الغد-سارة إي باركينسون؛ وجونا شولهوفر-ول* - (الإندبندنت) 14/11/2024
تاريخ شائن لتكتيك معيب
تشير سجلات عمليات القتل المستهدف إلى أن هجمات إسرائيل على "حزب الله" من غير المرجح أن تدمره. وقد استخدمت إسرائيل هذا التكتيك ضد الحزب لعقود من الزمن. ولكن بدلاً من الانهيار أثبت قدرته على الصمود والتكيف.
في السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي، اغتالت إسرائيل حسن نصر الله؛ الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، بإسقاط ما بين 60 و80 قنبلة خارقة للتحصينات على حي مكتظ بالسكان في الضاحية الجنوبية لبيروت. وأسفرت الغارة عن مقتل عدد من قادة "حزب الله" الآخرين وجنرال في الحرس الثوري الإيراني، وما لا يقل عن 33 مدنياً، وإصابة 195 آخرين. ويمثل هذا الهجوم، والهجمات الأخرى التي تلته، والغزو البري الإسرائيلي الجاري للبنان، تكثيفاً تدريجياً لتصعيد مطرد استهدف قيادة "حزب الله" طوال العام الماضي.
خلال هذا الإطار الزمني، قتل الجيش الإسرائيلي مئات المسلحين وآلاف المدنيين. ومن بين القتلى، كان هناك ما لا يقل عن 20 قائداً عسكرياً ومسؤولاً رفيعي المستوى، بمن فيهم خليفة نصر الله المتوقع؛ هاشم صفي الدين. وفي الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن الحملة الإسرائيلية حققت نجاحاً، وقال: "لقد قضينا على آلاف الإرهابيين، بمن فيهم نصر الله نفسه، وخليفة نصر الله، وخليفة خليفته". وحسب منطقه ومنطق مسؤولين حكوميين إسرائيليين آخرين، فإن هذه الاغتيالات ستساعد في تدمير "حزب الله" بصورة دائمة.
ولكن في الواقع، من غير المرجح أن تنجح هذه الاغتيالات في تحقيق ذلك. فـ"حزب الله" هو منظمة عمرها 40 عاماً تتمتع بقاعدة اجتماعية كبيرة، وهو حزب سياسي ممثل في البرلمان اللبناني ومجلس الوزراء، ويحظى بدعم الدولة الإيرانية. وهو أيضا منظمة قادرة على التكيف والصمود. ربما تنجح إسرائيل في تفتيته موقتاً، لكن من المرجح أن يتمكن من إعادة تنظيم صفوفه، ومن المحتمل أن ينتقم القادة الجدد من إسرائيل لإثبات مؤهلاتهم وإظهار أهمية المنظمة.
حتى لو نجحت حملة الاغتيالات الإسرائيلية في إضعاف "حزب الله" بصورة دائمة، فمن المحتمل أن تظهر مجموعة أخرى لملء الفراغ. فعلى مر التاريخ، عندما تُلحق عمليات القتل المستهدف أضراراً لا يمكن إصلاحها بالمنظمات المسلحة، عادة ما تتشكل مجموعات أخرى لتحل محلها. ويرجع هذا جزئياً إلى أن الاغتيالات هي مجرد تكتيك، وليست حلاً سياسياً. إنها لا تسهم في حل القضايا الأساسية التي تؤدي إلى الصراع. وسواء عن غير قصد أو نتيجة أضرار جانبية، فإن عمليات القتل المستهدف تقتل المدنيين وتشوههم بصورة روتينية بينما تدمر في الوقت نفسه البنية التحتية. كما أنها تزيد، فضلاً عن ذلك، من مشاعر الاستياء الشعبي، وتعزز تجنيد الأعضاء المتشددين، وتعطل المفاوضات. وبعبارة أخرى، تؤدي الاغتيالات المستهدفة إلى إطالة أمد العنف عوضاً عن إنهائه.
عواقب غير مقصودة
على مدى أكثر من 50 عاماً، اغتالت إسرائيل زعماء الجماعات المسلحة في لبنان باستخدام عمليات الكوماندوز والسيارات المفخخة والغارات الجوية. وقد سلطت هذه الهجمات الضوء على ما يسميه بعض العلماء والاستراتيجيين العسكريين "قطع الرأس" -أي قتل زعماء الجماعات المسلحة غير الحكومية أو أَسْرهم على أمل إضعاف قدرة المنظمة أو تحفيز انهيارها.
في الواقع، لا يعد مصطلحا "القتل المستهدف" و"قطع الرأس" رسميين في القانون الدولي. ويزعم عدد من الخبراء أنهما مجرد تعبيرين ملطفين لوصف عمليات الإعدام غير القانونية، التي تحظرها قوانين النزاعات المسلحة. ويزعم أنصار هذه التكتيكات، وبخاصة إسرائيل والولايات المتحدة، أنها وسيلة فعالة عسكرياً ومبررة أخلاقياً لإضعاف الجماعات المسلحة المنظمة وهزيمتها.
وفق هذا المنطق، فإن مثل هذه الضربات يمكن أن تقضي على الأفراد الذين يعتبرون ضروريين لعمل منظمة مسلحة ما، مع تقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين. ولكن، حتى في ظل التفسيرات الأميركية والإسرائيلية، فإن عمليات القتل المستهدف لا بد من أن تحترم مبدأ التناسب، بمعنى أن المكاسب العسكرية من العملية يجب أن تبرر الخسائر المدنية الناجمة عنها.
وفي هذا السياق، كتب قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية، أهارون باراك، في رأي قضائي صدر عنه في العام 2006: "لنأخذ مثلاً الحالة المعتادة التي يطلق فيها مقاتل أو قناص إرهابي النار على جنود أو مدنيين من شرفته. إن إطلاق النار عليه يعد رداً متناسباً حتى لو أدى ذلك إلى إلحاق الأذى بأحد الجيران أو المارة المدنيين البريئين. لكن هذا لا ينطبق إذا قُصف المبنى من الجو وتضرر العشرات من السكان والمارة".
بموجب غالبية تفسيرات قوانين النزاعات المسلحة، بما في ذلك تفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن عدداً من الأشخاص الذين تقتلهم إسرائيل يتمتعون في الأساس بحماية قانونية. وطبقاً لهذه القراءات، فإن الأشخاص العاملين أو المتطوعين في الخدمات الاجتماعية والأجنحة السياسية لـ"حزب الله" لا يعتبرون من المقاتلين، ما لم يشاركوا بصورة مباشرة في الأعمال العدائية.
لكنّ لدى إسرائيل والولايات المتحدة تفسير أوسع لما يشكل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية. في هجوم شنته إسرائيل في 16 تشرين الأول (أكتوبر) على مبنى بلدية مدينة النبطية جنوب لبنان، على سبيل المثال، قتلت رئيس البلدية المنتخب الذي ترشح على قائمة مشتركة لـ"حزب الله" و"حركة أمل"، بالإضافة إلى مسؤولين في لجنة إدارة الأزمات، المعنية بتقديم خدمات الطوارئ في المدينة.
وحتى لو لم تستهدف الضربات الإسرائيلية سوى المقاتلين، فهناك مشكلة أخرى تنجم عن عمليات الاغتيال المستهدفة، وهي أنها تأتي بنتائج عكسية. على الرغم من أن البحوث حول هذا التكتيك أظهرت مجموعة كبيرة من النتائج المتناقضة على ما يبدو، في ما يرجع جزئياً إلى اختلاف معايير النجاح، فإنها تشير عموماً إلى أن مثل هذه الهجمات تفشل في تحقيق أهدافها طويلة الأجل.
إنها لم تنجح، على سبيل المثال، خلال الحملات الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وسورية واليمن. ويشكل ما حدث في أفغانستان مثالاً واضحاً على ذلك. وفقاً للبروفيسورة ديبالي موخوبادهياي من جامعة "جونز هوبكنز"، وهي متخصصة بارزة في شؤون الحرب الأميركية في أفغانستان، فإن الولايات المتحدة وقعت في فخ نموذجي لحملات القتل المستهدف، حيث ركزت على الانتقام والمكاسب السياسية القصيرة الأجل بدلاً من إيجاد حلول دائمة.
يمكن أن تؤدي الاغتيالات إلى صعود قادة أكثر تطرفاً أو أكثر كفاءة
يجادل أنصار عمليات القتل المستهدف بأن من شأن الهجمات ضد الأفراد المشاركين بصورة فعالة في التخطيط للعنف وتنفيذه أن تقلل من قدرة المنظمة وتؤدي إلى انهيار معنوياتها. وتزعم الحكومة الإسرائيلية أن عملياتها الحالية في لبنان تحقق هذه الأهداف بالضبط. ومع ذلك، أثبت "حزب الله" مرة تلو أخرى قدرته على الصمود في مواجهة هذه الهجمات. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه منظمة مؤسسية وبيروقراطية للغاية. وقد وضعت مثل هذه الجماعات دائما إجراءات وخططاً للخلافة في حال نال قادتها ترقية أو ماتوا أو تركوا مناصبهم. كما تتدرب الوحدات الشبيهة بالخلايا على العمل بصورة مستقلة، بحيث لا يؤثر قتل كبار قادة الجماعة في قدرتها بصورة دائمة.
في أعقاب عملية اغتيال كبيرة، من المؤكد أن المجموعات قد تعاني انهيار الاتصالات والارتباك والحزن والهلع. ومع ذلك، حتى لو قُتل قائد متوسط الرتبة أو شخصية عسكرية كبيرة أو زعيم بارز، فإن نوابهم سيجعلون خلفاءهم الذين ينتظرون دورهم على أهبة الاستعداد، كما يمكن للمقاتلين مواصلة الهجمات. على سبيل المثال، منذ مقتل نصر الله، أطلق "حزب الله" مئات الصواريخ والقذائف والطائرات من دون طيار على القواعد العسكرية الإسرائيلية والمدن الكبرى مثل حيفا، وحتى مقر إقامة نتنياهو نفسه.
في الواقع، قد تكون المجموعة التي فقدت شخصيات بارزة على الملأ أكثر تصميماً على إثبات قدراتها وإعادة بناء قوتها. كانت أول مرة قصف فيها "حزب الله" عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية في أعقاب جنازة أمينه العام الأسبق، عباس الموسوي، الذي اغتالته قوات الدفاع الإسرائيلية في العام 1992. ودفعت وفاة الموسوي قادة "حزب الله" إلى الانتقام، وأتاحت للمتطرفين في المنظمة فرصة تنفيذ عمليات متزايدة الدقة والحنكة ضد جيش الدفاع الإسرائيلي في جنوب لبنان المحتل وتصعيدها إلى هجمات دولية. وربط رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من العام 1991 إلى العام 1995، أوري ساغي، بصورة مباشرة بين اغتيال الموسوي وتصعيد "حزب الله"، بما في ذلك تفجير السفارة الإسرائيلية والمركز الثقافي اليهودي في الأرجنتين في العامين 1992 و1994.
ثم بعد انقضاء ما يقرب من عقد من الزمان على وفاة الموسوي، أصبح "حزب الله" أقوى وأكثر قدرة. وأدت أعوام من المواجهات الدموية المتواصلة في جنوب لبنان إلى انسحاب إسرائيل من البلد في نهاية المطاف في العام 2000. واستمرت إسرائيل في تنفيذ عمليات قتل مستهدفة ضد "حزب الله" في الأعوام التي تلت ذلك، لكن نفوذ المجموعة استمر في النمو. وفي 12 تموز (يوليو) 2006، شن "حزب الله" عملية عبر الحدود وقتل واختطف جنوداً إسرائيليين. وكانت النتيجة اندلاع حرب تموز (يوليو) 2006.
بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي الاغتيالات أيضاً إلى صعود قادة أكثر تطرفاً أو أكثر كفاءة من أسلافهم. وقد أدى اغتيال الموسوي إلى صعود نصر الله الأكثر كاريزمية إلى قيادة المنظمة. وبصفته أميناً عاماً، يُنسب إلى نصر الله، إلى جانب الإستراتيجي العسكري البارز في "حزب الله" عماد مغنية، الفضل على نطاق واسع في تحويل الجماعة من ميليشيا محلية إلى قوة عسكرية غير تابعة للدولة أقوى من الجيش اللبناني نفسه.
وعلى نحو مماثل، قد تؤدي الاغتيالات إلى استقدام جهات خارجية لتقديم المساعدة المالية والدعم الفني. فعندما قتلت إسرائيل مغنية في العام 2008، أصبح مستشارو "الحرس الثوري الإيراني" أكثر انخراطاً في العمليات اليومية لـ"حزب الله".
وبالمثل، في غزة، مهد اغتيال زعيم "حماس" الشيخ أحمد ياسين في العام 2004 الطريق أمام تدخل إيراني أعمق في المنظمة، وهو ما كان ياسين ليرفضه.
العنف يولد العنف
حتى عندما تنجح عمليات القتل المستهدف في إضعاف هياكل القيادة في المنظمات بصورة موقتة، فإنها قد تؤدي إلى مزيد من العنف. ففي المجموعات التي تستخدم نظام التجزئة، وتوزيع المهمات، وهيكلية الخلايا، من الممكن أن تنشأ فصائل ذات مصالح وأجندات مستقلة.
في هذه الحالة، يستخدم القادة الصاعدون العنف للتنافس على لفت الانتباه والحصول على الموارد وكسب المكانة، وهي ممارسة يسميها علماء السياسة "المزايدة". والنتيجة هي أن هجمات المجموعة المستهدفة غالباً ما تصبح أقل قابلية للتنبؤ وأكثر درامية وإثارة للصدمة.
وقد حدثت هذه العملية بالفعل في لبنان. في العام 1982، شنت إسرائيل غزواً بهدف استئصال "منظمة التحرير الفلسطينية" والفصائل الفلسطينية المسلحة، التي كانت تطلق الصواريخ وتنفذ الهجمات العسكرية من جنوب لبنان باتجاه شمال إسرائيل. وفي العملية، قتلت إسرائيل أو اعتقلت قادة فلسطينيين، إلى جانب آلاف من المدنيين، مما ترك الوحدات الفلسطينية العملياتية بلا قادة ومن دون تنسيق.
ولكن، مع احتلال إسرائيل جنوب لبنان وصولاً إلى مدينة صيدا الساحلية، ظهرت ميليشيات فلسطينية محلية غير مرتبطة بالهياكل التقليدية للقيادة والسيطرة. وفي إطار التعاون غير المنظم مع المسلحين اللبنانيين، أحدثت هذه الميليشيات دماراً هائلاً في صفوف القوات الإسرائيلية والمتعاونين معها. ونتيجةً لذلك، انسحبت إسرائيل في العام 1985 إلى منطقة الحدود، التي ظلت تحتلها حتى العام 2000، لكن لبنان ما يزال يعاني من مخلفات الحرب.
كان أحد القادة الفلسطينيين الذين استهدفتهم إسرائيل في ضربة شنتها في تشرين الأول (أكتوبر) على مخيم "عين الحلوة" في صيدا، قد برز في خضم الفراغ القيادي الذي حدث في ثمانينيات القرن العشرين. وتُظهر عواقب غزو إسرائيل للبنان في العام 1982 حقيقة واضحة أخرى هي أن إضعاف منظمة بصورة دائمة -أو حتى هزيمتها بالكامل- يمكن أن يؤدي إلى ظهور منظمات جديدة.
كانت هزيمة الفلسطينيين واحتلال إسرائيل جنوب لبنان هما اللذان منحا "حزب الله" سبب وجوده. في آب (أغسطس) 1982، غادر 1.4398 من مقاتلي المقاومة الفلسطينية بيروت في أعقاب هدنة توسطت فيها الولايات المتحدة، وأدى نفي القادة السياسيين الفلسطينيين إلى دمشق وتونس إلى ترك فراغ ملأه "حزب الله".
عقاب جماعي
أحد المبررات الأساسية لعمليات القتل المستهدف هو الادعاء بأنها تقلل من عدد القتلى المدنيين. ومع ذلك، لطالما تسببت العمليات التي تستهدف الأفراد في إحداث دمار واسع وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. وقد أدت الغارة الجوية التي قتلت نصر الله إلى تدمير حي كامل في إحدى أكثر المناطق اللبنانية اكتظاظاً بالسكان. أما هجوم إسرائيل في 10 تشرين الأول (أكتوبر) الذي استهدف وفيق صفا؛ قائد وحدة الارتباط والتنسيق بين "حزب الله" والأجهزة الأمنية اللبنانية، فقد أدى إلى انهيار مبنى سكني من ثمانية طوابق في وسط بيروت، مما أسفر عن مقتل 22 شخصاً وإصابة 117 آخرين.
تقول الحكومة الإسرائيلية إنها كثيراً ما تستخدم المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والمنشورات التي تُلقى من الجو لمطالبة السكان بإخلاء المناطق المستهدفة قبل مهاجمتها. ولكن في تشرين الأول (أكتوبر)، ذكرت منظمة "العفو الدولية" أنه في حال وصلت إشعارات الإخلاء، فإنها غالباً ما تكون غير واضحة أو تمنح المدنيين وقتاً غير كاف لمغادرة المنطقة. وحتى العمليات التي يشيد بها المحللون العسكريون لما تتمتع به من تطور تقني عالٍ، غالباً ما تفتقر إلى الدقة اللازمة لتجنب إلحاق أضرار واسعة النطاق بالمدنيين. وقد شعر عدد من المراقبين بالدهشة، على سبيل المثال، عندما نفذت إسرائيل في أيلول (سبتمبر) تفجيراً متزامناً لآلاف أجهزة الاستدعاء (البيجر) وأجهزة الاتصال اللاسلكي التي يستخدمها "حزب الله". لكن هذه الهجمات أسفرت عن مقتل وإصابة عدد كبير من الأشخاص الذين لا ينتمون إلى الحزب. ووصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، هذه الهجمات بأنها "شكل من أشكال الإرهاب".
في كثير من الحالات، لا يستطيع المدنيون الذين يرغبون في الفرار القيام بذلك ببساطة؛ قد لا يتمكن كبار السن أو المرضى أو الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة من الهرب. وفي بلد يعيش ما يقارب نصف سكانه في الفقر، يفتقر عدد كبير من الأشخاص الآخرين إلى الوسائل المالية اللازمة للإخلاء.
بالنظر إلى العواقب الوخيمة، يشعر المدنيون في لبنان بأن الهجمات المستهدفة هي عقاب جماعي. وربما يكون هذا هو الهدف بالنسبة للحكومة الإسرائيلية. وهي تأمل بالتأكيد أن تؤدي المعاناة إلى انقلاب المدنيين على "حزب الله".
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، هدد نتنياهو بأن يواجه لبنان "دماراً ومعاناة يشبهان ما حدث في غزة" ما لم ينتفض الناس ضد المنظمة. وانطلاقاً من هذا المنطق، فإنه إذا ألقى الناس باللوم على "حزب الله" في تدمير بلدهم، فإنهم سيساعدون إسرائيل في استهداف أعضاء الحزب وتفكيك نفوذه.
من المتوقع أن تؤدي هجمات إسرائيل إلى تعزيز قناعات أنصار "حزب الله"
لكن هذا التحول مستبعد جداً. بل إن ما يحدث في الواقع يمكن أن يكون العكس تماما. إن إسرائيل هي قوة أجنبية سبق أن غزت لبنان ثلاث مرات وشنت عمليات عسكرية أصغر -وإنما مدمرة أيضا. وخلال فترة الاحتلال من العام 1982 إلى العام 2000، مارست القوات الإسرائيلية القمع بوحشية على سكان جنوب لبنان، واعتقلت آلاف اللبنانيين والفلسطينيين، وأججت التوترات الطائفية من خلال تفويض أعمال العنف إلى ميليشيات "جيش لبنان الجنوبي" التي تألفت في الغالب من المسيحيين. وأدى الاحتلال، إلى جانب ما رافقه من قمع ومعاناة، إلى تجنيد أعداد جديدة من اللبنانيين في صفوف "حزب الله" والأحزاب السياسية المسلحة الأخرى في لبنان.
لا شك في أن شعور المدنيين بأن ضربات إسرائيل عشوائية ولا تستثني أي مكان أو أحد يؤثر بصورة أكبر في عملية اتخاذ الناس القرارات، وسوف تعزز هذه الهجمات قناعات مؤيدي "حزب الله" المدنيين. وقد يصبح بعض الذين لم ينضموا إلى القتال في السابق مستعدين للانضمام، معتبرين أن الحصول على السلاح والراتب والمعلومات أفضل خيار لديهم، خاصة عندما يواجهون خطر الموت العشوائي حتى أثناء محاولاتهم تجنب تصاعد الأعمال العدائية. ومثلما حدث بين العامين 1982 و2000، من المحتمل أن يتحد عدد أكبر من اللبنانيين ضد إسرائيل.
بالمجمل، تشير سجلات عمليات القتل المستهدف إلى أن هجمات إسرائيل على "حزب الله" من غير المرجح أن تدمره، فقد استخدمت إسرائيل هذا التكتيك ضد الحزب لعقود من الزمن، وبدلاً من الانهيار، أثبت قدرته على الصمود والتكيف، وقد أسفرت محاولات قطع رأس القيادة عن مزيد من العنف والتوسع التنظيمي وزيادة النفوذ الإيراني.
ولا أحد يفهم ذلك أفضل من اللبنانيين أنفسهم. وفي هذا الإطار، قال سفير لبنان لدى المملكة المتحدة، رامي مرتضى، في تشرين الأول (أكتوبر)، رداً على تهديد نتنياهو بتحويل لبنان إلى غزة: "سوف تعمل الهجمات الإسرائيلية على ترسيخ وجود ’حزب الله‘، وسوف تزيد من الإحباط بين السكان، وسوف تصب في مصلحة ما كان ’حزب الله‘ يردده منذ 40 عاماً، أن ’إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة‘".
*سارة إي. باركنسون: أستاذة العلوم السياسية والدراسات الدولية المساعدة في معهد أرونسون في جامعة "جون هوبكينز". وهي مؤلفة كتاب "ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في زمن الحرب في لبنان".
*يونا شولهوفر-ول: محاضر جامعي في العلوم السياسية بجامعة "لايدن" وأستاذ زائر في "مركز بحوث تحولات العنف السياسي" بجامعة "غوته فرانكفورت" و"معهد بحوث السلام"، فرانكفورت، وهو مؤلف كتاب "مستنقع الحرب الأهلية". *المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024.