Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Feb-2021

الرمزية والدلالات في رواية «راكين» لنهال عقيل

 الدستور-مجدي دعيبس

 
لعل التقديم لهذه القراءة بعرض ملخّص عن الشخصيات وما تمثله، يخدم ما يتبعه من عرض لنماذج من الرمزيّة المنثورة في تضاعيف الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر للعام 2020 بغلاف أنيق ولوحة جميلة.
 
محمد: هو السارد بضمير المتكلم إلا في حالات محدودة عندما كان ينقل كلام الآخرين بشكل مطوّل. شخص يبحث عن الحياة، عن الحب، عن المغامرة، عن المرأة لكن الحياة لا تتركه بسلام وتعاقبه على ذنوب لم يرتكبها.
 
خديجة: زوجة محمد. لم تحسن قراءة شخصية زوجها وحاجته للحب والجمال فصار يبحث عنهما في غيرها من النساء. يقول محمد: «المرء مع من لا يفهمه سجين».
 
قاسم: درس الطب، مرهف الحس وقلبه معلّق بالشعر. ابن محمد وخديجة الذي انتحر في آخر المطاف. لم يحتمل فكرة فقدان أمه وفقدان راكين. يمثل الجيل الذي لم يجد مكانا له في عالم موحش وبارد فقرّر الاستسلام. لعل صديقه الشاعر الذي انتحر أيضا في بداية الرواية عبّر عن هذه الحالة بقوله: «لا يوجد مستقبل، لا يوجد مستقبل. انظروا! كل ما حولنا يلمع ويبرق؛ بضائع ومطاعم ومحلات وفتيات وسيارات وسهر، وجيوبنا الفارغة. ونحن مستعجلون، اللهفة ستقتلنا، نريد المال، الدنانير، ولا نملك إلا أعينا نهمة وجائعة عبثا للحياة».
 
صاحب خزانة الجاحظ: يمثل المثقف البائس الذي يرى الخراب في كل شيء حوله. يعتنق قول ماركيز ويحب أن يردده: «كفى أيها البقر، كفى فإن الحياة قصيرة». يصيح وينبه الناس إلى خطورة الأوضاع من فساد وفقر وظلم اجتماعي. ينتقد الأداء الحكومي وتحوّل المجتمع إلى منظومة رأسمالية لا ترحم لكنه يبقى وفياً لقيمه وكتبه. يأوي قطة في يوم ماطر في مكتبته لتتسبب في حريق كبير يأتي على كل ما يملك من أمّهات الكتب والمخطوطات النفيسة. لم تختر الكاتبة اسما لصاحب خزانة الجاحظ واكتفت بالإشارة إليه بلفظة (صاحبي). ربما جاء هذا ليؤكد طبيعة العلاقة بين محمد وصاحبه. كلما يشير إليه في السرد يذكّرنا أنّه صاحبه وصديقه. لو أعطته الكاتبة اسما لما أثار فينا ما تثيره لفظة (صاحبي)، والصاحب هو الذي يحفظ السر ويعين صاحبه على الزمن الغادر.
 
عائشة: المرأة المثقفة والجميلة التي تتبع قلبها وتهمل عقلها فيأخذها هذا الأمر إلى الحيرة والتشتت والعذاب. عانت من التهميش والنكران من أقرب المقربين.
 
راكين: تمثل الشباب الباحثين عن فرصة للعمل والحياة. تصطدم بواقع من البطالة وانعدام الفرص. تحاول أن تتأقلم مع هذا اليأس المرير. راكين هي الأمل الذي يتطلع إليه كل الحالمين.
 
الخوض في الرمزيّة تجدر الإشارة إلى نقطتين مهمتين وهما؛ خط الزمن وحضور المطر. إذا كانت الفلسفة سبيل الرواية للتّخلّص من السذاجة، فإن خلخلة خط الزمن تنقذ السرد من الرتابة والملل. وهذه الخلخلة من الإرجاء والاستباق وأحيانا الاسترجاع جعل من رواية (راكين) لوحة فسيفسائية لا يتبيّن القارئ الملامح النهائية لأحداثها إلا عندما يأخذ الحجر الأخير مكانه الصحيح، وهذا الترتيب أضفى على العمل شيئا من التشويق الذي يشد القارئ لمتابعة القراءة وعدم التوقف والتفاعل مع الأحداث وأزمة الشخصية أو الشخصيات. بهذه التقنية تخلّصت الرواية من خط الزمن المستقيم الذي قد يقود القارئ إلى التخمين الصحيح وتوقع الحدث التالي أو ردة الفعل مما يؤثر على المسافة الجمالية للعمل بشكل عام. على سبيل المثال لا الحصر يخبرنا السارد وهو محمد في الصفحة الأولى أن صاحبه قد مات في حادث سير لعين، بينما يسرد لنا في الفصول اللاحقة تفاصيل الحياة اليومية والأحداث التي جمعتهما، وكذلك الأمر مع ابنه ناصر فينبئنا محمد منذ البداية بوفاته صغيرا بحادث سير أيضًا لكنه يرجئ التفاصيل للفصول اللاحقة. ولعل الكاتبة قد أكدت هذه التقنية عندما عمدت إلى إيراد فصل المطر الثاني قبل فصل المطر الأول وهو إشارة صريحة إلى عدم انتظام خط السرد.
 
للمطر حضور استثنائي في الرواية حتى أصبح الظّلّ الذي يرافق الشخصيات والأحداث ولا ينفصل عنها، لكنّه ظلّ من نوع مختلف؛ فقد يتمرد على المنطق الفيزيائي ويتقدم على صاحبه في حين أنّه يجب أن يكون خلفه. وليس من شيء يدلّنا على هذا أكثر من عناوين الفصول الأربعة التي جاءت لتؤكد هذا الحضور المهيب: المطر، فصل المطر الثاني، فصل المطر الأول وفصل الشتاء الأخير. مقاطع كثيرة في مواقع عدة تصف المطر بتفاصيلة الحميمة وكأنها تقول إن المطر الذي كان أساس حياة وقوت أجدادنا ما زال موجودا وحاضرًا ، لكن الفقر والجوع في تزايد مستمر مما يشير إلى وجود خلل آخر في المعادلة أدّى إلى هذه النتيجة المفجعة.
 
مشهدية واحتفالية بالمطر وكأن له طقوسا بعينها تتكرر كلما هطل. الناس يتراكضون في الشوارع ويتقافزون فوق البرك الصغيرة التي غطّت ملامح الطريق، بعضهم يحتمي بجريدة على رأسه وبعضهم يرفع ياقة قميصه وبعضهم يمشي بروية ويقول: لمَ العجلة؟ هو مجرد مطر. يرفع رأسه للأعلى ويغمض عينيه ليغسل وجهه. كأنها أوبرا يعرف الممثلون أدوارهم بدقة. الآلة الموسيقية التي يبرز صوتها فوق الجميع هي ارتطام قطرات الماء بالأرض اليابسة. يقول والد محمد: «يا بوي يا محمد! يوم المطر نط وصيح والعب، خلّي السما معك تلعب». وفي مقطع آخر يقول محمد: «اصعدوا تحت المطر! انبلّوا! لستم حجرا أو قشة أو حصى .. حياتكم مثل أرواحكم جافة، انبلّوا قليلا، تطهّروا».
 
وعند الحديث عن الرمزيّة والدّلالات في الرواية تتسرب إلى بؤرة تفكيرنا أحداث ومسمّيات كثيرة تقع تحت هذا المضمون. ربما يكون عنوان الرواية (راكين) أول درجة في سلّم الرمزية التي ظلّت في تصاعد حتى النهاية. هو اسم ابنة محمد وعائشة التي اختارت الاسم ومعناه الروح الحلوة، وعندما سألها محمد: من أين جلبت الاسم واخترعت له المعنى، أجابت: من هوى الجنوب. يمكن أن يكون هذا إشارة إلى قيمة المكان الذي يسكن وجدان الإنسان، والحنين إلى الذكريات الجميلة. «وإن الجنوب عين الأرض». عبارة تفضح مكنون الشخصية الرئيسة في الرواية (محمد)، الأمر الذي أدركته عائشة بذكائها فأحبّت أن تغازله بهذا الاسم.
 
ومن الإشارات الرمزيّة المهمّة في الرواية «القهوة». ظلّ محمد يتفقّد براميل القهوة في المقهى كل حين حتى تحوّل الأمر إلى هاجس مزعج بالنسبة إليه. القهوة لها أهمية في حياة الناس وقدرتهم على مواجهة صعوبات يومهم. يجلسون إلى طاولة ويتجرّعون فناجين القهوة ويثرثرون، القهوة تزيد من ترابط الناس ببعضهم. كما لها في الموروث الشعبي والاجتماعي موقع خاص في نفوس وثقافة المجتمع. وجود القهوة يشير إلى القدرة على الاستمرار بالحياة ومواجهة إحباطاتها المستمرة. العفن الذي أصاب القهوة هو إشارة إلى الخلل الذي أصاب المجتمع من ممارسات غريبة ومستهجنة. عندما نفدت القهوة من البراميل توقف الناس عن الثرثرة وخرجوا إلى الشوارع والساحات. نثر حبوب القهوة في المقهى إشارة إلى عدم قدرة محمد على التحمل ومتابعة الحياة بعد أن تلقّى كل هذه اللطمات القاسية، لكن صاحب الغليون وهو أحد روّاد المقهى؛ كان الصوت الذي يعيده إلى جادة الصواب. صوت صاحب الغليون هو الأمل والتّطلّع إلى الأمام والمستقبل ومواجهة الأوقات الصعبة التي تتوالى وكأنها قدر مكتوب.
 
خزانة الجاحظ من الرموز المهمّة في الرواية. في لحظة ما فكّر صاحب خزانة الجاحظ ببيع المكتبة. ربما يشير هذا الأمر إلى تردّي حال الكتاب والثقافة وانصراف الناس إلى ثقافة السرعة والصورة ووسائل التواصل الاجتماعي التي لم تترك متسعا من الوقت لقراءة كتاب يمكن أن يؤثر في صميم شخصيتك. يمكن أيضا ربط هذا الأمر بالحالة الاقتصادية الصعبة التي تهيمن على قطاعات كثيرة من المجتمع وعدم قدرتها على تأمين رغيف الخبز لأطفالها ليأتي الكتاب في أولوية متأخرة أمام الجوع والمرض. عندما سرد صاحب مكتبة الجاحظ لمحمد قصة المتسول الذي يزعجه بتسوله كان يشير إلى حالة مقلقة. الفرق بين المتسول وصاحب المكتبة كما ذُكر في الرواية على لسانه أن المتسول لا يستحي من السؤال والاستجداء بينما صاحب المكتبة أو المثقف يخجل أن يفعل رغم أن حاله في أحيان كثيرة لا يختلف عن حال المتسولين.
 
أبو النور الدرويش ودلالته الرمزية؛ لموت الدرويش أبي النور دلالة تتعلق بالقسوة التي سكنت قلوب الناس ومقارنة حياتنا بحياة الأجداد الني كانت تقوم على الألفة والمروءة والكرم والمحبة والتكافل والتسامح مقابل هذا التّعصب والخراب الأخلاقي والإنزياح إلى المادّيّة والضّحالة التي نعيشها. أوهمه الأب والعريس بأن غداء العرس على السطح فصعد السلم وبات ليلته هناك بعد أن أزاحوا السلم، ونسي أهل العرس أمره. في الصباح وجدوه ميتا هناك فاغرا فمه ومنتظرا الطعام.
 
والجدار في غرفة قاسم لا يخلو من رمزية ظاهرة. فقد كان قاسم يعلّق عليه القصاصات في غرفته- والتي عبّر من خلالها عن تاريخه وهواجسه وقلقه- الجدار يمثل الطريق المسدود وأزمة جيل الشباب الباحثين عن شخصية،عن أمل، عن فرصة، يلهثون دون جدوى وراء الأحلام. كتب قاسم على إحدى القصاصات: «بمقدوري تحمل هذه السنة، ومهما كانت الأوضاع سيئة، فسيكون أعظم انتصار حققته لنفسي، الصبر. أريد أن أتحرر من هذه الحياة، أنا هنا حبيس، لا جدوى من شيء، لا قيمة لشيء. هذا سجن». وعلى آلة التسجيل ترك رسالة صوتية مؤثرة تكشف لنا بعض ملامح شخصيته.
 
ومن الدّلالات الرمزيّة الأخرى في الرواية عنوان المسرحية (المتسولة) التي شاركت بها راكين وأخذت دور البطولة فيها. يشير هذا العنوان إلى واقع حال الفتيات اللواتي يتخرجن في الجامعة ولديهن طموح بالعمل والشهرة والنجاح. راكين التي حصلت على بكالوريوس في الإعلام تبحث عن فرصة عمل وتزحف من باب إلى باب وتتعرض للتّنمر الذكوري المقرف لمجرد أنها فتاة جميلة. تنتقد الإعلام وتقول إنه صورة وشكل بغض النظر عن الكفاءة. تفكر باللجوء لتجّار الجمال لنحت جسمها كما وصفتهم ثم تعدل عن رأيها. تتوجه للعمل في المسرح بعد أن ملّت البحث. تشعر بالوحدة والبرد في مدينة كبيرة. تقول راكين: «الحياة هنا قاسية وبشعة لذا أخفت المرأة حزنها بالمكياج كي تبدو قوية». مسرحية (المتسولة) تعبّر عن جيل يتسول الفرص والأحلام والدفء.
 
النهاية المأساوية من موت خديجة وصاحب خزانة الجاحظ وانتحار قاسم ومرض عائشة وموت ناصر صغيرا؛ بمجملها انعكاس لطعم المرارة التي نشعر بها في حياتنا في هذه الأوقات العصيبة التي نمرّ بها.
 
وفي الختام، لعل رواية راكين ببنائها وبيئتها وطرحها وشخصياتها القلقة، تغري بالحديث عن العلاقة الفاترة بين الأدب والدراما وتحويل الروايات إلى أفلام. أودّ هنا الإشارة إلى جزئية أخرى لها ارتباط وثيق بهذا الأمر وهي إشباع المشهد السردي بتفاصيل دقيقة تنقله من الورق إلى شاشة السينما بحيث تنخرط فيه الحواس الخمسة أو الستة فتتلقى المؤثرات الحركية والبصرية المحيطة وتشعر بوجود المفردات الحسّيّة وما تثيره في النفس من مشاعر وعواطف وهواجس. ربما تكون هذه الرواية- بنكهتها السوريالية نتيجة لتكسّر خط الزمن وغرائبية بعض حكاياتها وأحداثها وسعي بعض شخصياتها الدّؤوب للحياة والحب والشمس والمغامرة- مشروعا ناجحا لعمل درامي يعتمد على مشهدية اللقطة والموسيقى المصاحبة أكثر من الحوار والحديث. نحن بحاجة إلى إعادة اللحمة بين الرواية والدرما من خلال أعمال رصينة لها خصوصية أردنية وتشير إلى ما يؤرق الجميع وتعرضه بحس فني راق.