Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Aug-2019

بسام الشكعة: صناعة “مثقف عضوي” فلسطيني

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

رمزي بارود* – (ذا بالستاين كرونيكل) 13/8/2019
سيكون من الظلم الزعم بأن الفلسطينيين لم ينجبوا قادة عظماء. لقد فعلوا. ويقدم بسام الشكعة، رئيس بلدية نابلس السابق الذي وافته المنية في 22 تموز (يوليو) عن عمر ناهز 89 عاماً، دليلاً حياً على ذلك.
يمكن أن يُعزى العجز المفترض في وجود قيادة فلسطينية جيدة إلى حقيقة أن العديد من القادة العظماء إما تعرضوا للاغتيال، أو أنهم يعانون في السجون، أو أن الفصائل الفلسطينية تقوم بتهميشهم سياسياً.
الشيء الفريد في بسام الشكعة هو أنه كان قائداً وطنياً حقيقياً، والذي ناضل نيابة عن جميع الفلسطينيين من دون أن ينطوي على أي تحامل أو انحياز عقائدي أو فصائلي أو ديني. كان الشكعة زعيماً فلسطينياً شاملاً، يشتبك في علاقة حميمة مع فكرة الوحدة العربية، ويمتلك وعياً عميقاً مستمراً بالكفاح الطبقي العالمي.
بإحدى الطرق، قدم الشكعة مثالاً على “المثقف العضوي” كما وصفه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي. في الواقع، لم يكن الشكعة مجرد “محرك للمشاعر والعواطف”، وإنما كان “مشاركاً نشطاً في الحياة العملية، كمنشئ ومنظِّم -مُقنِع على الدوام، وليس مجرد خطيب بسيط”.
كانت قاعدة دعم الشكعة، وظلت، هي الناس -الفلسطينيون العاديون من نابلس ومن جميع أنحاء فلسطين الذين وقفوا إلى جانبه دائماً، خاصة عندما حاولت الحكومة الإسرائيلية نفيه في العام 1975؛ وعندما وضعته السلطة الفلسطينية رهن الإقامة الجبرية في العام 1999، وعندما رقد أخيراً لاستراحته الأخيرة في مدينته المحبوبة، نابلس، قبل بضعة أيام.
بين ولادته في نابلس في العام 1930 ووفاته، خاض الشكعة نضالاً لا هوادة فيه من أجل الحقوق الفلسطينية. وقد تحدى إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والإمبريالية الأميركية، والحكومات العربية الرجعية. وعلى مدى هذه الرحلة الشاقة، تمكن من البقاء والنجاة من المنفى والسجن ومحاولة اغتيال.
لكن في بسام الشكعة ما هو أكثر من فكره وبلاغته ومواقفه الأخلاقية. لقد مثَّل الرجل صعود قيادة فلسطينية ديمقراطية حقيقية، انبثقت من الناس وتحدثت باسمهم وناضلت من أجلهم.
كان في منتصف سبعينيات القرن العشرين حين برز الشكعة إلى الصدارة كزعيم وطني فلسطيني، وهو حدث غيَّر وجه السياسة الفلسطينية حتى يومنا هذا.
في أعقاب احتلالها للقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران (يونيو) 1967، تحركت الحكومة الإسرائيلية بسرعة من أجل فرض واقع جديد؛ حيث أصبح الاحتلال دائماً وحُرمت منظمة التحرير الفلسطينية من أي قاعدة سياسية في المناطق المحتلة حديثاً.
من بين أمور أخرى، هدفت الحكومة الإسرائيلية إلى إنشاء قيادة فلسطينية “بديلة”، والتي يكون من شأنها أن تتعامل مع إسرائيل وتنخرط معها في أمور تافهة وغير سياسية، وبالتالي تهميش منظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها السياسي الشامل.
وهكذا، في نيسان (أبريل) 1976، أجرت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة إسحق رابين، انتخابات محلية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
بحلول ذلك الوقت، كانت إسرائيل قد جمعت مجموعة أخرى من “القادة” الفلسطينيين، والتي كانت تتكون في معظمها من رؤساء العشائر والعائلات التقليديين -وهم أوليغارشية صغيرة سعت إلى الحفاظ على امتيازاتها على مر التاريخ، واستوعبت تاريخياً أي قوة أجنبية تحكم الفلسطينيين.
كانت إسرائيل متأكدة تقريباً من أن حلفاءها الذين انتقتهم باليد كانوا مهيئين لاجتياح الانتخابات المحلية. لكن للاحتلال عواقبه غير المقصودة، والتي فاجأت الإسرائيليين أنفسهم. لأول مرة منذ إنشاء إسرائيل، أصبحت فلسطين التاريخية كلها تحت السيطرة الإسرائيلية. وعنى هذا أيضاً أن الشعب الفلسطيني أصبح، مرة أخرى، جزءاً من الوحدة الديموغرافية نفسها التي سمحت بالتعبئة السياسية والمقاومة الشعبية المنسقة.
وقامت بتسهيل هذه الجهود إلى حد كبير الجبهة الوطنية الفلسطينية التي تأسست في العام 1973 وضمت المجموعات الفلسطينية كافة في جميع أنحاء فلسطين المحتلة. وكان أكثر ما أغضب إسرائيل هو أن الجبهة الوطنية التقدمية طورت خطاً سياسياً موازياً إلى حد كبير لخط منظمة التحرير الفلسطينية.
كان مما خيب أمل إسرائيل أن الجبهة الوطنية الفلسطينية قررت المشاركة في الانتخابات المحلية، وكانت تأمل في أن يؤدي انتصارها إلى إجهاض الخدعة الإسرائيلية تماماً. ولإحباط مبادرة الجبهة الوطنية الفلسطينية، قام الجيش الإسرائيلي بشن حملة هائلة لاعتقال وترحيل أعضاء المجموعة، والتي ضمت مثقفين وأكاديميين وقادة محليين.
لكن كل هذه الجهود فشلت مع فوز قادة فلسطين الجدد بانتصارات حاسمة؛ حيث حصلوا على معظم المناصب البلدية وأعلنوا بشجاعة أجندة مناهضة للاحتلال ومؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقال رئيس بلدية رام الله في ذلك الوقت، كريم خلف: “نحن مع منظمة التحرير الفلسطينية، ونحن نقول هذا في خطاباتنا الانتخابية. الناس الذين يأتون إلى اجتماعاتنا لا يسألون عن تحسينات الطرق والمصانع الجديدة؛ إننا نريد وضع نهاية للاحتلال”.
كان بسام الشكعة في طليعة تلك الحركة الناشئة التي انتشرت مُثُلها وشعاراتها إلى جميع المجتمعات الفلسطينية، بما في ذلك في داخل إسرائيل.
وعلى الرغم من عقود من النفي والتفتيت والاحتلال، أصبحت الهوية الوطنية الفلسطينية الآن في أوجها، وهي نتيجة لم تكن الحكومة الإسرائيلية تتوقعها أبداً.
في تشرين الأول (أكتوبر) 1978، انضم إلى الشكعة وخلَف ورؤساء البلديات الآخرين الذين أكسبتهم الانتخابات القوة أعضاء مجالس المدن وقادة مختلف المؤسسات الوطنية لتشكيل “لجنة القيادة الوطنية”، التي كان هدفها الرئيسي هو تحدي اتفاقية كامب ديفيد الكارثية وما نجم عنها من تهميش للشعب الفلسطيني وقيادته.
وفي 2 تموز (يوليو) 1980، انفجرت قنبلة زرعتها مجموعة إرهابية يهودية في سيارة الشكعة، وكلفه الانفجار ساقيه. واستهدفت قنبلة أخرى خلف، الذي بُترت إحدى ساقيه أيضاً. لكن هؤلاء القادة أصبحوا أقوى بعد محاولات الاغتيال.
قال الشكعة من سريره بالمستشفى: “لقد قطعوا ساقيَّ، لكن هذا يعني فقط أنني أصبحت أقرب إلى أرضي”. وقال: “لدي قلبي وفكري وهدف عادل لأناضل من أجله، لست بحاجة إلى ساقي”.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 1981، قامت الحكومة الإسرائيلية بتسريح رؤساء البلديات الوطنيين، بمن فيهم الشكعة. لكن ذلك لم يكن نهاية كفاحه الذي اكتسب زخماً جديداً بعد تشكيل السلطة الفلسطينية في رام الله في العام 1994.
تحدى الشكعة فساد السلطة الفلسطينية وخضوعها لإسرائيل. وقاده إحباطه من السلطة الفلسطينية إلى المساعدة في صياغة وتوقيع وثيقة “صرخة من الوطن” في العام 1999، التي شجبت السلطة الفلسطينية بسبب “الأسلوب المنهجي لممارسة الفساد والإهانة والإيذاء ضد الناس”. ونتيجة لذلك، وضعت السلطة الفلسطينية الشكعة، البالغ من العمر 70 عاماً في ذلك الحين، تحت الإقامة الجبرية.
ومع ذلك، كانت تلك الحركة ذاتها التي أسسها الشكعة وخلَف وأقرانهم هي التي زرعت بذور الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى في العام 1987. وفي واقع الأمر، تظل “الانتفاضة الأولى” أقوى حركة شعبية شهدها التاريخ الفلسطيني الحديث.
فليرقد بسام الشكعة في سلام، الآن بعد أن حقق مهمته التاريخية كواحد من أكثر قادة فلسطين المحبوبين والمثقفين العضويين الحقيقيين تأثيراً في كل الأوقات.
 
*صحفي ومؤلف ومحرر مجلة “ذا بالستاين كرونيكل”. كتابه الأخير هو “الأرض الأخيرة: قصة فلسطينية” (مطبعة بلوتو، لندن). حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الفلسطينية من جامعة إكستر، وكان باحثاً غير مقيم في مركز أورفاليا للدراسات العالمية والدولية، جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Bassam Shakaa: The Making of a Palestinian ‘Organic Intellectual’