر الشخوص التي حشدها المؤلف في فصول الحكاية: الأب، والأم، وسنية، ونعمة، والحاج متولي، وعوض، ومحمود، وسيد، ودسوقي، وسباعي، ودريَّة شقيقة حلمي، وطالب الرفاعي نفسه، وأخرين مثل: سويلم وجسوم العراقي ومرسي المهندس- رأس الأفعى- وتاج الذي يتلقى الرشوة عن كل معاملة، وجون الهندي، وبكري المهندس، ومدام نجاة، ومنال، على الرغم من هذا العدد من الشخوص فإنها في الواقع تقتصر على أداء الدور الذي يعمق مأساة حلمي، لا أكثر. فلا يذكر أحد من هؤلاء إلا لأنه أسْهم في هذه المأساة بصورةٍ أو بأخرى. فالغرضُ من هذه القصة – إذن- هو تصوير محنة السارد – حلمي- وهو موقفٌ واحد يمكن أن تعبر عنه مفردة الندم، الذي بدَّد أحلامه، وآماله بالاستقرار المادي، مستبدلا ذلك بالحبس على ذمة فضيحة كبيرة لا تليق بمدرس سابق.
 
 تداعيات
وهذا النسيج من الحوادث تتخلله تداعياتٌ تذكرنا أيضا بأسلوب الكاتب القصصي. ففي كل موقف يمر به حلمي تنثال عليه عبارات أبيه تارةً، أو كلمات سنية، أو وعود الحاج متولي، أو كلمة نعمة « لن تجد في الكويت واحدة مثلي « أو بعض ما في رسالة دسوقي التي حذره فيها من السفر والقدوم للكويت. وحتى العبارات التي كتبت بها الرواية، بصفة عامة، تذكرنا بلغة القصة القصيرة. وهذا نموذج واحد من نماذج كثيرة تؤكد ذلك « الشمسُ بالكاد توارت. شمس غير التي أعرف. شمس معاندة. تود لو تظل على رؤوس العباد ليلا نهارًا. شمس صحراء قاسية. تصب الرصاص المصهور على رؤوس البشر.. شمس أغسطس الحارقة. شمس تحرق ظلها.. وتتركه صهْدًا لبقية الليل « (ص108) والحوار في الرواية لا يختلف عن حوار الشخوص في القصة القصيرة، فهو – في الغالب والأعم- عباراتٌ مجزأة، يكثر فيها الحذفُ، والإضمارُ، امتثالا لمبدأ التركيز:
-    نمشي
أجبته
-    طبعا نمشي.
-    إلى سوق الفروانية
-    إلى أي مكان
تضافُ إلى ما سبق وحدة المكان في هذه الرواية – الكويت- فمشروع القرين، وحي خيطان، وحي النزهة، في دائرة محدودة الاتساع، تُضفي على مرويات الرفاعي عاملا مساعدًا على ضغط الحوادث والمجريات في قالب قصصي ضيق، ومكثف، أقرب إلى القصة القصيرة منه إلى الرواية، ولو أن حجم النص تجاوز الـ 190 ص وهذا ليس بغريب، فرواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي يحسبُها كثيرون في القصة القصيرة مع أنها تقع في مئات الصفحات.