Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    04-Dec-2017

الإسلام السياسي والدولة الوطنية - حسن أبو هنية

الراي -  شهد العالم العربي عقب الانتفاضات العربية بروز إشكالية عميقة بين حركات الإسلام السياسي والدولة العربية الوطنية تمثلت بالصراع على هوية الدولة والمجتمع، فأحد المداخل المنهاجية في تفهم أزمات الإسلام السياسي وعلاقتها بالدولة الوطنية تقوم على مسألة الالتباس والاشتباه في هوية الحركة والدولة، فهوية حركات الإسلام السياسي والدولة العربية الوطنية ملتبسة بين النزعة الدينية والسياسية، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الجدل والصراع حول هوية الدولة والمجتمع، وموقع الدين في المجال العام، وباتت مسألة الاعتدال إشكالية تبعا لتصورات ماهية الدولة بين الدينية والمدنية، وعلاقة الدين بالدولة..

 
يمكن وصف الدولة العربية الحديثة وعلاقتها بالدين بالالتباس، والتي يطلق عليها المفكر المغربي طه عبد الرحمن تسمية «الدولة المشتبهة»، وهي «الدولة التي تمارس نوعا من «تسييس الدين» يتميّز بالجمع بين المقتضيات العلمانيّة للحداثة والمتطلبات الإيمانيّة»، حيث تسعى الدولة المشتبهة جاهدة إلى أن تحيط بالممارسة الدينية في جملتها معتبرة أنها شأن عام يدخل في نطاق مسؤوليتها واختصاصها، وليس كما هو الحال بالنسبة للدولة العلمانية، شأنا خاصا يرتبط بالفرد وحده.
 
لا تكتفي الدولة المشتبهة بأن تتسلط على العمل الديني تسلطها على العمل السياسي، بل أكثر من ذلك، تحرمه مما تأذن به للعمل السياسي، وتستند الدولة المشتبهة في سلوكها (التسيّدي/ التسلطي) بحسب عبد الرحمن، إلى حجتين اثنتين: أحدهما، أن التنافس التعبدي يؤدي إلى التطرف في المواقف وإنكار المخالف، في حين أن الإدارة الحواريّة تحتاج إلى التوسط في الآراء والاعتدال في الرؤى. والأخرى، إذا كان وجود «الديمقراطية» في المجتمع يمكّن من إيجاد آليات لإدارة النزاع السياسي، فإن وجود «الأصوليّة» فيه يمنع من إيجاد آليات لإدارة الخلاف الديني. ويطلق على الحجة الأولى «حجة التطرف الديني»، وعلى الثانيّة «حجة التعارض بين الأصوليّة والديمقراطيّة».
 
إشكالية العلاقة بين الإسلام السياسي والدولة الوطنية لا تقتصر على منازعة الدولة لشرعيتها السياسية، بل تتجاوزها إلى التشكيك بهويتها الدينية، ذلك أن مقاربة الدولة للإسلام في هذا النوع من الدول بحسب سيد فالي نصر: «كانت نفعية بحتة، بل مفضوحة بشكل كبير، فقد كان هناك فترة زمنية محدودة تمكنت فيها الدولة من السيطرة على السياسة الإسلامية. وبما أن الدولة لا تخضع لعملية تحول ثقافي؛ فإنها لا تستطيع أن تتحدث نيابة عن الإسلام، وعليها أن تعتمد على القوى الإسلامية وإيديولوجيتهم، لكي تمدها بالدعم. فالعلمنة المتأصلة للدولة، ووصايتها المحدودة على سياسة الإسلام الخاصة بها؛ تعني: أن أي تحالف بين القوات الحكوميةوالإسلاميين سوف ينتهي في نهاية المطاف، إلا أن القوى الإسلامية خلال هذه العملية، تكون قد حازت موطئ قدم لها في الساحة السياسية، كما عملت الدولة على تطوير درجة معينة من الوعي والشرعية الإسلامية، فقد كانت سياسة الدولة الخاصة بالإسلام سياسة رقاية وسيطرة على الميدان العام».
 
تبنت معظم الأنظمة العربية عقب أفول الحقبة الكولينيالية إيديولوجية علمانية ملتبسة، حيث استدخلت صيغة دينية إسلامية محددة كديانة رسمية تقوم على «أخلاقيات الطاعة» لأولياء الأمور مستعارة من الفقه السلطاني، وبهذا عمدت إلى استدخال نمط من التدين الصوفي أو السلفي بصيغته الطقوسية المسالمة في أجهزتها الإيديولوجية، وعملت على دعمها وإسنادها ومأسستها، وذلك لتثبيت شرعيتها، ومع بروز حركات الإسلام السياسي وتآكل الإسلام الرسمي استعانت به في مواجهة التيارات اليسارية والقومية.
 
إن مسار تطور الدين في المجتمعات العربية يجعل من عملية إقصاء الإسلاميين من المجال العام أكثر صعوبة وأشد خطورة، إذ لا يتطابق مع مسارات الدين في المجتمعات الغربية، كما أن مسارات تشكل الدولة مختلف تماما، فالظاهرة الدينية في الغرب المسيحي تنطوي على ما أطلق عليه مارسيل غوشيه «دين الخروج من الدين»، إذ لم يعد مكونا بنيويا في الدولة والمجتمع، فموقع الدين في الحالة الغربية الحديثة حددته فلسفة الأنوار التي قامت على أساس تحرير العقل الإنساني من هيمنة التقليد وسيطرة رجال الدين، فتطور الدين في المجتمعات الغربية جاء عقب صراعات عنيفة، أدت إلى حدوث قطائع نظرية وعملية عميقة أفضت إلى تحجيم دور الدين وحضوره في المجال العام، وتنحيته عن توجيه الحياة السياسية، وفقدانه لتأسيس المشروعية السياسية.
 
على خلاف الحالة الأوروبية كان الدين منسجما ومندمجا في المجتمعات العربية الإسلامية رغم وجود بعض الصراعات المحدودة، والتي كانت تدور داخل التصور الديني السائد حسب تأويلاته وقواه وتوجهاته المختلفة، دون حدوث قطائع وفظائع، إذ لم تحدث القطيعة إلا بسبب عنف «الصدمة الاستعمارية»، التي عمدت إلى فرض منظوماتها وتصوراتها بالقوة المسلحة، فالبني الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية بقيت منسجمة مع التصورات الدينية الإسلامية المتوارثة والسائدة، ولم تسفر التطورات التاريخية الذاتية والموضوعية عن ضرورات داخلية للفصل بين المجالين الديني والسياسي، بل حافظ الدين على كونه مصدرا للمشروعية السياسية وأساسا للبنية الثقافية ومؤسسا للهوية الجمعية.
 
في سياق تأسيس الدولة العربية الوطنية كان الدين حاضرا نظرا لكون الدين الإسلامي شكل النواة الصلبة لكل مشاريع المقاومة والتصدي للحملة الكولينيالية، الأمر الذي دفع الأنظمة العربية ما بعد الكولينيالية التي تبنت الأساس الإيديولوجي الحداثي السياسي إلى استدخال الدين في منظوماتها الحاكمة، الأمر الذي جعل من مقولة «دين الدولة» نصا دستوريا ثابتا في العالم العربي منذ بداية الحقبة الاستعمارية، وهو ما أقرته الدولة الوطنية العربية الناشئة، بحيث خصص للدين مادة دستورية مستقلة تنص على الدين الرسمي للدولة بصيغة «دين الدولة الإسلام» أو بصيغة مخففة مقاربة، وهو ما يشير إلى الإقرار بتلازم السلطة/الدين في العالم العربي، على نقيض التجربة الأوروبية التي شهدت قطع العلاقة بين المجالين تحت وقع وتأثير ثلاثة عوامل حداثية رئيسة متزامنة؛ وهي: نشوء الرأسمالية، وبدء الإصلاح الديني، وتبلور فكر النهضة.
 
أدى نشوء ظاهرة «الإسلام الرسمي»، الذي بات «دين الدولة»، إلى بروز نتائج سلبية على الإسلام نفسه، حيث نشأ معه «الإسلام السياسي» المعارض لإسلام الدولة، والذي أسفرت تحولاته عن تقليد مسارات الدولة الوطنية وبات برنامجه يقتصر على موضوعة الحكم والسلطة، الأمر الذي أفقد الدين تكامليته وشموله، الأمر الذي دفع وائل حلاق إلى القول أن مفهوم «الدولة الإسلاميّة» بات مستحيل التحقّق وينطوي على تناقضٍ داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريف سائد لما تمثّله الدولة الحديثة، حيث يحاجج حلاق بأنّ الحكم الإسلاميّ والدولة الحديثة ينتجان اثنين من الذاتيّات المختلفة جدًّا، إن لم يكن نوعين مختلفين من المخلوقات.
 
خلاصة القول أن الأزمة بين الإسلام السياسي والدولة الوطنية تنطوي على أبعاد تاريخية وفلسفية عميقة تتعلق بمسألة الديني والسياسي، ذلك أن الجدل المعاصر بحسب طه عبد الرحمن كان يدور بين فريقين أساسيين، الفريق الداعي إلى الربط بين المجالين وهم الإسلاميون، والفريق الداعي إلى الفصل وهم العلمانيون، وهو جدل سياسي في أصل المسألة، فالفريق الأول يريد استثمار الدين في السياسة، والثاني يريد استثمار السياسة بغير دين، الأمر الذي جعل الإسلاميين يضيقون الدين في حدود السلطة والحكم، وجعل العلمانيين ينظرون إليه باعتباره أداة للسلطة والحكم.