Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    15-Nov-2019

قراءة في مجموعة (أنْزِفُني مرَّة أُخرى) لعمار الجنيدي

 الدستور-هاني علي الهندي

«خير الكلام ما قل ودل»، هذا القول ينطبق تماما على القصة القصيرة جدا التي ظهرت منذ التسعينيات من القرن الماضي كنوع حديث من الأدب في السرديات، يمتاز بقصر الحجم والجرأة والإيحاء المكثف والنزعة السردية الموجزة ، والمفارقة، وفعلية الجملة، والسخرية ... ، مما يجعلها أشد صعوبة من غيرها كونها تحتاج إلى تكنيك خاص في الشكل والبناء، ومهارة في سبك اللغة واختزال الحدث المحكي والاختصار في حجم.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة في الساحة الثقافية الأردنية عدد لا يستهان به من مجموعات قصصية تحمل (قصص قصيرة جدا) منها؛ مجموعة القاص عمار الجنيدي الموسومة (أنْزِفُني مرَّة أُخرى) وكان قد صدر له (الموناليزا تلبس الحجاب) و(خيانات مشروعة) و(أرواح مستباحة) و(ذكور بائسة).
 
 الغلاف والعنوان:
أول ما يلفت نظر المتلقي لأي عمل إبداعي مكتوب هو الغلاف الخارجي وما تحويه من شيفرات دلالية وتأويلات بصرية ، فهو العتبة الأولى التي تغري المتلقي لقرع هذا الباب أو الانصراف عنه إلى غيره.
ولو نظرنا إلى لوحة غلاف مجموعة الجنيدي (أنْزِفُني مرَّة أُخرى) لوجدناها تقسم إلى نصفين؛ النصف الأعلى باللون الأسود الداكن الذي يوحي بالوحشة واغتراب الذات، وسط هذه العتمة خُطَّ اسم القاص باللون الأبيض ليشق الظلام والعتمة معلنا تمرده على الواقع المعيش، إلا أن نقطة حمراء جاءت وكأنها نقطة دم نازفة لطَّخت النصف الثاني من الغلاف بوجوه ومعالم متماهية مع النزف.
هي ليست المرة الأولى التي تحدث فيه عملية النزف، (أنْزِفُني مرَّة أُخرى)، فمن الذي ينزف؟ القاص أم المجتمع ؟ أم كلاهما؟؟!! هذا النزف على المستوى الفكري والنفسي والروحي و السياسي والاجتماعي، يستمر حتى آخر حرف في المجموعة.
 أسماء الشخصيات القصصية:
تتميز الشخصيات في القصة القصيرة جدا، بخاصية التنكير وغالبا ما تغييب الشخصيات المعرفة، وذلك لتطابق الذات القصصية مع الذات المبدعة المقهورة وبرصد الشخصيات في مجموعة (أنْزِفُني مرَّة أُخرى) التي تضم إحدى وثلاثين قصة ورد فيها مائة وثلاث شخصيات منها ستة وسبعون لا تحمل اسما علما وأغلبها معرف بالإضافة او بأل التعريف من ذلك قصة (المقصلة):
«السياف يعدل وضع رأسي، وأهل قريتي الذين احتشدوا لمشاهدة جلد رأسي، كنت أرى دموع القهر تترقرق في عيونهم بصمت متحفز.
كانت بقرات المختار ومواشيه، تسرح في القرية، تأكل عشبها، وتشرب مياهها الفقيرة. أخذت ثلاث بقرات وذبحتها، وساعدني بعض الشباب على سلخها، وأقمنا وليمة أشبعت أهل قريتي.
كنت سعيدا، حتى عندما علم المختار بفعلتي وأمر بجلد رأسي، لإيماني بأن أهل قريتي لن يسمحوا له بذلك.
الشباب والفتيان والصغار، يضعون أصابعهم في أفواههم ليطلقوا صفيرا يصم آذان السماء.
السياف يرف راسه عاليا، ويهوي بالسيف على رقبـ آآآآآآ . ص 48
تصور القصة حالة الفقر والجوع المتفشي بين أهل القرية (الشعب) بينما ينعم المختار وبقراته (السلطة) بخيراتها من عشب وماء، وفي اللحظة التي حاول فيها البطل أن يستفيد مما سلبته منه (السلطة) وتوزيعه على أهل القرية، ألقى القبض عليه وتقرر قطع رأسه، ولم يندم البطل على فعلته، بل كان سعيدا مسرورا لأنه قدم لأهل قريته ما يحتاجونه من طعام، بينما وقف المقهورون بعجزهم و»دموع القهر تترقرق في عيونهم» لا حول ولا قوة لهم. رغم الظلم والقهر والاستبداد إلا أن الشباب والفتيان والصغار( الأمل) في التغيير يطلقون صفيرهم (إنذارهم) عاليا يصم آذان السماء» ص48.
على الرغم من اقتران أل التعريف بـ (السياف والمختار) و (الشباب، والفتيان، والصغار) إلا أن هذه الشخصيات ظلت غائبة عن الحدث وظلت (الشباب والأطفال والصغار) إلى كائنات غير فاعلة بفعل قوة الاستبداد والقمع.
أما الشخصيات العلمية التي وردة في المجموعة فقد جاءت عرضية دون أن تحمل أي دلالة أو إيحاء.
 البدايات والنهايات القصصية:
يحرص كتاب القصة على تجويد بدايات قصصهم لأنها تشكل عتبة أساسية في النص، لذا تتميز بدايات القصة عند عمار ببراعة الاستهلال والإيجاز وتنوعها مرتبطة بمكونات النص الأخري وتتنوع بدايات قصص المجموعة فتأخذ أشكالا مختلفة سأذكر بعضها منعا للإطالة منها: البداية السردية في قصة حالة قهر معلن والجرذون وانتظار و البدايــــة الحلميــــة:في قصة الكابوس و البدايـــة الوصفيــة: في قصص الجشع والفاتنة و إغراء و البدايـــة الفضائيــة: في قصتي الجلاد والسجين.
أما بالنسبة للنهايات فلا تختلف نهاية القصة عن بدايتها في الأهمية، فهي جزء مهم في عملية بناء القصة، وتشكل نسيجا سرديا متكاملا مع البدايات، وكما تتعدد البدايات تتعدد النهايات، وقد تعددت النهايات في قصص عمار على سبيل المثال لا الحصر منها: النهايــة الوصفيــة في قصة قلق مشروخ و النهايــــة المفارقـــــة في قصص الجرذون والجلاد و الرهان ونهاية الخرجة كما عرفها الدكتور جميل حمداوي بأنها تلك النهاية التي تتخذ العامية أو الدارجة لغة للتخاطب والتواصل كما في قصص الجشع وتحت جسر الداخلية و النهايـــة المفاجئـــة في قصة خوف، كما جاءت نهاياته المفتوحة تنفتح على التأويل والإدهاش.
 اللغة الشعرية:
لم تعد اللغة الشعرية وتشكيلاتها حكرا على الشعر فقط، فقد تداخلت في النصوص السردية كالقصة والرواية والقصة القصيرة جدا والمسرح، وغبرها من الفنون النثرية. فلا يوجد بين مفردات اللغة لفظة شاعرية وأخرى غير شاعرية، وإنما يوجد مبدع قادر على توظيف المفردة وسبغها بثوب الشاعرية. والقارئ الجيد لمجموعة عمار الجنيدي يكتشف جماليات الصورة الشعرية في العنوان الرئيسي للمجموعة وهو أول العتبات (أنْزِفُني مرَّة أُخرى) من خلال التكثيف والإيجاز، وإذا ولج إلى العتبة الثانية يقف أمام شعرية الإهداء «وإلى كل الذين منعهم الكِبْرُ، فلم يبايعوني» فالإهداء ليس لمن منعهم الكِبر فقط، ثمة آخرون لم يذكرهم القاص فحذف ما قبل الواو الاستئنافية تاركا التأويل والخيارات المتاحة أمام المتلقي.
وإذا تجاوزنا عتبتي الغلاف والإهداء يستوقفنا عنوان القصة الأولى (قلق مشروخ) بما يحمله من شحنات انفعالية التي يقول فيها:
«سأظل أسألني:
ـ ما جدوى أن أنْزِفُني مرَّة أُخرى؟!.
فيجاوبني ناقد منتبه لانفعال أسئلتي:
حتى يظل دمك طريا بين يديَّ.
يتشامخ قلقي، وأواصل النزيف». ص10
ومثلها قصة (حالة قهر معلن) ص12
التي جاءت بمقدمة شعرية تأخذ شكل القصيدة الحرة ، مما يعطي القصة انطباعًا شاعريًّا، و كأني بعمار القاص لم يستطع التفلت من عمار الشاعر الذي صدر له خمس مجموعات شعرية.
وقد تعددت مظاهر حضور لغته الشعرية ما بين التشبيهات والصور الوصفية والمجاز والجملة الفعلية...
وقد تجلت الصورة السمعية الممزوجة بحرف الهمس (السين) في قصة (الجرذون):
« تناهى إلى مسامع المدير همسات موظفيه عن الجرذون السمين» ص16
كما تجلت الصورة الصوتية في قصة (الجلاد) مظهرا شدة الألم والقهر « بدأ السوط يئز على ظهور العباد»
ومن الصور الساحرة» أخذتني الحيرة إلى متاهات التشتت» ص52
ومن الجمل الشعرية قوله: «كان النورس يتسامى على جراحه، ويحلق عاليا، عاليا، فوق السحاب».ص24
«مع انبلاج شقشقات الفجر الأولى» ص88
 
 التكثيف:
بعض القصص عند عمار تحتاج إلى تكثيف وفيها حمولة زائدة يستطيع النص من التخلى عنها كما جاء في قصة (قصيدة أخرى من أجلها) ص59 و (موت مواطن بسيط) ص41 وغيرها.
إجمالا، جاءت قصص المجموعة تطرح قضايا من المعاناة اليومية، وتكشف عورات المجتمع والمسكوت عنه بسخرية ممزوجة إلى حد البكاء. تستحق الدراسة والتحليل كما تحتاج تجربة الشاعر والقاص عمار الجندي.